العبث بالمصطلحات سلسلة من المقالات، جاءتني فكرتها مع نشوب الحرب الفكرية على موائد الإعلام، حول مسألة الدولة العثمانية بين مؤيد ومعارض ساعتها لاحظت أن هناك يد تعبث بالمصطلحات لغوية تارة وسياسية تارة، وشرعية تارات.. وعبثها هذا صنع موجة من الغبار جعلت من الصعوبة بمكان أن يدرك المرء ما فوقه وما تحته ومن معه ومن ضده.. وما الصواب في كل هذا وما الخطأ؟.. لكن شاء الله أن تكون البداية مع مسألة أخرى وهي التطبيع، على أن أتبعها إن شاء الله بما أثير من مصطلحات حول الدولة العثمانية والعبث بمصطلحات مثل مصطلح الفتح والاحتلال والخلافة..ألخ..
والعبث بالمصطلحات، والخلط بينها لإحداث بلبلة فكرية في المجتمعات المسلمة، يؤدي حتماً إلى الخلاف والشقاق والابتعاد عن الميدان الرئيس للمعركة إلى معارك الحواري الجانبية، وهو هدف كل عدو لهذه الأمة المرحومة..
ومن هذه المصطلحات التي يتم العبث بها دينياً: التطبيع.. فالتطبيع مثلاً مصطلح سياسي معاصر ، يفهمه أهله على أنه عودة للحياة على طبيعتها بين فريقين متحاربين أو متخاصمين سياسياً..وبهذا التعريف المجرد لا يمكن إصدار حكم شرعي على التطبيع بالحل أو الحرمة، ولابد من تفصيل.. لكنك تجد المفتين في هذا الزمان يجعلون كلمة التطبيع المجردة كافية لإصدار الحكم الشرعي بالتحريم والتكفير أيضاً عند الغلاة منهم.. فمثلاً مصطلح تعويم الجنيه مصطلح اقتصادي، فيحنما يأتي مفتي ليقول بحرمة التعويم لابد أن يذكر أدلة شرعية على التحريم لا أن يعتبر المصطلح محرماً بمجرده.. لكن بسبب مواكبة استعمال ذلك المصطلح لنكبات الأمة المتتالية، فقد صار مصطلحاً سيء السمعة عند معظم العوام والخواص .
لكن حينما يأتي الموقع عن الله ليفتى في مسألة التطبيع بين أي دولة مسلمة وبين دولة اليهود التي أنشئت في قلب ديار الإسلام بالتأمر والغصب والخيانة.. قل ما شئت.. فعليه أولاً أن يتحرى القصد من عملية التطبيع وهل هي مجرد تبادل تجاري واتفاقيات دبلوماسية، أم أن الأمر يصل إلى محظورات شرعية كالموالاة التي نحن بصدد بحثها هنا للفصل في الحكم الشرعي على مسألة التطبيع..
ما هي الموالاة؟
الموالاة : هي النصرة والتأييد.. والموالاة لأعداء الله والإسلام حرام قطعاً، وقد تصل للكفر والردة عن الإسلام لو كانت الموالاة حباً لظهور دين الكافرين على دين الإسلام.. أما لو كات موالاة لمصلحة دنيوية فهي كبيرة من الكبائر. أو تكون من باب المداراة للأعداء فتعود لفقه وتقوى الإمام المسلم وحسابه على الله.
وهذا التفصيل في مسألة الموالاة، يفرق لك بين أهل السنة والجماعة وبين الخوارج قديماً وحديثاً..
فالخوارج يحتجون على تكفير الناس بمسألة الموالاة بدون تفصيل ليصلوا إلى هدفهم المنشود، وهو الخروج وسفك الدماء واستحلال الفروج.. وشيخ الإسلام لخص لك دين الخوارج في جملة ذهبية حينما قال رحمه الله وقدس روحه: الخوارج دينهم المعظم مفارقة جماعة المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم..
أحفظ هذا يرحمك الله وعض عليه بالنواجذ.. فيسلم لك دينك ومعتقدك من شبه الخوارج قديماً وحديثا..
نعود لمصطلح التطبيع والموالاة.. فالتطبيع قد يكون فيه موالاة فيحرم بالقدر الذي دخلت فيه تلك الموالاة، وقد يخلوا من الموالاة ويكون لمصلحة يراها ولي الأمر المسلم فلا تكون إثماً فضلاً عن أن تكون كفراً.. بل قد تكون ضرورة ملحة..
وسبب الخلط بين المصطلحات، أن كثيراً من المتصدرين في الدين هم أصلاً متحزبين ولهم أرتباطات حزبية سياسية، ويتحركون بدافع تلك الارتباطات ، لا بدافع تحرير المسألة تحريراً شرعياً مؤصلاً بالكتاب والسنة
ومجرداً عن الهوى .
فتجده يتكلم عن التطبيع ويجرمه كله بلا تفصيل لغرض حزبي، وحاله في هذا أشبه ما يكون بحال أصحاب الأحزاب القومية العالمانية، التي تجرم التطبيع مطلقاً مع كونهم قد طلقوا الدين بالثلاثة.. والسبب نفس السبب.. التعصب للمبدأ الحزبي الجاهلي لا للحق..
والشيخ الحزبي الذي يتكلم في التطبيع بلا تفصيل ولا تأصيل شرعي لا ينظر إلى التاريخ .. لا ينظر إلى أن القدس ظلت محتلة من الصليبين قرابة التسعين سنة، فكيف كان تعامل دول الإسلام مع تلك الدولة المحتلة؟ وهل كون وجود علاقات يحتمها تواجد تلك الدولة المحتلة لأولى القبلتين وثالث الحرمين، هل كون ذلك كذلك أننا نسينا أرضنا وتهاونا مع عقائدنا وثوابت ديننا الحنيف؟.. وهل كان صلاح الدين مطبعاً مع الصليبين وهو يعقد معهم الاتفاقات ويقرهم على أراضي سلبوها من ديار الإسلام ويتفق معهم على تأمين الطرق وحماية المارين، هل منعه هذا من أن يصيح صيحته الشهيرة: دعونا نزيل الهواء الذي يتنفسونه.. ومات رحمه الله وقد أقرهم على عكا وغيرها من دول الساحل واحتفظ هو بالقدس الشريف..
وهل لو عاد الشيخ الحزبي لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وطبق نظرية التطبيع على حاله صلى الله عيه وسلم مع اليهود الذين عاش هو بين ظهرانيهم.. فماذا كان سيحكم على هذا الوضع؟.. مات النبي ودرعه مرهون عند يهودي.. وأكل من ذبيحة اليهودية المسمومة.. هذا بالرغم من أن ما فعله عليه السلام بمن غدر من اليهود من إجلاء وتشريد لم ينساه اليهود إلى اليوم.. وهم يرددون يا لثارات خيبر..
وماذا كان سيقول في صلح الحديبية مع مشركي مكة، ودخوله مكة معتمراً وهي تحت حكم الكفار؟
لكن الشيخ الحزبي لن يغني للطبيع إلا حينما يتصدر حزبه للحكم .. ساعتها يصير أبناء القردة والخنازير زمن المعارضة للدولة هم عزيزي شيمون بيريز!!
والحل الذي يخرجنا من تلك البلبلة الفكرية هو في تحرير مقاصد المصلطحات..
ينبغي أن نحرر المقصود من التطبيع مع دولة اليهود.. هل هو من الموالاة المحرمة أم لا؟.. وهل هو هدنة لصالح المسلمين وخطوة في سبيل تحرير الأرض أم لا.. كما أن صلح الحديبية مع الكفار جاء بعده فتح مكه.. فوضع الأمور على المحك الشرعي يرفع النزاع ويقضي على البلبلة.." فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا"
هل نحن نصالح ونعقد الاتفاقيات مع دولة اليهود ونحن نحلم باليوم الذي سنزيل فيه الهواء الذي يتنفسونه؟ أم أننا نعقد معهم الاتفاقات التي سيزيلون هم بها الهواء الذي تنتنفسه نحن؟!.. هذا هو الفيصل..
وإلا فلماذا لا يتهم عوام اليهود في الدولة اللقيطة زعمائهم المطبعين مع المسلمين بالخيانة كما يحدث العكس؟..
لأنهم يثقون في أن هدف الجميع في النهاية حكام ومحكومين هو من النيل للفرات.. فيأتي هذا بالحرب أو يأتي بالسلام لا يهم ..
تماماً ـ مع الفارق العظيم ـ كما كان يثق قديماً عوام المسلمين في أبطال الإسلام من أمثال نور الدين الشهيد وصلاح الدين رحمهما الله.
والتاريخ يا سادة لا يرحم ولا يحابي أحدا.. والكل راع، والكل مسئول عن رعيته.. فسيسأللك الله عن رعيتك سواء كنت حاكماً أو محكوماً.. فليحضر كل منا للسؤال جواباً..
***