وافترقنا يا سلمى ، حشرتُ في ذاكرتي كل أمسياتنا .. حتى القمر الذي أطعمناه ضحكاتنا .. والأمكنة التي كانت تعيش من أجلنا ، حملتُ حقائبي .. لم تعلق بها رائحة المطارات .. لكنها مهووسة بالرحيل .. بالهروب من مرارة الوداع .. من تفاصيل حبنا ، أبيع نفسي لجشع الوحدة حيناً .. ومصاحبة النساء حيناً آخر ، كنتُ أتمنى خيانتك .. لأنسى كل أوجاعي ، لكن قلبي موقوفاً عليك .. على صوتك وملامحك ، إني رجل يستحق الرثاء ، فشلتُ في الحب .. وفي الخيانة فشلت .
تذكرين أم جابر .. المرأة التي تصافحها السماء كل صباح .. وتعيش الملائكة في حديثها ، وجهها ضاحك كأنما في داخلها طرفة لا تنتهي ، قلتُ لها وهي تتناول حفنة الريالات من يدي .. ادعو لنا بالزواج يا خالة ، مضت مبتعدة وهي تدعو لنا بالرضى .. غضبت منها حينها ، بعد سنين من الألم والسخط .. علمت أن طيور السعادة تسكننا حين نُرزق الرضى .
وتذكرين يوم تصدع كوب الشاي ، لعله لم يحتمل روعة حبنا ، غيرته من شفافية قلوبنا التي لا تواري لوعتها كزجاج نقي ، شظاياه تناثرت ، لكن شظية لئيمة تجرأت على طيبة إهابك ، انغرزت فيه كعدو شرس .. انحنيتُ أنا والمساء .. لنسكت ثرثرة الدم .. رقيق هو كروحك .. لم تزل فيه رائحة الدعوات وتسابيح الصلوات .. ضوء أحمر يشع بالدهشة ، من زمن بعيد وهو مخبوء لا يرى عالمنا الموبوء .
مضينا يا سلمى ، مضت المواعيد التي تلقينا على قارعة الوقت كجمر مشتعل ، تجعل قلوبنا قطعة لحم مهترئة يمضغها كلب الوساوس والظنون ، نرسم اللقاء قبل اللقاء .. والحديث قبل الكلام ، تجعل منا سمكة تتقلب في سرير الماء وتغازل الضوء برقصة جسدها الرشيق ، مضت ثورة الغضب الكبير لأسباب هينة .. كأن تتأخري عني قليلاً .. كأن تطيلي الحديث مع صديقتك ، أو تتركيني مصلوباً على مشنقة مساء لا أمل فيه لاتصالك ، كان لي قلب ليس فيه سواك ، الآن لديّ عدة قلوب .. أعذبها الذي يأتيني كل مساء .. أتحدث معه عنكِ .. عن شوقي وحنيني .. عن حبنا وفجيعة فراقنا .
شكراً لك سلمى .. ما زلتِ تسألين عن عبدالرحيم .. هكذا يخبرني الأصدقاء ، اشعر حينها بسيارة عريس تجوب داخلي بزهورها وزينتها .. وزغاريد النساء تتلبس دمي كجنيّ شقي ، أريد أن أقذف حجر يصل إلى كبد السماء .. فتتلفت وتراني أقفز بفرحتي وسعادتي .. أقول لها كم أنا سعيد .. فسلمى تسأل عني .
أنا بخير .. عرفتُ أن الدنيا قطعة بسكوت تغطيها شوكلاته شهية .. داخلها منفوخ بأوهام ومحشوة بحبات لامعة شديدة المرار ، بعض أيامي أعيشها كرجل عجنته الصحراء .. ليلي تعوي فيه ذئاب الحنين ونهاري شمس ثرثارة لا تعرف الصمت حتى تموت ، وبعض أيامي كرجل بحر مسكين .. سنارته كفيفة لا تهتدي لأفواه السمك .. كلما صعدتُ من غوص تذكرتُ أن اللآلئ ليست لمثلي ، وايام كرجل تربى بين الصالحين .. الاستغفار حلوى تذوب في قلبي وأتذوقها في فمي .. أود لو ينقضي العمر في سجدة .. أينما التفت وجدتُ الله ، عجباً لنا يا سلمى .. مثل الهواء .. لا نثبت على اتجاه .