تخيلت حجم السذاجة التي سوف اتركها معلقة بعد سؤالك المريع و البارد يا أبتي.
إلحاحك علّي أجبرني على الكذب معك, بلا تردد أو توجس, أجبتك حينها من حيث أدري ولا أدري.
- نحن بخير!
تذكرت ذلك اللمعان الذي يبرق من عينيّك و أنت تؤانسني في وحدتي صغيرا ضامني في صدرك و تقول لي هامسا :
- لسى الدنيا بخير.
تمنيت حينها لو كنت تعلم يا أبتي كم من مرة احتجت بعد أن تخلصت من وطأتك أن اكون حيوانا مفترسا حتى اقنع الاخرين اني عاقلا سويا. كم من مرة احتجت أن اكون عصيا و ظالما.. متمردا و عاتيا فقط وليس أكثر من محاولة للتعايش و الركوض في زحام البشر الهائم و البائس.
و أنتَ تنتظر مني كلمة تفتح ذلك الجرح الذي يوجعني, لاحت لي من نافذة الترام (القطار) الذي اجلس فيه وأنا احادثك هاتفيا من إحدى عواصم الدول الاوروبية, شاشة تلفاز كبيرة وضعت من اجل المارة لعرض الدعايات التسويقية لشركة ملابس أو فلم جديد وحتى منتجات جنسية رخيصة. فتاة مجلات ذات شعر أسود شبه عارية تعتليها إبتسامة تملئ شدقيّها و على يسارها المسجد الأقصى و بعض البيوت التقليدية الفلسطينية المصنوعة من العرق و الآهات و الدموع و الحسرات و الدماء, وفي رحم ذلك السحق/ الإعلان جملة مشحونة بالنكات و التأويلات الخداعة :
Zapraszamy na urlop w izrael - استمتع بقضاء إجازتك في إسرائيل
عجزت أن افهم, قهقهت في سري بصوت خفيف حتى لا تسمعني و تسألني عن السبب وتحاسبني. الحقيقة المطلقة والوحيدة المتناقضة لكل شيء هي أنني لم اعرف أية ردة فعل يجب أن أتخذ حيال ذلك الاعلان المضحك/المبكي!
شيء ما ربط لساني و أنا لي رغبة قوية في أن اصرخ في وجهك و اعاتبك على تربيتك لي! على البصيرة التي ارشدتني و دللتني بها نحو الصواب و الخطأ, على إحساس تأنيب الضمير, على الطيبة, النخوة, الشهامة و على جميع الأنظمة و القوانين التي علمتني إياها ولم تستطع بعظمتها أن تصون القيم و المبادئ الإنسانية العليا. على كل لحظة قضيتها في حياتي وأنا معتقدا ان الدنيا ما زالت بخير, و نفوسنا متصالحة و سوية و متزنة, كل موقف ارتطمت به في حياتي وكانت مبادئي هي اولوياتي.
الم تعلم عن الهولندية التي طعنت زوجها حتى تتخلص من غنائه؟ او الاوغندية التي اكلت جثة زوجها لانها طلبت منه خاتم ولم يلبي طلبها ونفذت نذيرها و وتهديها بذلك.. ام عن الزوج الايطالي الذي قادته الغيره لوضع صور خليعة لزوجته في الشارع وعرض (خدماتها) ب 16 دولار قابلة للتفاوض؟ ام عدد الشهداء أو الضحايا أو الأسرى أو المطاردين أو الجرحى او الذين يصحون على صوت المتفجرات والقنابل في فلسطين و العراق ؟ الثكالى و المنكوبين و اليتامى و الارامل و المعطوبي من ورائهم؟ و عن الذين يموتون جوعا من التشرد و الجوع و الشتات وفي شمالهم أثرياء كرشتهم تفوق التخمه وبقايا طعامهم تنعم بها الحاويات!! أو الذي يستمتع بساديته و ديكتاتوريته و بربريته و يريق الدماء ليرضي حالته النفسية المختلة ويموت من يموت من تبعات قهره وسلطته.
آه.. كفاك تجريحا لي و حماقة يأبتي..عن اية عدالة و سعادة كنت تسقيني بها حليبي؟ وفجرت بها ينابيع الظنون و الأوهام الغارقة في العتمة تلك؟
نفوسنا.. لا تعرف الطُهر والصُلح !!
يأتيني صوتك من سماعة الهاتف والدنيا تركض من خلال النافذة و تسألني: عما أفكر به في هذا الصمت الموحش والذي يمزقك!
ماذا كنت سوف أقول لك؛ لكي أشرح لك مواجعي التي لا تروى بالكلام؟ أاقول لك أننا بتنا مثل البهائم ننهق لا نفكر إلا في خرائبنا التحتيّة والمفلطحة بنار التأجج والجنون؟ وأننا نخرج من بيوتنا يوميا فقط من اجل البحث عما يشبع غرائزنا حاملين معنا أسئلة كثيرة وإستفزازية تنهش عظامنا كل يوم ألف مرة دون الحصول على إجابات مقنعة ومسكتة!!
وأن آخبرتك بسري و فجيعتي حول هذا العالم القاحل من المشاعر و الأحاسيس.. ماذا كنت سوف تقول؟
تتخيل لو كنت الآن معي في زاوية الترام, وشاهدت اولئك الذين يقبلون بعضهم جهرا دون إستيحاء وكأن سقف الترام هو سقف منزلهم.. وتقول لي : يأبني.. غض البصر!
ولكن ماذا كنت سوف تقول.. لو علمت أن الفساد هي أكبر أزمة بعد الفقر تعاني بها كل المجتمعات وحتى الراقية منها؟ هل سيكون جوابك: لسى الدنيا بخير ايضا؟.. رحمكَ ربي!!
يالله.. بات الكلام فينا وعنا وعلينا صعبا جدا جدا جدا.. للدرجة التي تقول فيها لنفسك لا وعيا: طز فينا!
-طوووووط.. طوووووط... طووووط.