قراءة فى رواية ( أفندينا ) للروائي الأديب محسن الغمري.
بقلم الكاتبة فاطمة بشير عبدالسلام، من دولة ليبيا.
ونحن فى سباق مع الزمن استوقفني (أفندينا ) والى مصر المحروسة، ليستضيفني فى قصوره العامرة، على أرض الكنانة، مرددا : " ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين "حتي نغنم من سيرته العبر، ونتنقل بين أطلاله نوقظ الذكريات ، ونعيد للصور رونقها، ونجلس فى ذات الأماكن التي غادرها أصحابها، وإن غادروها فهي حية يسردها على مسامعنا الروائي محسن الغمري، فى رحلة يروي لنا فيها الأحداث فيقطع الفلوات، ويطوي المسافات، ليقرب الزمان، ويضعنا فى بيئة المكان ، ويفصل لنا فيها المقال فيملأ الكون بخبر كان، ليجتمع الحبان والخلان والإخوان، على رواية عزيز مصر وخلافته فى الأوطان، فهلموا إلى تصفح رؤيتنا..قراءة فى رواية..أفندينا.
بداية مشوقة تأخذنا من حدث إلى حدث ، تنفض عن كتب التاريخ أتربة النسيان، لتقص علينا عهد الباشا محمد علي، وحفيده الوالى الباشا عباس حلمي الأول، الذي تولى الحكم بعد موت عمه إبراهيم باشا. تشير الرواية إلى جريدة الوقائع المصرية 1828م، وجريدة اللطائف المصورة الصادرة عام 1917م ويعود تاريخها إلى ما قبل مائة عام، وكان جد أحد أبطال الرواية رئيسا لتحرير مجلة اللطائف، التي وجدت فى صندوق هو كنز تاريخي نادر، أرثا من الأسلاف إلى الأجيال، ومن هنا بدأت حكاية الوالى المغدور.
ربطت الرواية بين تاريخ مصر واليونان وتركيا، وقت كانوا جزءا من السلطنة العثمانية، فوصف الأديب الأماكن والمدن وأسماء الشخصيات متنقلاً من قصة إلى قصة فى ترابط متسلسل، ووصف بارع للأحداث، سافر بنا الطيار الأديب الروائي محسن الغمري، ليعرفنا على تاريخ أفندينا محمد علي، فاستخدم البلاغة بحنكة خبير تبحر فى الثقافة، ملم بفنون الكتابة، تتجلى تحت عباراته تفاصيل صنوف التفاصيل، وروعة الشرح وبراعة التحليل، فى ترتيب وتصنيف محكم ، يجعلك تتابع بشغف فصول رواية حقيقية، بانتقاء فائق للألفاظ، ومقدرة هائلة على تسلسل الأفكار، رواية كان السرد فيها مسيطر على أبسط التفاصيل حتى أنه استقطب العقول، واستولى على لب القلوب، جمعت الرواية بين الجغرافبا والتاريخ معًا فى كونها تصف الزمان والمكان بدقة متناهية، رواية غنية بالمعلومات، والقصص الثمينة التي رصدت تطور حياة افندينا محمد علي وأسرته أبان حكمه مصر، الرواية فيها الكثير من الأقتباس من القرآن الكريم ، حيث شبه الكاتب حلم محمد علي بحلم عزيز مصر الذي فسره له سيدنا يوسف عليه السلام ،استخدم الكاتب القرآن الكريم والحكم والأمثال كشواهد رائعة اضافت على الرواية سلاسة الأسلوب، وإبراز الحقيقة فى ثوب صور بلاغية غاية فى الإبداع، بينت الرواية مميزات افندينا وعيوبه، وما ترك من أرث علمي كبير داخل القصور وبين عامة الشعب، حيث أرسل البعثات للتعلم، واستجلاب من يتقن اللغات الأجنبية لتعلمها، من ثم بيان أهمية الترجمة والصحافة والطباعة، فكان عصر نهصة عادت بالفائدة على مصر والعالم العربي بالكثير، بين الكاتب أن رغم ما وصل إليه محمدعلي من مكانة عالية الإ أنه كان يرى الحكم ثقل بغيض، وقيد حامي وهم دائم، وكابوس مخيف يقلق منامه ويقظته، ومما يميز الرواية أن الكاتب استخدم اللغة الإنجليزية إلى جانب العربية فكانت بعض الكلمات مكتوبة بالانجليزية، ووضع توضيح فى الهامش لمعاني بعض الكلمات التركية القديمة ،، أيضا قدم الكاتب شرحًا وافٍ عن مرض (الصرع)Epilepsy وكيفية التعامل معه فى حال تعرض أحد الأشخاص ، استخدم الكاتب الخط الديواني ليميز به الرسائل لتزداد الرواية بهاءً وجمالًا، وفى إشارة تنبهية إلى دور الرسائل الجنس الأدبي القديم الذي انتهى العصر الحديث، أرى أن الكاتب اتصف بصفات الشيخ صفاء الدين الكاتب الذي كتب التاريخ ، ووثق الحياة الاجتماعية والإقتصادية ، السياسية، الأدبية ، والعلمية فقد ملئت رواية أفندينا البر والبحر والحضر والبدو وما عداها، فكانت كسفينة نوح تحمل الإعجاز اللغوي والبياني ، وبين جنباتها يدور ألف حدث وحدث ، وصف الكاتب الكلمة بأبلغ مايكون من الأوصاف فجعلها نارًا للجائر، نورًا للعادل، فى سجع جميل مبدع.
أشار الكاتب إلى أن السلطة مفسدة أن لم تستخدم فيها العقل والتدبير والحكمة ، الجميل فى الرواية أيضًا أن الشيخ الجبرتي كان معلمًا ناصحًا أمينًا ينقل خبرته بصدق المجرب، فأشار الكاتب أيضا إلى اهمية أن يكون الكاتب مثالى نابغ وأن يترك أثر صدقه فيما يدون من أخبار مرصودة التواريخ ، كاملة الأدلة والشواهد، ما يميز الرواية أن الكاتب جعل البسمة تعلو وجه كل قارئ، لما فيها من جمال المعاني البارقة والمكنونة ، ولم يغفل الكاتب عن دور علامات الترقيم فكان استخدامه لها لافتًا للنظر عند كل عبارة، فى ومضة بارزة طرح الكاتب فى روايته صفات الصحفي الأصيل الأمين الذي يكتب بضمير، دون تحيز لشخص أو نظام ، لكي ينقل الأحداث على حقيقتها للأجيال فى قوله: " لهؤلاء الآتين بعدنا أكتب علهم أن يستخلصوا من أوراقنا عظة أو حكمة تنفعهم أو تقيهم شر أخطائنا "
أبدع الكاتب فى استخدم اللغة العربية، وفي ذلك دعوة غير مباشرة لاستخدام لغتنا الجميلة، كما أن ذلك يساعد على انتشار الرواية ، لتصل لأكبر عدد من القراء فلا تمنعها لهجة ولا استهجان من غريب اللغة، أيضا نبه كتاب التاريخ من الوقوع فى فخ المعلومات المغلوطة، ومخالفة الحقائق، وأن لا يميل لهوى نفسه، كما قال شيخ المؤرخين ابن خلدون، وأشار للحرص على أمانة القلم والكلمة، لتبقى كما جاء في اقتباسه من القرآن الكريم: " سراجًا وهاجًا ".
نوه الكاتب لأهمية قراءة التاريخ والتعرف على مباحثه، والغرض منه، وكيف نوظفه ونستقيد منه، عن طريق البحث والتدقيق، وتسجيل التفاصيل بكل ما فيها، ومن ثم نأخذ منها ما نصنع منه حدثا رفيعا.
وفي لمحة ذكية أشار الكاتب إلى أهمية علم الأعشاب فى الطب والاستفادة منه (حيث كان سائدا آنداك فى عصر محمد علي ) ، كما ربط الكاتب بين أحداث قديمة وأخرى معاصرة، عندما حكى عن حفر الوالى محمد علي لترعة المحمودية، ثم إعادة حفرها وتطهيرها بعد 200عام، قرنين من الزمن حين أعيد افتتاحها عام 2020م. أن التاريخ يعيد نفسه، وستنهض مصر ثانية، بسواعد ابنائها.
الرواية استخلصت من ثلاثة وثلاثين مرجعًا ما يفيد السرد ويوثق التاريخ، أظهرت لنا أهمية الحفاظ على التراث كثروة وطنية، ومدى خطورة سقوطه في أيد من لا يثمنونه من غوغاء أو جهات معادية. أشارت الرواية إلى عصر النخاسة، .تجارة الرقيق وتسليع البشر، وهو من أبشع صور استعباد الإنسان، لإنسان آخر. ولقد أظهرت لنا الرواية أن سببًا من أسباب أغتيال الوالى عباس حلمي الأول، هو توظيف عمته الأميرة نازلي، لغلظة قلبه مع خدمه وغلمانه الذين يقمون على خدمته، ودسها لإعوانٍ لها بينهم، ليستغلوا ساعة سقوطه بنوبة من نوبات الصرع مغشيا عليه، لقتله. وتلك بشاعة أخري من سقطات أبناء آدم.
قدمت الرواية درسًا لغويا كاملا، ودمجت مجموعة قصص كثيرة متعددة وأحسنت ربطهم ببعض، حتى شكلت بنيانًا مرصوصًا متماسكا، وأجاد الكاتب في صنع بداية مشوقة وخاتمة محبوكة، وقسم الرواية تبعًا لتاريخ وقوع الحدث وزمانه ومكانه، جمع الكاتب بين الخيال والواقع، وأعاد للقارئ شغف قراءة التاريخ، بعد أن توقف كُتاب الدراما و المسرح عن كتابة التاريخ لفترة من الزمن، ومن منظوري الخاص أن تصور الرواية فى عمل درامي ، يصل إلى أرجاء المعمورة، لتكون للتاريخ شاهد.
لملم الكاتب الحكايات المتواترة عن حادثة مقتل الوالي عباس حلمي الأول، كمحقق بارع يجمع الأدلة ويضع البراهين، وعاد بالقارئ لقراءة تاريخ مصر والتعرف على حكامه، وجعل من الرواية مرجعًا تاريخيا للباحثين والقراء يسهل الرجوع إليه، وشريطا سينمائيا مرأيا يعيشه القارئ فى سينما رائعة الفصول، وفى خاتمة الرواية بين لنا الكاتب أهمية الوقت، إذ سجل لنا ساعة انتهائه من كتابة الرواية، في الساعة الثانية ظهرا بتوقيت القاهرة، والمفارقة أني انهيت كتابة رؤيتي للرواية في الساعة الثالتة ظهرا، بتوقيت مدينة سبها- ليبيا.ِ