« إلى التي حملتها أفراس الزمن العاتي على صهوة الغياب هناك بعيدا .. فلتجللك ، سيدتي، بأجنحتها الوديعة سكينة الأبد الكبير »..
على مقربة من المبنى الطيني المحاذي لضفة من ضفتي النهر الكبير تربض " ماما عيشة " وحيدة بلا معيل .. تجلس القرفصاء، بحكم العادة، وهي تنقر بأنامل واهنة على بوابة الأمل الضائع.. تصرخ.. يتردد صدى الاستغاثة في عقر المكان ولا من مجيب إلا في أندر الأحوال..
غزا الشيب جسدها بصلف وعُنْجُهِيَّة وحفرت السنون بلا رحمة أخاديد الزمن الصارم على محياها البئيس..
تمر الأعوام لتزداد تعلقا وارتباطا بالمكان كحبل متين يوثق كيانها فلا تقوى على الانفلات من شرنقة الألفة رغم الصعاب..
حتى إذا أعياها القعود وضاقت درعا بروتينية هذا الحيز المكاني المرعب أو استبدت بها الحاجة للقمة تسد بها رمقها وقطرة سائل تروي بها غلتها ، كلما قست قلوب الكائنات الآدمية وانغلقت أعين الرحماء وتعطلت الأيادي السخية وغُلَّت، اندفعت تجر أذيال القهر بخطى وئيدة ملتحفة شملة المتاهات عبر الدروب الشائكة في ربوع القرية النائية، علها تصافح وجوها جديدة وأماكن لم تألفها من قبل .. هي التي تدرك أن في التغيير والجدة استمرارا للحياة..
تتداعى الشمس للأفول فتعود أدراجها قانعة بما تيسر لها من الزاد وقد أثقل السير ممشاها.. تعود إلى خرائبها المتداعية السقوف لتنبطح على فراش بال بين ضراوة الحيطان وسكون ليل يبدو لها بلا نهاية، خانقا إياها بكوابيسه المزعجة حتى بزوغ الفجر..
ماما عيشة لم تكن بمنأًىً عن الملمات وعوادي الزمن، خاصة وأنها بلغت من العمر عـتيا وما كان لها من معيل يسهر على راحتها، فكان بديهيا أن يكون جسدها الواهن مرمى لعديد من الأمراض والأوجاع . وقد يُلزمها ذلك العكوف ببيتها الليالي الطوال في صبر وتحمل وأناة ، حينها تضطر نساء القرية إلى عيادتها ومنحها بعض الأعشاب أو بعض الأدوية الطبية أو في الحالات المستعجلة محاولة حملها إلى المشفى، إلا أنها كانت ترفض كل ذلك وتصرخ بملء فيها :
- أيتها المجنونات.. دعكنّ من هذا.. الشافي هو الله..!!
تحت الشجرة الوارفة الظلال أمام رسوم مأواها الطيني ، كانت تجثم رابضة كالصخرة الصماء .. تحاول بين حين وآخر التخلص من واقعها المقيت.. تولي الأدبار ممتطية صهوة الذكرى هناك بعيدا.. هي على يقين تام بان الذكريات السعيدة قد تستحيل إلى بلسم للجراحات الماضية والآنية وإن للحظات عابرة.. وكيف لا ؟ وهي تجد فيها بعض العزاء والطمأنينة والمؤانسة .. وربما وجدت فيها حافزا للنهوض من جديد كطائر متهالك ينهض مترنحا من أوجاعه، ودافعا للتخفيف من سطوة حاضر مستبد وغياهب مستقبل مجهول..
ذكريات تزحف بها إلى الحقول الشاسعة اليانعة، على مقربة من ضيعة والدها الفلاح وهي بعد طفلة في عمر الزهور.. تعانق الفراشات وتنعم برحيق الزهر وتحتمي بظلال الدوح في عز الهجيرة .. تمرح مع ترانيم الأطيار وهي ترعى عنزتها الصغيرة الوديعة التي لا تكاد تفارقها .. تضاحكها في دعابة وترتسم على شفتيها الرقيقتين ابتسامة البِشْر الطفولي.. تتعلق بآمال بعيدة في أن تصبح مثل والدها ووالدتها وأشقائها وشقيقاتها الذين بلغوا مبلغ الكبر وتفرقوا في أرجاء الأرض ونالوا الحظوة .. لكن الكل قضوا نحبهم مع مرور الزمن ، فألفت نفسها اليوم وحيدة في دروب التيه تتجرع آلام الضياع والوحدة القاتلة..
ماما عيشة.. اسم يتردد على الألسنة كلما تـناهت إلى بؤرة الأذهان صورة من صور مآسي الدنيا من بؤس وحرمان وقلة حاجة وعجز وسوء حظ.. بل أيضا تلك الصورة من صور الهرم والشيخوخة .. الصورة التي تُذَكّر بماضي الأسلاف والأجداد بعد أن اشتغل الرأس شيبا وامتد بها العمر إلى أقصاه ..
في لحظة من اللحظات ينتابها يأس مرير فيسائلها شيطان النفس اللوامة :
إلى متى يا عجوز...؟ ألم يحن رحيلك الأبدي بعد...؟ كيف تجرئين على التمسك بخيوط واهية وما عاد لك من خل أو حميم ..!!
ورغم ذلك تصر على التحدي والاندفاع فتحاول أن تنهض وتستقيم وتستجمع أشتاتها بكل ما أوتيت من قوة ما بقيت فيها نسمة من حياة..
- ما ما عيشة.. ما ما عيشة..
تترامى إلى مسمعها من شفاه بريئة لأطفال في غدوهم ورواحهم من وإلى المدرسة.. يتوقفون بمحاذاتها .. يداعبونها فتمازحهم.. يتقاسمون معها قطعا من الحلوى أو الشكولاطة أو البسكويه.. تهش عليهم بعصاها وهي تضحك.. تروي لهم حكايات قصيرة عن الأغوال والقصور الخيالية.. بعضهم يصغي إليها باهتمام بالغ وآخرون يسخرون ، تستشيط غضبا فتنهال عليهم بعكازها.. تصرخ في وجه الجميع :
- أيها الأوغاد .. أتظنون أني عاجزة ..؟ سأصرعكم جميعا..!
تحاول النهوض فتـتهاوى إلى الأرض منبطحة.. يولون الأدبار وقد تعالت قهقهاتهم من بعيد..
لمجرد أن يتراءى لها شبح هؤلاء الصغار، تـنتابها حسرة ممضة وقطرات دمع حارقة تنساب على خديها المتورمتين.. فتنكفئ على نفسها وقد استبدت بكيانها مرارة الحرمان.. حرمان من وجوه ملائكية من دمها ولحمها، لم تحظ على مر السنين وبعد أن طال بها المقام، بالتملي بطلعتها..
بالرغم من أن ماما عيشة كانت مثالا صارخا للوحدانية والانطوائية في عقر مربضها الرهيب ، فقد كانت شديدة الحرص على الاختلاط بنساء القرية في أفراحهن وأتراحهن.. وفي كل المناسبات والأعياد.. كن ينبهرن بفكاهاتها وأحاديثها وزغاريدها وحكاياتها القديمة ..
وأغلب الظن أنها كانت تجد في ذلك فرصة مواتية للتخلص من ضيق الوحدة وشباك العزلة الخانقة آو تعويضا لفرص ضائعة ذرتها أعاصير الأيام الخالية..
لشدة ارتباطها بمجثمها الطللي ، ظلت وفية له على مدى سنين طويلة ، بل منذ إطلالتها الأولى على الدنيا وما حولها.. كان بالنسبة لها بمثابة المأوى الأمثل والحضن الوديع.. وكيف لا، وهو مربط الأجداد من قديم العهود..؟ فهي لا تبرحه إلا فيما ندر ثم تعود إليه من جديد في اشتياق لا يُضَاهَى..
في مرات عديدة، تقاطرت عليها من أهل القرية وساكنة المهجر دعوات لمقرات ودور ملائمة للسكن كهبة لها، بعيدا عن ظلمات الخرائب ، لكنها كانت تأبى وتصر على التعلق بمضجعها الأليف كائنا ما يكون..
في إشراقة تلك الصبيحة الباردة كالثلج كانت الأجواء ساكنة وهادئة كالموت .. خيم على كل شبر من أرجاء البلدة الصغيرة صمت غريب أثار التساؤلات في حيرة غير معهودة .. حتى الطيور احتمت بأوكارها ولزمت صغارها.. واندفعت القطط والكلاب إلى مخابئها وانقطع المواء وتلاشى النباح ..وشيئا فشيئا ، وقرص الشمس يتداعى للغروب، أخذ دبيب الكائنات الحية يقل ويقل لتزداد وحشة السكون الذي يسبق العاصفة ضراوة..
بعد منتصف الليل بقليل اهتزت أركان القرية وارتعدت الفرائص وضاقت الصدور وتعالت الصيحات إثر أعاصير ورياح قوية مزمجرة قصمت ظهر السكينة.. تطايرت الأكواخ والبيوتات القصديرية وانقلعت الأشجار وقذفت بها الرياح إلى الفراغ .. تلا ذلك رعود وبروق مدوية تصم الآذان لتفسح المجال لأمطار قوية ازدادت غزارة في لحظات خاطفة..
هاج النهر الكبير وماج بسَيْـله كالوحش الكاسر وفاضت مياهه المائجة واندفع ليجرف أمامه المبنى الطيني وكل الأشياء والذوات إلى منتهاها المحتوم..
بعد بضعة أيام غيض الماء وأشرقت الأنوار واستعادت البلدة المنكوبة أحوالها الطبيعية، واستنهضت هممها وكشفت عن خبايا الطامة الكبرى وتنفست الصعداء .. سعت إلى دفن موتاها وتضميد جراحات الناجين من أبنائها..
توقف الجميع في خشوع أمام مربض ماما عيشة الذي استحال إلى هشيم.. تقدم الأطفال في خنوع إلى مقدمة الصفوف ودمعات الأسى تنسكب على الوجنات الصغيرة ورفعت أكف الضراعة بالدعاء والابتهال والترحم بنبرات شجية متقطعة شاخصين بأبصارهم إلى العلياء هناك إلى السدم البعيدة حيث ترقد ماما عيشة مُجَلَّـلَةً بسكينة الأبد الكبير..