لقد كثرت مدائح الأعشى للقحطانيين، فرأى د. محمد ألتوبخي في ذلك أن الأعشى كان جنوبي الهوى... نعني أنّه كان شاعر عرب الجنوب)(1) ، وأود أن أضيف هاهنا أن الأعشى كان شاعر العرب كلهم فهو عدناني يعتز بقومه، ويفخر بهم، ولكنه يرتضي أن يكونوارعايا لملكٍ يمانٍ، فمن ذلك الملك؟
إنه قيس بن معد يكرب؛ فقد مدحه بتسع قصائد(2) أو رجل من بني الديان سادة نجران، فقد مدحهم بثلاث قصائد(3) ، أو إياس بن قبيضة الطائي، وكان يسكن قرب الحيرة وفقد مدحه الأعشى بأربع قصائد وأما المناذرة والغساسنة فأعتقد أن الأعشى أدرك عجز ملوكهم عن النجاح بإقامة كيان عربي مستقل وعادل، ولذلك كانت صلته بهم ضعيفة، ومدائحه لهم نادرة(4) وإن في قول الأعشى يمدح سادة نجران(5)
أيا سَيَّدَيْ نَجرانَ لا أُوصِيَنْكُما
بِنجَرانَ فيما نَابَها واعْتَراكُما
فإنْ تَفْعَلاَ خَيْرا، وَتَرتدْيَا بهِ
فإنَّكُما أَهلٌ لِذَاكَ كلاَكُما
وإنْ تَكِفْيا نَجَرْان أَمْرَ عَظِيَمةٍ
فَقَبَلُكماما سَادَها أبوَاكُما
وإنْ أجْلَبَتْ صِهيْونُ يَوْماً عَلَيْكُمَا
فَإنَّ رَحَى الحربِ الدَّكُوكِ رَحاكما
ما يؤكد أمله في تحرير العرب بقيادة يمانية قحطانية لم تفسدهما التبعية للنفوذ الأجنبي، فالأبيات السابقة ليست مديحاً، ولكنهانصح سياسي، وتشجع على مقاومة النفوذ الأجنبي، بالحفاظ على نجران مستقلة عن نفوذ الروم الذين أرادوا من التبشير بالمسيحية في اليمن أن يمتد نفوذهم إليها.
ولكن رغبة الأعشى وأمثاله بالوحدة والاستقلال بقيادة قحطانية لم يكتب لها النجاح، فقد لقيت معارضة سياسية من المناذرة بخاصة(6) ، كما لقيت معارضة من أغلب العدنانيين، فقد خبروا قيادة القحطانيين لهم فبان فسادها، وظهر لهم استعلاء القحطانيين عليهم بالسيادة والملك، وقد رأينا ذلك في مفاخرة يزيد بن عبد المدان لعامر بن الطفيل ومثل ذلك قول عُبيد بن عبد العزّي السلامي يفخر بإخضاع الملوك القحطانيين للعدنانيين(7) :
ومنِّا بنو ماءِ السَّماءِ وَمُنْذِرٌ
وَجَفْنَةُ مِنّا والقُرومُ النّزايعُ
قبائلُ مِنْ غَسَّانَ تَسْمُوا بِعامِرٍ
إذا انْتَسَبَتْ والأزْدُ بَعْدُ الجَوامِعُ
أدانَ لنا النُّعمانُ قَيسْاً وَخِنْدفاً
أدانَ، ولم يَمْنَعْ رَبيعةَ مانِعُ
وكان من المنطقي أن يقع الصراع بين العدنانيين والقحطانيين، ومن الشعر المعبّر عن بعض ذلك قول أنيف بن حكم النبهاني الطائي(8) :
دَعَوا لِنِزارٍ وانْتَمَيَنا لطِّيءٍ
كَأُسْد الشَّرى إقْدَامُها وَنِزالُها
ولست معنياً هاهنا بتتبع الحروب بين الطرفين(9) ، بل بذكر أبرز مايدل على ثورة الشماليين السياسية على ظلم الجنوبيين، وذلك في يوم خزارى،وهو يوم قديم، اضطربت الروايات حوله، فاختلف في تسمية القبائل المشاركة فيه، وفي تسمية قائد معدّ، وفي تحديد سببه المباشر(10) ، ولكن المُتَّفَق عليه أن معداً قاتلت وهي مظلومة وأن يوم خزارى كان أول يوم امتنعت معد عن الملوك، ملوك حِمير)(11) ، والمشهور أن كليب بن ربيعة التغلبي كان قائد معدّ وقد افتخر بذلك حفيده عمرو بن كلثوم(12) .
وقد شهد يوم خزازى من القحطانيين الشعراء الأفوه الأودي مُؤَمّراً من قبل تبع بن ذي الأذعار على أود وجميع مذحج فانهزم، وأقبل إلى ابنته جريحاً، فقالت: أين إخواني؟ قال: قتلوا جميعاً، قالت: فأين الملوك؟ قال: قُتِلوا، قالت: فأين الأقيال من حمير؟ قال: أساري في كليب، قالت: فأين حقك؟ قال: هذه الجراحات، وأنشأ يقول(13) :
لمّا رَأتْ بُشْرَى تَغَّيَرَ لَونُها
مِنْ بَعْدِ بَهْجَتِهِ، فَأقْبَلَ أحْمَرا
ألوتْ بإصبَعِها وقالت إنّما
يكفيك ممِا قد أرى ماقُدِّرا
ثم لَخَصّ الأفواه النتائج التي اسفرت عنها يوم خزازى بقوله:
كان الفخار يمانياً مُتَقَحْطِناً
وأراهُ أصبحَ شامياً مُتَنَزَّراً
إن تفاعل القحطانيين مع العدانيين أوجد شرخاً سياسياً بينهما، فقد عانى العدنانيون من ظلم الملوك، وهم قحطانيون، فانتفضوا عليهم؛ فقُتِلَ بعض الملوك، وأُذلّ بعضهم الآخر(14) ، ومن الشعر المعبر عن استعلاء العدنانيين على ملوك اليمن قول أبي داؤد الإيادي مفتخراً(15) :
ضربنا على تُبَّعٍ جَزْيَةً
جيادَ البُرُودِ، وَخَرْجَ الذَّهَبْ
وَوَلَّى أبو كَرَبٍ هارباً
وكانَ جَبَاناً كثيرَ الكَذِبْ
إن البيتين السابقين يدلان على أن تُبّعاً وصل بغزوه إلى منازل إياد، وأنه اضطر لسبب ماأن يهادن إياداً وأن يسترضيها بالعطايا.
لقد حاول العدنانيون وقف الامتداد غير المشروع للقحطانيين، ولكنهم لم يعارضوا الوجود المسالم لبعض القطانيين المهاجرين من اليمن إلى يثرب وغيرها، فَأمِن المهاجرون المسالمون، وحُوربَ الملوك الظالمون، وجوبهت الغزوات الغاشمة، وإنّ في قول الفند الزِّمّاني البكريّ(16) :
إنّما قَحْطَانُ فينا حَطَبٌ
ونزارٌ في بني قَحطانَ نَارُ
فارجعوا مِنَّا فُلولاً واهرُبُوا
عائذينَ ليس تُنجيكمْ ظَفَارُ
ومايدل على الهوة السياسية بين المنتمين إلى قحطان والمنتمين إلى عدنان، على رغبة العدنانيين في إرجاع القحطانيين من الشمال إلى مواطنهم في اليمن.
لاشك في أن الصراع بين التجمّعين الكبيرين: القحطانيين والعدنانيين قد أوجد حاجزاً يعوق وحدتهما، ويحد من قدرتهما على التطوّر، ولكن ذلك لا ينفي تقاربهما، وتشاكلهما في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية والأدبية، ولا يلغي وحدة الأرض التي يعشون عليها، ولا وحدة اللغة التي يفكرون بها، ويتحدثون بها، ويبدعون أدبهم بها، وماوحدة اللغة وتَمَلُّك الأرض، والتشاكل في نواحي الحياة إلاّ نتاج تاريخ مشترك لتفاعل القحطانيين والعدنانيين فوق أرضهم الخاصة بهم، وما الخلاف بينهمامن قبيل الخلاف بين شعبين تجمعهما رابطة الانتماء إلى أمة واحدة.
إن عوامل التقارب بين القحطانين والعدنانيين أكثر من عوامل التباعد، إنهما تجمعان كبيران، بل شعبان كبيران ينتميان إلى العروبة، وإن القول بوجود شعبين عربيين في الجاهلية ليس بدعة، فقد سَمَّى حسان بن ثابت تجمعاً من أحدهما بأنه شعب عظيم، وذلك في قوله(17) :
وَشَعْبٌ عظيمٌ مِنْ قُضَاعَةَ فاضِلٌ
عَلَى كلِّ شَعْبٍ من شُعوبِ العَمَائرِ
فأَحْرِ بنا أن نسمي الكلّ بما سُمِّي به الجزء.
كانت ملامح الشعبين: القحطاني أهالي اليمن بخاصة) والعدناني أهالي نجد والحجاز بخاصة)- واضحة المعالم في الجاهلية، وإلى جانب ذلك وجدت تجمّعات عربية في غير تلك البقاع تعيش في طور تشكيل شعوب عربية، ولاسيما في العراق والشام ومِمّا يدل على ذلك الطور تمايز الجاهليين بالانتماء إلى أوطان كبيرة أفصح عنها الشعراء الجاهليون ومنها العراق والشام إلى جانب اليمن والحجاز ونجد(18) .
وقد أدرك الجاهليون - على الرغم من تمايزهم بالنسب والمكان والدين وطرائق المعيشة -أنهم ينتمون إلى تجمع كبير متآلف يشملهم، ولا يلغي تعدّدهم، لقد أدركوا أنهم عَرَب؛ ومن ذكر العرب في أشعارهم قول دريد بن الصمة يمدح عبد الله بن جدعان(19) :
رَحَلْتُ البلادَ فما إنْ أَرَى
شَبيهَ ابنِ جُدْعانَ وَسْطَ العربْ
ومن ذكر الانتماء إلى العرب في الشعر قول امرئ القيس(20) :
...................................
نَوَى عَرَبِيَّاتٍ يَشِمْنَ البَوارِقَا
وقول النابغة الجعدي(21) :
وما عُلِمَتْ منْ عُصْبَةٍ عَرَبيَّةٍ
كَمِيلادِنا مِنّا أَعَزَّ وَأَكْبَرَا
ونُسِبَ حسان بن تُبّع الحميري حين أراد أن يغزو الفرس والروم قوله(22) :
أيّها النّاسُ إنَّ رأيي يُريني
- وهو الرأيُ- طوفَةً في البلادِ
بالعوالي والقنابل تَرْدي
بالبطاريقِ مِشْيَةَ العُوَّادِ
وبجيشٍ عَرَمْرَمٍ عَرَبِيٍّ
جَحْفَلٍ يَستَجيبُ صَوْتَ المنادِي
من تَميمٍ وخِنْدِفٍ وإيادٍ
والبهاليلِ حِميرٍ ومُرادِ
وإذا صحت نسبة الأبيات السابقة إلى حَسّان بن تبع فهي من الأدلة الصريحة على إدراك الجاهليين انتماءهم -على الرغم من تعدد أنسابهم وتجمّعاتهم السكانية إلى رابطة توحدهم هي رابطة العروبة التي أنتجها جدل الإنسان الجاهلي، وهذا الجدل ليس تفاعلاً إنسانياً بين الجاهليين فوق أرضهم الخاصة، وبلغتهم الخاصة فحسب ولكنه تفاعل بين الجاهليين وغيرهم أيضاً، وإذا كان نتاج التفاعل الأول تكوين الوجود العربي المتميز بلغته وأرضه وتاريخه المشترك، وهمومه المشتركة فإن تفاعل الجاهليين مع غيرهم أنتج وعي الجاهليين بوجودهم المتميزّ وأسهم في تطوّرهم على الرغم من الصراعات العنيفة التي نشبت بينهم وبين الفرس والأحباش بخاصة، فكيف كان ذلك.
***
3- إحساس العرب بالتَّمايز
اتصل العرب بالأمم القريبة منهم اتصالاً مباشراً سلماً وحرباً، فأدركوا بالتفاعل مع تلك الأمم أنهم متميزون باللغة العربية بخاصة، فالذين يتكلمون العربية هم العرب، ومن سواهم عجم، وهؤلاء العجم أجناس، أشهرها الفرس والروم والأحباش والأنباط، ولقد أظهر الجاهليون ذلك في أشعارهم(23) .
وإلى جانب التميز باللغة أدرك الجاهليون أنهم عربٌ ومتميزون ببعض نواحي السلوك الإنساني؛ فمعقل بن خويلد الهذلي، يدل في شعر على أنه ينتمي إلى قوم لا يفعلون فِعْلَ الأحباش الذين يختنون نساءهم، ولا يأنفون من أكل الجراد، وكان ذلك سبباً لنفور معقل من الاقتران بامرأة من الأحباش حين رغبه بذلك أبويكسوم، ولتفضيله الزواج من فتاة عربية من قومه(24) ، ومما يتصل بالزواج أن في ديانة الفرس إباحة الاقتران بالأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات، وأن العرب كانوا يحرمون ذلك في الجاهلية، ويأنفون منه(25) ويعيبون من يقدم عليه(26) ويبدو من قول أوس بن حجر يهجو قوماً من العرب(27) :
والفارسِيَّةُ فيهمْ غيرُ مُنْكَرَةٍ
فُكُلَّهُمْ لأبيهِ ضَيْزَنٌ سَلِفُ
وجودُ اعتقاد عربي بأن زوج المقت نقيصة، رشحت إلى المجتمع العربي من الفرس، ووجود اعتقاد عربي بالتمايز الديني الثقافي) بين العرب والفرس، ومن الشعر المؤكد لهذا الاعتقاد قول لقيط بن يعمر الإيادي يصف الفرس في أثناء تحذيره لقومه منهم(28) :
أبناءَ قَوْمٍ تَأَوَّوكْم عَلَى حَنَقٍ
لا يَشعرونَ أَضَّرَ اللَّهُ أم نَفَعَا
وكان بين العرب والفرس تمايز بالألبسة(29) ، وقد أدرك العرب هذا التمايز، واستنكروا إقدام فئة منهم على التزّيي بزيّ الأعاجم، وذلك واضح في قول حسان لوفد تميم حين جاؤوا لمفاخرة الرسول صلى الله عليه وسلم(30) :
فإنْ كنتمُ جِئتُمْ لِحْقِنِ دمائِكُمْ
وأموالِكُمْ أنْ تُقْسَمُوا في المَقَاسِمِ
[فلا] تَجْعَلُوا للَّهِ نِدّاً وأَسْلِمُوا
ولا تَلْبَسُوا زيَّاً كَزِيِّ الأعاجمِ
وإضافة إلى ماسبق أدرك العرب تمايزهم من الأعاجم بالخِلقَة، ولاسيما اللون منها(31) ، وبذلك تتراءى لنا معالم وجود عربيّ يدرك أبناؤه الانتماء إليه، وإذا أعدنا النظر في الأشعار الدالة على ذلك الوجود المتميز فسوف نلحظ تعصب العرب على الأعاجم ولكن ذلك لا ينفي وجود مايدل على التواصل والتسامح بين الفريقين، ولعل في دراسة العلاقات بينهما ما يوضح مشاعر الانتماء العربي عند الجاهليين، وهم يستجيبون لتحديات الصراع مع الأمم المجاورة.
4- مجابهة التحديات الخارجية:
كانت ثلاث الأمم الفرس والروم والأحباش) المحيطة بالوجود العربي الجاهلي تسعى إلى توسيع دوائر نفوذها باحتلال الأرض العربية لاستغلالها، ولاستعباد الإنسان العربي واستغلاله، فكان الصراع مع تلك الأمم أمراً لا محيد عنه، وكان الصراع يزداد عنفاً بازدياد الرغبة في تملك الأرض ولاسيما في الشمال الشرقيّ من الجزيرة العربية، حيث كانت ترسم الحدود المكانية الفاصلة بين العرب والفرس، وتتحدّد ملكية الأراضي المتنازع على استغلالها.
أ- الصراع مع الفرس:
إن أقدم حدث من أحداث الصراع بين العرب والفرس إذاعه الشعراء الجاهليون، -هو سقوط مملكة الحضر، والحضر حصن عظيم كالمدينة، كان على شاطئ الفرات)(32) وأهله من قضاعة، ويبدو أن الحضر كانت حاضرة مملكة عربية واسعة، ومن الشعر الدال على ذلك قول عدّي بن زيد(33) :
وأخو الحَضْرِ إذْبَنَاهُ وإذْ دِجْـ
ـلَةً تُجْبَى إليه والخابورُ
وأن مملكة الحضر كانت تحاول مدّ نفوذها على سواد العراق، ومن الشعر الدال على ذلك قول الجُدَيّ بن الدلهات القضاعي في غارة لملك الحضر على شهرَزَور) من سواد العراق(34) :
دَلَفْنا للأعادي مِنْ بَعِيدٍ
بجيشٍ ذي التهابٍ كالسَّعيرِ
فلاقَتْ فارسٌ مِنَا نكالاً
وَقَتَلَّنَا هَرَابذَ شهْرَزُورِ
لَقِيناهُمْ بخيلٍ من عِلافٍ
وبالدُّهْمِ الصلادِمَةِ الذُّكُورِ
وكان ذلك في عهد سابور الجنود بن أرد شير 241-272م) الذي هاجم الحضر، وحاصرها إلى سقطت بيده بعد سنتين من صمود أهلها، وقد أشار الأعشى في شعره إلى ذلك الصمود، وذكر دعوة ملك الحضر أهله إلى الموت كرماً(35) .
وربّ مطلّع على الأشعار التي قيلت في سقوط مملكة الحضر يرى أنها تخلو من الإشارة إلى الانتماء العربي، ولكن انعدام الاشارة الصريحة إلى وجود ذلك الانتماءلا ينفي اعتماله، في نفوس قائلي تلك الأشعار؛ فالصلة النسبية بعيدة بينهم وبين أهل الحضر، وهذا مِمّا يرجح أن الاهتمام بسقوط الحضر دافعه شعور بالانتماء القومي العربي، ويقوّي القول بصحة وجود ذلك الدافع أن اثنين أبا داؤود، والأعشى) من أولئك الشعراء ينتميان إلى قبيلتين حاربتا الفرس، هما: إياد وبكر.
إن سقوط مملكة الحضر هوتحطيم لجهد قبائل قضاعة في إقامة كيان سياسي في العراق مستقلّ عن النفوذ الفارسي، وهو كيان لو قدر له البقاء، لكان دولة عربية جاذبة لكثير من العرب الراغبين في الإقامة في العراق، وفي التحرر من سيطرة الفرس عليهم، ومن الظاهر أن الفرس أدركوا خطورة الحضر) على وجودهم في العراق فأصروا على تحطيمها، فهدموا المدينة، وقتّلوا، وشردوا أهلها بعد حصار دام سنتين(36) ، تدلان على إصرار الفرس على الاستيلاء على الحضر، وعلى شدة مقاومة أهلها لأعدائهم.
وكذلك جذب سواد العراق قبائل إياد، فكان الصراع بينهم وبين الفرس على تَمَلّك الأراضي الخصبة واستغلالها، يقول أبو داؤد الإيادي(37) :
فنازَعْنا بني الأحرارِ حَتىَّ
عَلَفْنا الخيلَ من خَضِرِ السَّوادِ
ويبدو أن الفرس حاولوا اصطناع الإياديين(38) ، فلم تنجح محاولة ترويضهم على الخضوع للسلطة الفارسية، فلقيت إياد مصيراً مشابهاً لمصير قضاعة، فقد عَبّأ كسرى لإياد قوة ضاربة، فأنذرهم بها لقيط بن يعمر الإيادي، إذ بعث إليهم -وكان يعمل عند كسرى- بصحفية فيها(39)
سلامٌ في الصحيفةِ من لَقيطٍ
إلى مَنْ بالجزيرةِ من إيادِ
بأنّ الليثَ كِسْرَى قَدْ أتاكُمْ
فلا يَشْغَلْكُمُ سَوْقُ النِّقادِ
أتاكُمْ منهم سِتُّوَنَ ألْفاً
يَزُجُّون الكتائبَ كالجرادِ
علىحَنَقٍ أتينكُمُ، فهذا
أوانُ هلاكِكُمْ كهلاكِ عادٍ
ولكن هذه الرسالة لم تفلح في تنبيه الإياديين على الخطر القادم إليهم، فأتبع لقيط تلك الأبيات بقصيدة مطولة دعاهم فيها إلى اليقظة، والاستعداد لمجابهة ذلك الخطر بتوحيد الجهود، بالتعبئة للحرب، وبالانقياد إلى رجلٍ منهم حازم، ذي نجدة، قادر على تحدّي الناس كلهم، ثم ختم قصيدته بقوله(40) :
هذا كتابي إليكُمْ والنذيرُ لكم
لِمنْ رأى رأيه منكمْ ومن سَمِعَا
لَقَدْ بَذَلْتُ لكمْ نُصْحِي بلا دَخَلٍ
فاستيقظُوا إنّ خيرَ ا لعلمِ مانفعا
فَلَمّا بلغ إياداً كتاب لقيط استعدوا لمحاربة الجنود التي بعث بها كسرى(41) )، وقيل إن الإياديين لم يلتفتوا إلى قول لقيط وتحذيره إياهم ثقة بأنّ كسرى لا يقدمُ عليهم(42) )، وحين التقى الفريقان هُزمت إياد ولحقت بأطراف الشام، فكان مصيرها مشابهاً لمصير قضاعة التي ارتحلت فلولها إلى الشام بعد سقوط الحضر(43) .
واللافت في خبر انتصار الفرس على إياد أن جموع الفرس كانت بقيادة رجل عربي هو مالك بن حارثة الجشمّي، التغلّبي، فقد بعث إليه كسرى ووجه معه أربعة ألاف من الأساورة)(44) ، فإذا صحت هذه الرواية، وصدق لقيط في إخباره عن جيش قوامه ستون ألفاً فإن الجيش الذي هزم الإياديين كان جيشاً عربياً فيه عدة آلاف من الفرس يأتمر بأمر كسرى، ولكن شعر لقيط لا يدل على وجودٍ عربيّ في جيش كسرى، فلماذا أغفل لقيط ذلك؟ ثمة احتمالان: الأول أن جيش كسرى لم يكن فيه عرب أو أن لقيطاً لم يكن يعرف بوجود العرب في ذلك الجيش، وهذا أمر مستبعد؛ فصلةُ لقيط كانت وثيقة ببلاط كسرى؛ والثاني أن لقيطاً أغفل عامداً الإشارة إلى وجود العرب في الجيش الفارسي لإدراكه أن الصراع هو بين إياد والفرس، وليس بين إياد وتغلب، فكان تحذيره لقومه من الفرس وحدهم وضعاً للأمور في مواضعها الصحيحة، ومنعاً لتحويل الصراع من صراع بين العرب والفرس إلى صراع بين القبائل العربية الموجودة في العراق، وهذا التحويل كان هدفاً فارسيّاً به يضعف العرب، وتضعف فرص توحدهم ضد الفرس، وبه تتضائل القوى التي تلزم الفرس للحفاظ على وجودهم في العراق، وسيادتهم على العرب فيه، وبه يفلون الحديد بالحديد.
وأمّا قبول مالك بن حارثة التغلبي بقيادة الهجوم على إياد فمن المرجح أن كسرى أغراه بمكاسب مادية له ولقبيلته، فانقاد إلى كسرى، ودلّ بذلك على عجزه عن فهم حقيقة الصراع في العراق، وعلى تقديمه الانتماء النسبي القبلي) على الانتماء العربي، فكانت رغبته في تحقيق المصالح الخاصة به وبقبيلته سبباً في قبوله التبعية للفرس والانقضاض على العرب الإياديين.
لقد ربح الفرس جولتين ضد الجاهليين، الأولى حين واجهت قضاعة الفرس وحدها فسقطت الحضر، وطردت قضاعة من العراق والثانية حين واجهت إياد مصيراً مشابهاً لمصير قضاعة، وبأيدٍ عربية. وأرى أن هاتين الجولتين كانتا درسين أسهما في تكوين الوعي العربي لدى فئة من الجاهليين، فكان الإحساس بالوجود العربي في مواجهة الوجود الفارسي في العراق، وإنّ في مصرع النعمان بن المنذر وفي معركة ذي قار مايؤكّد ذلك الإحساس، ومايوحي بوجود جهد خفي لتثبيت الوجود العربي المستقل في العراق.
وبأمر من كسرى، وتحت أرجل الفيلة قُتِلَ ملكُ الحيرة النعمان بن المنذر 580-605م)(45) ومن المشهور أن كسرى أقدم على فعلته بسبب مكيدة حاكها عميل للفرس هو زيد بن عدي العبادي التميمي، فقد حَبّبَ زيد إلى كسرى الزواج من أسرة النعمان، ولكن النعمان رفض تلبية طلب كسرى الذي صبر مدّة، ثم استدعى النعمان إلى العاصمة الفارسية، ولما قدم إليها، أمر كسرى بالقبض على النعمان ثم قتله، وَوَلّى على الحيرة إياس بن قبيصة الطائي(46) .
كانت غضبة كسرى أعظم من رفض النعمان لطلبه؛ فقد قُتل النعمان، وانتقل ملك الحيرة إلى أسرة جديدة، وتلك عقوبة لا يوجبها رفض النعمان لزواج إحدى بناته من كسرى، بل توجبها ضرورة سياسية عليا، وقد أفصح كسرى عنها حين كتب إلى ابنه شيرويه: وأمّا ما زعمت من قتلي النعمان بن المنذر، وإزالتي الملك عن آل عدّي إلى إياس بن قبيصة، فإن النعمان وأهل بيته واطَؤُوا العرب، وأعلموهم تَوَكّفهم توقعهم) خروج الملك عَنّا إليهم، وقد كانت وقعت إليهم في ذلك كتب، فقتلته، ووليتُ الأمرَ أعرابيّاً لا يعقل من ذلك شيئاً)(47)
وبذلك تتضح الأسباب البعيدة لمقتل النعمان؛ فلقد اتبع سياسة جعلت كسرى لا يتخَوّف من انكماش النفوذ الفارسي على العرب فحسب بل يتخوّف من انتقال الملك من الأكاسرة إلى النعمان والعرب، وقد لمس كسرى في تصرفات النعمان بعض ما يعزّز ظنونه، إذ اتجه إلى توسيع نفوذه في شبه الجزيرة العربية، فامتد سلطانه إلى البحرين وجبل طّيئ، وكثرت لطائمه التي يرسلها إلى الحجاز، و..... أصبح بلاطه موئلاً للشعراء العرب ولأدبائهم، والتفّ حوله زعماء القبائل)(48) ويضاف إلى ذلك قتل النعمان لعدي بن زيد العبادي، وهو رأس أسرة عربية عميلة للفرس، وكذلك، وهو الأهم، اطلاع كسرى على كتب تدل على نوازع النعمان والعرب المعادية للسلطة الفارسية.
ومن المحتمل وقوع مراسلات بين الغساسنة والنعمان وقيام بعض المتنورين العرب بمحاولة التقريب بين الغساسنة عرب الشام) والمناذرة عرب العراق) ويرى د. البهبيتي أن النابغة الذبياني كان يطوف في الأرض، يبغي جمع الكلمة، ولم الشعث، ويحاول أن يوفق بين الخصمين التقليدين في هذا: وهم الغساسنة والمناذرة، ويكاد النابغة يذهب ضحية في هذا، لولا فطنة النعمان الأخيرة، وانصياعه آخراً إلى دعوة الوحدة)(49) ، ويميل د.البهبيتي إلى أن كسرى حبس النعمان، وأن حبسه أثار حفيظة العرب، ودفع النابغة صاحب الدعوة إلى الوحدة، والسعي إليها بين الحيرة والغساسنة إلى أن يقول
50)
إنْ يَرْجِعِْ النُّعْمَانُ نَفرَحْ ونَبتْهِجْ
وَيَأْتِ مَعَدّاً مَلْكُها وَرَبيعُها
وَيَرْجِعْ إلى غَسّانَ مَلْكٌ وسُؤدُدٌ
وَتِلْكَ المُنَى لو أَنَّنَا نَسْتطيعُها
وإنْ يَهْلِكِ النُّعْمَانُ تُعْرَ مَطِّيةٌ
وَيَخْبَأُ في جَوْفِ العِيابِ قُطُوعُها
فهذه الأبيات -إن صح توجيه د.البهببيتي لمناسبتها- تعبر عن آمال عربية في الوحدة، فالنعمان إن نجا سادت غسان، وسادت معدّ، والنعمان بعد هذا صاحب الحيرة، وتلك كانت الكتل التي تتصارع، وتقتتل في جزيرة العرب، والتي كان دعاة الوحدة يعملون على جمع كلمتها لتجتمع بذلك كلمة العرب)(51) .
قتل الفرسُ النعمانَ بن المنذر وكان قتله سبب وقعة ذي قار)(52) وهي وقعة أشعلتها رغبةُ كسرى في إحكام قبضته على القبائل العربية المقيمة في العراق(53) ، وعلى إذلالها من جهة وغضبةُ تلك القبائل لمقتل النعمان، وحرصها على التحرر من سيطرة الفرس وعلى عدم الارتحال عن العراق من جهة أخرى.
وكان السبب المباشر لمعركة ذي قار أن النعمان بن المنذر كان يتوجّس شرّاً من قدومه إلى عاصمة الفرس، فاستودع أهله وسلاحه عند هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود الشيباني، وكان سيداً منيعاً(54) ، وبعد مقتل النعمان طلب كسرى من عامله على الحيرة إياس بن قبيصة الطائي أن يضمّ ماكان للنعمان، ويبعث به إليه، فبعث إياس إلى هانئ: أن أرسل إليّ ما استودعك النعمان من الدروع وغيرها، فأبى هانئ أن يُسلم خفارته، فغضب كسرى، وأظهر أنه يريد أن يستأصل بني بكر بن وائل، ولكنه تريث بناءً على نصيحة من رجل يحب هلاك بكر، هو النعمان بن زُرْعة التغلبيّ، فلما حلّ القيظُ نزلت بكر حنو ذي قار، فأرسل إليهم كسرى النعمان بن زرعة التغلبيّ، فنزل على هانئ، ثم قال له: إمّا أن تُعطوا بأيديكم فيحكم فيكم الملك بما شاء، وإمّا أن تُعَرُّوا الديار تغادروها) وإمَا أن تأذنوا بحرب، فتشاور البكريون في ذلك، ثم أخذوا برأي حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي الذي قال لهم: لا أرى إلا القتال.... فآذنوا الملك بحرب(55) .
وحينئذٍ قرّر كسرى أن يضرب البكريين، فاتخذ إجراءات تذكّر بالأسلوب الذي ضُرب به الإياديون سابقاً، فقد عقد كسرى للنعمان بن زرعة على تغلب والنمّر، وعقد لخالد بن يزيد البهراني على قضاعة وإياد، وعقد لإياس بن قبيصة على جميع العرب، ومعه كتيبتاه: الشهباء والدّوسر، وعقد للهامرزْ التُّسْتَريّ، وكان على مسلحة كسرى بالسواد، على ألف من الأساورة)(56) ، وعقد لخنابرين على ألف(57) ، وكتب إلى قيس بن مسعود... وكان عامله على الطّف، طَفّ سَفَوان،وأمره أن يوافِيَ إياس بن قبيصة، ففعل)(58) ، وبذلك تتوضح خطة كسرى، وهي ضرب العرب بأيدٍ عربية، بل ضرب القبيلة بكر) بأيدي أبنائها قيس بن مسعود)، وذلك بإشراف فارسي مباشر.
ولكنّ تنامي الوعي بالانتماء العربي ساعد على تقوية البكريين، وعلى إضعاف جبهة الفرس وعملائهم، فانتصر البكريون العرب) وانهزم الفرس وعملاؤهم، وقتل الهامرز، وخُنابِرين، فكيف أسهم الوعي بالانتماء العربي في تحقيق ذلك؟
لقد أنذر بعض العربُ بني بكر بالخطر المحدق بهم، ومنهم قيس بن مسعود الشيباني وله في ذلك أشعار، ومنها قوله(59) :
ألا لَيَتني أرشُو سِلاحي وَبَغْلَتي
فَيُخْبرَ قومي اليومَ ما أنا قائِلُ
وإنّ جُنودَ العُجْمِ بيني وبَيْنَكُمْ
فيا فَلَجِي يا قومُ إنْ لم تُقَاتِلوا
واشترك بعض العرب إلى جانب بكر في محاربة الفرس؛ فقد كان في بكر أسرى من تميم قريباً من مائتي أسير فقالوا خَلُّوا عنا نقاتل معكم، فإنّما نَذُّب عن أنفسنا، قالوا: فإنّا نخافُ إلاّ تناصحونا، قالوا: فدعونا نُعلم، حتى تَرَوا مكاننا وغَنَاءَنا)(60) ، واشترك بالحرب إلى جانب بكر ربيعةُ بنُ غزالة السَّكوني وقومُه،وكانوا نزولاً في بني شيبان، وكان لربيعة رأي في تلك الحرب، فأخذ به البكريون(61) ، وكذلك أشار عليهم في أثناء المعركة يزيد بن حمار السَّكوني بأن يكمنوا للفرس كميناً، فأخذ البكريون برأي يزيد، وجعلوه رأسهم في ذلك الكمين، وبذلك يتبين لنا أن البكريون لقَوا دعماً عربياً، وأنهم أفسحوا في المجال لمن قرب منهم من العرب كي يشاركوافي محاربة الفرس بسواعدهم وعقولهم وخبراتهم أيضاً.
وكذلك لقي البكريون دعماً من القوة المعادية؛ فقبيل ا لمعركة انسَلَّ قيس بن مسعود الشيباني- وهو من قادة الجيش الفارسيّ إلى قومه ليلاً، فَأتى هانئاً، فأشار عليهم كيف يصنعون، وأمرهم بالصبر، ثم رجع)(62) وكذلك أرسلت إياد إلى بكر سًراً -وكانوا أعواناً على بكر مع إياس بن قبيصة: أي الأمرين أعجب إليكم، أن نطيرَ تحتَ ليلتنا فنذهب، أو نقيم ونفرّ حين تلاقوا القوم؟ قالوا: بل تقيمون، فإذا التقى القوم انهزمتم بهم... وولت إياد منهزمة كما وعدتهم، وانهزمت الفرس)(63) .
إن وعي القبائل بانتمائها العربي منع تكرار ماحدث لإياد وقضاعة؛ فبكر لم تقاتل الفرس وحدها بل قاتلت معها قوى عربية فاعلة، وأكثر العرب الذين حشدهم كسرى لمحاربة بكر دفعهم انتماؤهم العربي إلى إضعاف الفرس، ونصرة العرب البكريون، لقد أراد الفرس أن يئدوا تطلّعات العرب القومية فقتلوا النعمان، وسعوا إلى إشعال نيران الحرب بين العرب، وإلى كسر شوكة بكر المتمردة على نفوذهم ولكن مساعي الفرس عجزت عن وقف نسغ الانتماء العربي وهو يسري إلى كل بقعة من أرض العرب، وتتشربه قلوب أبنائها.
ولذلك كان الانتصار في ذي قار نصراً عربياً لا قبلياً، وماسيوف البكريين وحلفائهم المنتصرة إلا رسل متقدمون للقوى العربية الناهضة، ولمشاعر الانتماء العربي النامية، وأضاء تلك الحقيقة إعلان الرسول العربي محمد بن عبد الله القرشي صلى الله عليه وسلم لها من يثرب في قوله عن ذي قار هذا يوم انتصفت فيه العَرَبُ من العجم، وبي نصروا)(64) ، وإن في قوله ص) انتصفت) مايدل على أن وقعة ذي قار لم تكن نصراً عسكرياً فحسب بل انتصار للحق العربي على الظلم الفارسيّ.
وأما عملاء الفرس فقد تطامنوا أمام المدّ القومي، ومن الأشعار الدالة على الأسف لما بدر منهم قول والدة عميل فارسي عمرو بن عدي بن زيد العبادي) قتل في ذي قار(65) :
ليتَ نُعمانَ علينا مَلِكٌ
وبُنَيَّ لي حيٌّ لم يَزَلْ
وقد أدرك الشعراء عظمة يوم ذي قار، فتغنوا به، ففي أثناء احتدام المعركة انطلقت ألسنة بعض المقاتليين بالأهازيج الحماسية ضد الفرس، كقول حنظلة بن ثعلبة بن سيَّار العجلي(66) :
يا قَوم طِيْبُوا بالقتالِ نَفْسَنا
أجْدرُ يومٍ أن تَفُلُّوا الفُرْسَا
وبعد النصر تعالت صيحات الفخر بيوم عظيم، كقول العُديل بن الفرخ العجلي: البكري(67) :
ما أَوْقَدَ الناسُ مِنْ نارٍ لَمْكرُمَةٍ
إلاّ اصطْلَيْنا، وكُنَّا مُوقِدِي النَّار
ومايَعُدُّونَ من يومٍ سِمعْتُ بهِ
للناسِ أفْضَلَ مِنْ يَومٍ بذي قارٍ
وقد أكثر الأعشى من الافتخار بذي قار، ومن ذلك قوله(68) :
وَجُنْدُ كِسْرَى غَداةَ الحِنْوَ صَبَّحَهُمْ
مِنّا كتائِبُ تُزْجي الموتَ، فانْصَرَفُوا
جَحَاجِحٌ وَبَنُوا مُلْكٍ غَطارِفَةٌ
مِنَ الأعَاجمِ في آذانِها النُّطَفُ
إذا أَمَالُوا إلى النُّشَابِ أيديَهُمْ
مِلْنا ببيضٍ فَظَلَّ الهامُ يُخْتَطَفُ
وخيلُ بَكْرٍ فَما تَنْفَكُّ تَطْحَنُهُمْ
حتى تَوَلَّوا، وكاد اليَوْمُ يَنْتَصِفُ
لو أنَّ كلَّ مَعَدٍّ كانَ شاركَنَا
في يومِ ذي قارَ ما أخطَاهُمُ الشَّرَفُ
وإن افتخار الشاعر بقبيلته المنتصرة، وفي تمنيه مشاركة قبائل معدّ لقومه في ذلك النصر دلالة واضحة على وجود المشاعر العربية عند الأعشى؛ فهو يتمنى مشاركة قبائل أخرى لقومه بالنصر، وبالانتماء النسبي القبلي) وحده لا يطلق تلك المشاعر بل يطلقها الانتماء العربي الذي يشد تلك القبائل بعضها إلى بعض، ويزداد القول بإظهار الأعشى لانتمائه العربي في ذي قار صحّةً إذا استذكرنا وجود مشاعره العربية في مديحه لسادات اليمن، وإن هذه المشاعر لدى الأعشى، وهي موجودة لدى غيره من العرب، هي التي دفعته إلى عتاب بل هجاء سيد قبيلته، قيس بن مسعود الشيباني البكري لأنه وفد على كسرى بعد ذي قار، يقول ا لأعشى(69) :
أَقَيْسَ بْنَ مَسْعُودِ بنِ قَيْسَ بن خالدٍ
وَأَنْت امرؤٌ تَرْجُو شبابَكَ وائلُ
أَطَورَيْنِ في عامٍ غَزَاةٌ وَرِحْلَةٌ
إلا ليت قَيْساً غَرَّفَتْه القَوابِلُ
وَلَيْتَكَ حالَ البَحْرُ دُونَكَ كُلُّهُ
وَكُنْتَ لَقَّى تَجري عليه السَّوائِلُ
كَأَنَّكَ لَمْ تَشْهَدْ قَرابينَ جّمَّةً
تَعِيثُ ضِبَاعٌ فِيهمُ وَعَواسِلُ
تَرَكْتَهُمُ صَرْعَى لدى كُلِّ مَنْهَلٍ
وَأقْبَلتَ تبِغي الصُّلْحَ أُمُّكَ هابِلُ
لقد كانَ في شَيْبَانَ لو كُنْتَ راضياً
قِبَابٌ وَحَيٌ حِلَّةٌ وَقَنَابِلُ
وَرَجْرجَةٌ تُعْشِي النواظِرَ فَخْمَةٌ
وَجُرْدٌ على أكنافِهنَّ الرَّوَاحِلُ
تَرَكْتَهُمُ جَهْلاً وكنتَ عَمِيدَهُمْ
فَلا يَبْلُغّني عَنْكِ ما أنتَ فاعِلُ
إن مشاعر الانتماء العربي والقبلي لدى الأعشى ثائرة ومتألمة لأنّ سَيِّداً عربياً من قبيلته خضع لكسرى في عام واحد مرتين: الأولى حين رضي أن يكون أحد القادة العرب في الجيش الفارسي يوم ذي قار، والثانية حين رضي أن يفد إلى كسرى بعد ذي قار، ولكن غضب الأعشى على قيس لا يخفي حبه له، وإعجابه بصفاته القيادية؛ فقيس محط رجاء لبني وائل بكر وتغلب)، ولكن خضوعه للفرس جعل الأعشى يتمنى لو أن قيساً مات قبل ذلك، إن الأعشى المفعم بمشاعر الألفة العربية والقبلية يستغرب رغبة قيس في مصالحة كسرى بعد ذي قار؛ ففيه رأى قيسٌ قومه يقتلون بالسيوف الفارسية والعربية العميلة للفرس، والأعشى يرى أن باستطاعة قيس -لو شاء- أن يمتنع على كسرى بسيوف قومه بني شيبان، ولكن الجهل ساق قيساً إلى كسرى، وإن قول الأعشى لقيس وكنت عميدهم) لدليلاً على أن الخضوع لكسرى أفقد قيساً زعامة بني شيبان، وإن في قوله فلا يبلغني عنكَ ما أنت فاعل) لدليلاً على أن الأعشى يتمنى الموت على أن يسمع بأن زعيماً عربياً شيبانياً يلقي بيده إلى كسرى.
ولكن قيساً لقي لدى كسرى مالقي النعمان بن المنذر قبله، فلماذا؟ من المرجح اعتماداً على مجيء ليلة يوم ذي قار إلى قومه، وإشارته عليهم بما يصنعون أن قيساً لم يكن عميلاً للفرس.
ولكنه سياسي عربي أراد استمرار صلته بكسرى ليحقق لقومه مالا يستطيع تحقيقه بإعلان عدائه للفرس، ولكن فطنة كسرى السياسية أوقفته على صلات قيس بقومه يوم ذي قار، وعلى نوازعه العربية المعادية للفرس، فاستدرجه إلى بلاطه، وَقْبَل مسير قيس إلى كسرى اجتمعت رجال من بكر بن وائل، فَنَهُوه، وقالوا: إنما بعث إليك لما بلغه عنك، فقال: كلاّ ما بلغه ذلك، فأتاه فحبسه في قصر له بالأنبار حتى هلك، وفي ذلك القصر حبس النعمان بن المنذر حتى هلك)(70) .
وأما شعر الأعشى السابق فإنه تعبير عن أنفه عربية من الخضوع للفرس وعن رغبة في نهج سياسية مغايرة لسياسية قيس، عن رغبة في سياسة المواجهة والتحدي العربي للفرس(71) . ولم تكن رغبة الأعشى بعيدة المنال بل كانت أملاً يوشك أن يتحقق بالإرادة في يثرب، المدينة المنورة، ثم بدأ بذلك الحلم يتحقق على أرض الواقع حين بدأ الفتح العربي للعراق بسيوف عربية شيبانية بقيادة المثنى بن حارثة الذي نشأ في مدرسة هانئ، وقيس والأعشى وغيرهم من رجال ذي قار، ثم اكتمل الإسلام.