أصواتٌ في الفراغ: أطلالٌ تهمس بلا صدى! - منتديات أبعاد أدبية
 
معرفات التواصل
آخر المشاركات
وكأنّي لم أرحل. (الكاتـب : عُمق - آخر مشاركة : جهاد غريب - مشاركات : 6 - )           »          اعترافاتٌ تُكتَبُ بِنارِ الرُّوحِ وقَبضَةِ القَمَرِ! (الكاتـب : جهاد غريب - مشاركات : 2 - )           »          حين اختار القلب أن يصمت! (الكاتـب : جهاد غريب - مشاركات : 0 - )           »          مخطوطة الحلم والنار ... (الكاتـب : بسام الفليّح - مشاركات : 0 - )           »          جُب حظي (الكاتـب : غازي بن عالي - آخر مشاركة : نادية المرزوقي - مشاركات : 1 - )           »          اقرأ الصورة بمِدادٍ من حبر (الكاتـب : نواف العطا - آخر مشاركة : محمّد الوايلي - مشاركات : 2921 - )           »          جُمُوحُ العَاطِفة (الكاتـب : محمّد الوايلي - مشاركات : 1782 - )           »          كلي أرق (الكاتـب : غازي بن عالي - مشاركات : 12 - )           »          فواصل شعرية ( 3 ) العيد (الكاتـب : نوف الناصر - آخر مشاركة : غازي بن عالي - مشاركات : 25 - )           »          أصواتٌ في الفراغ: أطلالٌ تهمس بلا صدى! (الكاتـب : جهاد غريب - مشاركات : 0 - )


العودة   منتديات أبعاد أدبية > المنتديات الأدبية > أبعاد المقال

أبعاد المقال لِكُلّ مَقَالٍ مَقَامٌ وَ حِوَارْ .

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم يوم أمس, 06:29 PM   #1
جهاد غريب
( شاعر )

الصورة الرمزية جهاد غريب

 






 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 9107

جهاد غريب لديها سمعة وراء السمعةجهاد غريب لديها سمعة وراء السمعةجهاد غريب لديها سمعة وراء السمعةجهاد غريب لديها سمعة وراء السمعةجهاد غريب لديها سمعة وراء السمعةجهاد غريب لديها سمعة وراء السمعةجهاد غريب لديها سمعة وراء السمعةجهاد غريب لديها سمعة وراء السمعةجهاد غريب لديها سمعة وراء السمعةجهاد غريب لديها سمعة وراء السمعةجهاد غريب لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي أصواتٌ في الفراغ: أطلالٌ تهمس بلا صدى!


أصواتٌ في الفراغ: أطلالٌ تهمس بلا صدى!

"أصواتٌ تنتظر... لعلّك تكون أنت الذي يسمع"


كأن الزمن نسيَ أن يطويَ الصفحة الأخيرة من الماضي، فظلّتْ معلّقةً كورقة خريفية لا تدري إن كانت ستسقط أم تُحتضن، بين رياح الغياب وأشجار الرجاء. تلك الأصوات التي كانت تملأ الأركان بالحياة، ما عادت تُسمع، لا لأنها سكتت، بل لأننا نحن من أغلق أبواب الإصغاء.

في كهفٍ منسيّ، نحيبٌ يحاكي دقات قلبٍ قديم. كان النحيب ذات زمنٍ صوتَ توبةٍ أو رجاء، لكنّ من نُوديَ باسمه انشغل بعالمٍ لا يسمع فيه إلا ضجيج ذاته. صخورٌ تلتقط أنفاسه الأخيرة، ثم تخلد إلى صمتها، كأنها تخبئ سرًّا لم يعد لأحدٍ حقُّ معرفته. لم يكن النحيب ضعفًا، بل ذاكرةَ رجاءٍ لم يجد من يواسيه، فذبل في داخله الصوت، كما تذبل الوردة حين لا يُشمّ عطرها.

يرتفع الأذان في الأفق كنداءٍ منسيّ، يخترق الغبار المتراكم على الأرواح، لكن لا أحد يجيبه. ما فائدة الدعوة إذا كانت الأرواح مغلقة، والقلوب مسافرة في حقائب فارغة من النور؟ كانت المآذن تعرف أسماء العائدين، وتحتفظ بدموع التائبين، أما اليوم فهي تنادي على غرباء لا يعرفون حتى كيف تكون العودة. لا تزال الآيات تُتلى، لكن بعض الألسنة تقرأ دون أن تُنصت، وبعض القلوب تُصغي دون أن تخشع.

أنينٌ آخر، لا يشبه الألم بل يشبه السؤال: لماذا هُجر المكان؟ صوت الشيخ العجوز الذي كان يعلّم الأطفال "اقرأ" لا يزال عالقًا في الجدران، لكنّ الجدران نفسها لم تعد تقرأ شيئًا. الطباشير التي كتبت الحروف الأولى صارت غبارًا، واللوح الخشبي الذي كان يلمع من أثر الكلمات، الآن باهتٌ كأنه لم يُكتب عليه شيء. وحدها الأرواح القديمة تتذكّر، تتحسّس النقش الباقي على الحجارة، وتهمس بخوف: "كم مرة قلنا إن العودة قريبة، لكننا لم نعد؟"

في جوف البحر، على صخرةٍ تنام بين الموج والملح، تستقر أغنية يتيمة. لا أحد يتذكر متى غُنيت لأول مرة، ولا من كان صاحبها. وحده البحر يحتفظ بنبضها، يهمس بها للشطآن حين يشتد الحنين. لكنها، رغم كل شيء، تظل عالقة هناك، لا تتحرر، ولا تُنسى، كأنها وعدٌ لم يُوفَ، أو حبٌ لم يُعترف به. الأغاني التي لا تجد من يردّدها، تموت واقفة، كالأشجار التي لا تزورها العصافير.

وفي مكانٍ أعمق من البحر وأبعد من الصوت، تاه نداءٌ في دهاليز الروح. نداءٌ لم يكن استغاثة، بل توقًا... لحضن، أو يقين، أو ربما ضوء صغير خلف باب مغلق. ظلّ الصوت يرتدّ بين الجدران الداخلية، يصطدم بالخوف، والخذلان، والذكريات التي لم تُشفَ بعد. وكان كل ارتداد، وكل صدى، يبدّده أكثر. لم يكن أحدٌ هناك ليفتح الباب، أو حتى ليسأل: من الطارق؟ لقد اعتادت الأرواح على الإنكار، حتى صارت لا تعترف بصوتها حين يصرخ من الداخل.

وعند آخر المحراب، على رمادِ سجادةٍ قديمة، يرتجف دعاءٌ مكتوم. دعاءٌ لم يُرفع بصوت، بل بوجع. قد يكون صدى أمٍّ أفنت قلبها في الرجاء، أو نَفَس نبيٍّ ضاق بصبره الطريق، أو حشرجة عاشقٍ أراد أن يُحسن لكنه ضلّ درب الفهم. لا هو صعد إلى السماء، ولا سقط إلى الأرض، فقط ظلّ عالقًا بين الحناجر والغيوم، يطفو كأنه ينتظر نفسًا تُؤمن، أو دمعة تُوقظه. هو دعاء بلا وجه، بلا توقيع، بلا زمن، لكنه حيٌّ، لأن الإخلاص لا يذبل، وإن نُسي.

وهذه الأصوات التي نتحاشاها ليست أشباحًا؛ نحن من تخلّى عن ملامحه، وتحوّل إلى أشباحٍ نعبر المرآة دون أن نجرؤ على مواجهة انعكاسنا. نرتدي أقنعةً شفافةً نظنّها تخدع الزجاج، وننسى أن المرآة لا تعكس الملامحَ بل تُظهرُ ما أنكرته الأرواح. حين نغلق أعيننا أمامها، لا نختفي، بل نتحوّل إلى ظلٍّ يرتعد أمام ذاته، كطفلٍ يُغمض عينيه ويظنّ أن العالمَ قد اختفى.

نبرع في تزيين الهروب: أصابع ترتعش فوق الأقلام، وآذان تختار الصممَ المريحَ على سماع الحقائق التي تقشعر لها الأبدان. نطفئ المصابيحَ كي لا نرى ما يفضحه الضوء، ثم نعوي كالذئاب في الظلام الذي نسجناه بأيدينا. الكلماتُ لا تموت، بل تفرّ منّا كأسماكٍ تحت جليدٍ سميك، حاملةً كلَّ الاعترافات التي أخفيناها حتى عن ضمائرنا.

تلك المرآة التي لا تكلّ تظلّ تعيد إلينا، بلا رحمة، كلَّ ما دفنّاه: نظرات التهرب، وألسنةً تبتلع الكلام، وقلوباً تتوارى خلف أقنعةٍ شفافةٍ تكشفُ عوراتنا أكثرَ مما تسترها. وحين نجدُ الشجاعةَ أخيرًا لنفتح أعيننا، نكتشف أننا كنا طوال الوقت نراقب ذواتنا من بين فراغاتِ أصابعنا المتشابكة، كأطفالٍ يظنون أن الاختباءَ خيارٌ وليس هروباً.

فلا شيء يموت حقًا... الأصوات تبقى، تختبئ في صدورنا، على الأرصفة، خلف النوافذ، وبين سطور لم تُكتب. فقط، نحتاج أن نصمت بما يكفي لنسمعها.


جهاد غريب
يوليو 2025

 

جهاد غريب متصل الآن   رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:40 PM

الآراء المنشورة في هذا المنتدى لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الإدارة

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.