الغموض في الشعر : أكثر من رؤية0

[مشعل الفوازي]

الغموض في الشعر الشعبي ، ظاهرة ارتبطت بالجانب التحديثي بالشعر، وعلى الرغم من أننا تجاوزنا هذه المرحلة ، ووصلنا إلى مرحلة ما بعد الحداثة ، وما بعد ما بعد الحداثة ، إلا أن الحديث عن قضية الغموض في النص الشعري ، لا تزال تشغل بال الكثير من المهتمين بالشأن الأدبي ، وتشعل فتيل الحوارات التي ربما تحولت إلى معارك أدبية طاحنة 0
فمنذ أن بدأت عوامل الانفتاح و التعاطي الإنساني والأدبي مع الآخر ، في العهد العباسي ، عن قرب ، إلى درجة كانت فيها الغلبة للتأثر ، وليس للتأثير 00 في تلك الفترة التي قيل فيها لأبي تمام : لماذا لا تقول ما يُفهم فأجاب ، ولماذا لا يُفهم ما أقول ؟
وأبو تمام ، كان من أول من أشعل فتيل الحوارات بهذا الشأن ، بما أدخله من تراكيب لغوية ، وتوظيفات جديدة للمفردات ، ونذكر في هذا الصدد بيته الشعري الشهير:
لا تسقني ماء الملام فإنني
صبٌ قد استعذبت ماء وفائي

عندما استنكر عليه بعض أدباء عصره أن يستعير شيئاً حسياً لأمر معنوي ، فأرسلوا غلاماً إلى بيته ومعه إناء ليقول له : املأه لنا من ماء الملام .
فقال لهم : ائتوني بريشة من جناح الذل لأغرف لكم بها من ماء الملام ، في أشارة إلى ورود الاستعارة الحسية للأمر المعنوي ، بالقران الكريم في قوله تعالى ((واخفض لهما جناح الذل من الرحمة )) 0
وهو -- بذلك – ينطلق من فهم يرى أن لغة الشعر هي لغة الإشارة ، وهو فهم يقترب كثيراً من مما يراه الجرجاني حول المعني ومعنى المعني ، باعتبار إن (المعني) هو (المفهوم من ظاهر اللفظ، والذي تصل إليه بغير واسطة) في حين أن (معني المعني) هو (أن تعقل من اللفظ معني ثم يفضي بك ذلك المعني إلي معني آخر)0
إذن : منذ ذلك العهد الزاهر أدبيا -- على الرغم -- وربما بسبب ، خاصية التأثر الشديد التي أشرنا إليها -- وقصية الغموض في الشعر ، أشبه ما تكون بكرة اللهب التي يتقاذفها الشعراء ، والنقاد ، عبر المنابر المختصة ، وغير المختصة ، وإن كانت درجة السخونة في هذا المجال تبلغ مداها في بعض الأوقات ، وتخبو في أوقات أخرى تبعا لعوامل متعددة 0
هناك من ينظر للقضية بحياد أدبي على اعتبار أن الغموض في الشعر ، شيء طبيعي ، بل هو ضرورة حتمية ، لمسايرة رتم العصر البالغ التعقيد في كل مناحيه ، ولهذا كان على الشاعر أن يكون شاهد على هذا العصر ، بالكتابة بلغته ، ومجارات تعقيداته ، بينما يرى البعض أن القضية أكبر من هذا التبسيط المخل ، وأن هناك أبعاداً عقدية ، وأفكار دخيلة تتوارى بين المفردات ، ولعل مما ساعد على تكوّن هذه الرؤية وتكريسها، هو استهانة بعض الشعراء ، بالرموز المقدسة ، وتوظيفها داخل النص بشكل غير مقبول ، تحت ذرية تفجير اللغة ، ذلك المصطلح ، والنهج الذي أدخله أدونيس ويقصد به إفراغ المفردات من دلالاتها المستقرة في الأذهان وإسقاطها على دلالات أخرى بعيدة عن مرادها الحقيقي أو بعبارة أخرى إيجاد علاقات جديدة ما بين الكلمة كرمز لغوي أو دال وبين الشيء المرموز إليه أو المدلول 0
و على الجانب الأدبي ، يرى المعارضون لهذا التوجه الشعري ، أنه لا يعدو كونه فساداً ثقافي لا أكثر ، فيما يرى آخرون أنه مجرد ترجمة رديئة لنصوص كتبت بلغات أخرى ، لمجتمعات وثقافات مغايرة 0
المؤيدون لظاهرة الغموض في الشعر ، يرون أنه من الواجب الأدبي ، أن تستعمل الكلمات بمعان جديدة بعد أن تآكلت واستهلكت من فرط الاستعمال ، و أنه ليس من اللازم أن يتفق الجميع على تفسير معين للنص ، فالمفترض أن يأخذ كل متلقٍ من النص ، ما يتفق مع قدراته ومداركه الأدبية ، حتى لو خرج كل قارئ بفهم مناقض تماما للآخر ، بل أن ذلك يعد نجاح فعلي للشاعر ، استنادا إلى مقولة بول فاليري ( الشعر يدعو إلي الصيرورة أكثر مما يدعونا الي الفهم) !
لكن هذه الرؤية المتطرفة أدبيا – من وجهة نظري – التي تتجاوز الغموض إلى الإبهام ، الذي يتجاوز – بدوره – التفكير الشعري إلى التعقيد اللفظي ، قد لا تكون مقنعة إلى درجة كبيرة ، في ظل الكثير من الرؤى التوسطية التي تزن الأمر بموازين أكثر عقلانية ، ونضجا 00 فقديما كان ابن الأثير يرى أن (الشعر هو ما غمض فلم يعطك غرضه إلاّ بعد مماطلة منه).

وفي المشهد الراهن يرى الشاعر اللبناني انطوان رعد أن الإسراف في الغموض كالإسراف في الوضوح كلاهما يغتال الشعر 0

قلتُ أن رؤية بول فاليري متطرفة أدبياً ، لأنها لا تقف على أرضية أدبية أو اجتماعية أو حتى أخلاقية صلبة ، ولهذا نقرأ للشاعر الكبير محمود درويش -- رحمه الله -- قصيدة ، تعلن القطيعة التامة مع القارئ ، الا بشرط تعجيزي :
( لن تفهموني دون معجزة
لأن لغاتكم مفهومة 00
أن الوضوح جريمة !)
لكن هذه القناعة سرعان ما تتهاوى، ليعود الشاعر بنص جديد ، وفهم جديد ، وقناعة مختلفة :
( قصائدنا بلا لو 00 بلا طعم 00 بلا صوت
أذا لم تجمل المصباح من بيتٍ إلى بيت 00
وإن لم يفهم البسطاء معانيها 00
فأولى أن نذريها للريح )

في الشعر الشعبي ، كانت الظاهرة في بداياتها مرتبكة ، مثيرة للكثير من التندر ، لكونها بدأت من حيث انتهى الآخرون لغويا ، ولا زلنا نتذكر ( رصيف الشمس ) و ( خبز النافذة ) حتى ألان !

لكننني أعتقد أن الوضع تغير كثيراً خلال العقدين الماضيين ، وهو ما يستحق أن يطرح بكتابة مستقلة 0

 

[قايـد الحربي]

مشعل الفوازي
ــــــــــــــ
* * *


أرحْبُ بكَ مُجدّداً ،
وَ بِالوَضّاءِ منْ فِكركَ .

تَطرحُ هُنا قَضيّة طَالمَا أقلَقَتْ المُتابِعيْنَ وَ المُهْتَمّين بالشّعر وَ الأدبِ عمُوماً .


فيْ أوّل المَطَر ، رَبطتَ الغُموضَ بالتّحديْث ...
إنْ كانَ التّحديثُ المَقصُود بالغُموضِ يختصّ باللفْظ فإنّ ذلكَ الغموْض لا بُدّ أنْ ينْطليْ
عَلى بيْتٍ أوْ قصيْدة في الشّعر الجَاهليّ لغرَابة وَ غموْض ألفَاظهَا ..
لذلكَ - أجزمُ - بأنّ الغُموضَ صِفةٌ مُلازمَة للشّعر فيْ كُلّ زَمانٍ وَ مكَانٍ حلّ فيْه .

تحدّثتُ عنِ الغُموضِ فقلْتُ :

لم تكن قضية الغموض حديثة الشعر ، بل مُتجذّرة بجذوره الأولى
و عن ذلك تحدث النقد القديم مُسهباً و مُقسّما ..
و رآه بعضهم شرطاً من شروط الشعر إذ " استحسن الجرجانيّ الغموض
في الشعر وليس بأي غموض، بل ذالكم الغموض المبني على التعقيد
الفني الذي ينم عن قدرة فنية فذة، فرأى أن وضوح المعنى لا يتعارض
مع المعنى اللطيف الذي يتوصل إليه بشيء من التفكير "
ويؤكد الجرجانيّ " أن الصورة لا بد أن تتميز بشيء من الغموض من خلال
تباعد أطرافها مع كون هذا التباعد مقبولاً عقلاً ولذلك فعبد القاهر يشبه هذا
النوع من الغموض في الصورة والغوص على معناه بالجوهرة النفيسة داخل
الصدفة فلا يحصل عليها إلا ببذل الجهد لشق هذه الصدفة فيبعث الطلب
الممزوج بالمشقة في النفس فرحاً وأنساً إذا ما تحصّل المطلوب "

عندما سئل أبو تمام بـ :
- لماذا تقول مالا يُفهم ؟
أجاب بـ :
- لماذا لا تفهم ما يُقال ؟

هنا أسّس بإجابته قاعدةً أخرى لقراءة الشعر ، تختلف عن تلك المُبَاشَرة
بالفهم التي أنتجتها المُباشَرة بالقول ...
لأنّ الشعر كائنٌ حيّ لا يمكنه إلاّ التعايش مع زمانه و في مكانه ، وفي هذا
العصر المليء بالنظريات و المدارس الفكرية كان لزاماً على الشعر أنْ يتجرّد
من الوضوح الفاضح و يكتسي بالغموض الواضح ليواكب الحياة و به نحيا .

عنِ القَائليْنَ بـ :
" استهانة بعض الشعراء ، بالرموز المقدسة ، وتوظيفها داخل النص بشكل غير مقبول ، تحت ذرية تفجير اللغة ، ذلك المصطلح ، والنهج الذي أدخله أدونيس ويقصد به إفراغ المفردات من دلالاتها المستقرة في الأذهان وإسقاطها على دلالات أخرى بعيدة عن مرادها الحقيقي أو بعبارة أخرى إيجاد علاقات جديدة ما بين الكلمة كرمز لغوي أو دال وبين الشيء المرموز إليه أو المدلول "


أتسَاءلُ :

- مَا هُيَ [ الرمُوز الديْنيّة ] المُسْتهانُ بهَا وَ قبْل ذَلك مَا هُوَ التَعريْف
لِمُصطَلح [ رَمزٌ ديْنيّ ] ؟

وَ أسألُ أيضَاً :

- ألَيْسَ اللفْظ سَابِقُ الأدْيانِ بالزّمَانِ وَ الوجُود ، فكِيفَ باللاحِقِ أنْ
يُؤطّر وَ يُقيّدَ السّابق ؟

:

وَظِيفةُ الشّاعر أنْ يُوجِدَ علاقةً جديدةً بيْن الألفَاظ وَ أنْ يَأخذَ بيَدهَا
مِنَ هُدوْء القَوامِيس إلى ضَوءِ الفَوانِيس ، وَ مَا الألفَاظُ الدّيْنيّة
- مَع إنكَاريْ لهَذا المُسمّى - إلاّ مِن ضِمن تلكَ الألفَاظ وَ يَستَحيلُ
إخراجهَا وَ تَقليْلهَا بِاسْتقْلالِهَا .

:

الأستاذ : مشعل الفوازي

لكَ الشّكر وَ لحضُورك باقاتٌ مِن النّور .

 

[م.خالد الدوسري]

الرائع: مشعل

مقال شامل استمتعت بقرائته رغم الجدل المستمر حول هذا الموضوع الى مالانهاية

وأذكر أن الرائعة: أصيلة المعمري طرحت موضوع هنا (في أبعاد) يدور حول القضية نفسها

وذكرت 7 أسباب رئيسية تفسر ظاهرة الغموض في الشعر الجديد:

1. الشعر هو ملهم الفنون جميعا والفن لايكون الا بالرمز.
2. الشعر عبارة عن تساؤل وبحث دائم وليس إجابات وحقائق معروفة مسبقاً.
3. الغموض يمنح القاريء فرصة إبداع النص من خلال التأويل.
4. رمزية الكون وغموض ظواهره.
5. التماشي مع عصر غير واضح وأكثر تعقيداً من ذي قبل.
6.خصوصية لغة الشعر وتميزها عن اللغة المعجمية وعدم تقيدها بالعلائق السائدة والمعاني المباشرة. أعني أنها لغة جديدة أو لغة داخل لغة بالأصح.
7. الوضوح في الشعر يؤدي الى طرق أبواب معاني تم طرقها في السابق!

وبالنسبة للمتلقي فلم يعد مهما أن يفهم مايقال لأن الشعر ليس رسالة ولاهدف من الإبداع سوى الإبداع

فالشعر هو تعبير عن الذات في المقام الأول سواءاً تواصل القاريء أم لا و ليس له غاية لأنه بحد ذاته غاية. كما أن روعة الشعر تكمن في خلوه من أي غرض أو غاية مبيته

فليذهب فهم القاريء الى الجحيم اذا لم يزلزل الشعر أرض الدهشة من تحت أقدامنا !

وألف شكر على روعة طرحك

خالد

 

[خالد صالح الحربي]

*
الغمُوض شيءٌ جميل جِدّاً إن كان مُبَرّراً ~ وسيّءٌ جداّ إن كان عبثيّاً .
لا زِلنا نقرأ بعض النُّصُوص الغامضة بشكلٍ مُستَمِرّ وفريد ومتطوّر جِدّاً .. بعد كُلّ قراءةٍ وقراءة .
أكتُب هذا الكلام وأنا أتذكّر [ كيمياء الغيّ ] لفهد عافت مثلاً .. وهيَ هُنَا كمثال فقط .
ما أُلاحِظُهُ و يُزعجني بشكلٍ كبير هو مُمارسة بعض الشعراء للغموض لمجرّد الغموض
وَ خلط بعض النقّاد بين مسألتي الغموض والرمزيّة .. وهذا الأمر قد تكرّر في أحد المسابقات الشعريّة الجماهيريّة .

ختاماً بكِ ومعك يامشعل الضّوء
يُصبِح النّقد أجمل وَ أكمَل .

 

[خالد الداودي]

الاستاذ/ مشعل الفوازي

بعد التحيه ،،

وبعد مداخلة الصديق/ قايد الحربي
اقول:-
الرمز+الغموض= الحداثة المظلومة في مسماها اولا
واقول :-
مثلما قال محمود درويش :-

هنالك غيمُ شديد الخصوبة
لابد من تربة صالحة.

اجد من الصعب احتواء الثلاثة او تجزئتهم لإحتوائهم
لأنه من الصعب ايجاد تيار شعري متبلور في خصائصه الفنيه وملامحه لدرجة الاقناع وانما سيعود بنا ذلك الى تعدد اتجاهات ومن ثم توجهات لسبر اغوار نصوص شعراء كان لهم الفضل في تحريك الراكد بتفجير اللغه

وحينما اقتبس :- شيئا من درويش
اقول بأن على الناقد والمفكر التعاطي مع معطيات التجارب بشيء من الحيادية والعمق

اما بخصوص المسابقات
اعتقد انه يجب ان لا نسلط الضوء الحاد على محكميّها أخذا بآليه انتقائَهم قبل انتقائِهم

شكرا

 

[مشعل الفوازي]

الأحبة جميعا:

سعيد – والله – بمداخلاتكم الكريمة التي أضافت لي الكثير، وفتحت أمامي الكثير من دروب المعرفة 00

فقط أستأذنكم لعدم التواصل معكم في هذه الأيام ، بفعل الكثير من الانشغالات الخارجة عن الإرادة ، وسأعود لمصافحة وعيكم بمجرد التحرر منها إن شاء الله 00


تحياتي ومحبتي للجميع 0

 

[إبراهيم الشتوي]

وهناك من يخلط بين الغموض والابهام والرمز..

ومن المعروف أن الغموض صفة خيالية بعكس الابهام الذي يحمل صيغة لغوية نحوية ..

إذ أن الغموض يحثني كمتلقي البحث والتأمل والأستشراف عن منبع الفكرة ومصبها ..

في استقراء وتحليل لتلك الدلالاات الذي أراد الشاعر إصالها لنا ..

فليس كل غموض سلبي ولا كل مباشر إيجابي .

شكرا لك أيها الباسق الوارف .

 

[مشعل الفوازي]

مرحبا بك أيها العقل الذي أحبه كثيراً / قايد الحربي :
أتفق معك في أن الغموض صفة ملازمة للشعر وأن الشعر الجاهلي مليء بهذه الخاصية، لكني كنت أتحدث عن الشعر الشعبي، الذي أكاد أجزم انه لم يعرف الرمزية والغموض في عهوده الغابرة إلا في قصيدة تركي بن حميد الشهيرة :
يا راكب اللي ما يدان الصفيري == هميلع من نقوة الهجن سرساح
إلى آخر تلك القصيدة التي كانت تتحدث عن كائن أسطوري متخيّل، حتى أن ( المتلقي ) في ذلك الزمن لم يعرف ماذا كان يريد أن يقول ذلك الشيخ، وهو الأمر الذي تلقفه خصمه الشيخ بن هادي واتهمه بالكذب مازحا 00
ولذلك ربطت الغموض بمرحلة التجديد وذلك على سبيل التقرير وليس الوجوب 0

بقية مداخلتك الكريمة أتفق معها ، وأضيفها إلى مفضلة عقلي لأستفيد منها 00
ألف شكرا ومحبة لك 0