من بعيد \ قصة قصيرة \ د. علياء الداية
من بعيد جاء، اقترب أكثر، و جلس إلى جوارها، تماماً في الحيّز الفاصل بينها و بين يد المقعد، في الموقف حيث تنتظر الحافلة، و فجأة التفتَت إليه : من أنت ؟
أنا الموت. أجابها بصوتٍ بشري بدا أليفاً جداً، كأنها سمعته عشرات المرات.
و تسأله أيضاً : و ماذا تريد ؟
نظراته عميقة كأنها مغارة نسيها الزمن و الجغرافيا على هامش التاريخ و الأطالس :
سآخذك معي ! و تمسك كفُّه بيدها فتسقط أرضاً المفاتيح التي كانت تعبث بها قبل قليل. تميل و تلتقط بيدها الأخرى حزمة المفاتيح. تتأملها قليلاً ثم يسرح بصرها في الشارع الذي لم يُفلح القتال الدائر في الجوار في التخفيف من ازدحام المارة و السيارات فيه.
كَفُّ هذا الموت دافئة توحي باطمئنان غريب. يا له من رحيل جميل، بلا تعب و لا ألم. سأمضي معه إذن إلى ... إلى أين ؟
سيارات زرقاء، بيضاء، سيارات أجرة صفراء، و الحافلة ما تزال بعيدة جداً في أقصى الشارع الطويل قبل الإشارة. لقد اضطروا إلى تغيير اتجاه الشارع مع ضيق فسحة المدينة، بعد أن كان السير من ذاك الاتجاه سابقاً، صار في الاتجاه الآخر منذ سنتين. هذا جيّد على أية حال، من أجل كسر روتين الذكريات، و الاحتفاظ بوجهة الأيام.
إنّه الموت إذن، تلتفت إليه، فتجده مثلها، منشغلاً بمتابعة حركة الشارع، هل يختار، يا ترى، ضحيته القادمة ؟
و تعود إلى تأمل الشارع، و تنظر هذه المرّة نحو السماء، إلى حيث رحلت أرواحهم، أولئك الضحايا، " لم يكونوا محظوظين مثلي، لم يأتِ إليهم الموت بأناقة و بهاء، و لم يجلس إلى جوارهم برهة يمنحهم صحبته، بل ذهبوا هم إليه. شظية القذيفة التي أصابت صديقتها، و التي بكت طويلاً على فقدانها. و ذلك الجار الذي قتلته رصاصة طائشة و هو في الطريق المعتاد الذي تحف به الأشجار. عمّتها التي ماتت و هي تشعل الشمعة بجوار مولد الكهرباء، البنزين الذي اشتعل، و الكارثة، و الحريق وسط الظلام الدامس." الرصاص في كل مكان، الشظايا في كل مكان، الحزن، الألم، الضياع، و ... الحياة في الشارع أمامها.
كانت كمن يستيقظ حين أحست ببرودة كف الموت تتسلل إلى يدها، أرادت أن تحرّكها فلم تستطع. التفتَت إلى الموت، كان أشبه بجليد شفاف و هو متحجّر في نظرته ذاتها إلى الشارع، و قد اختفى صوته الحنون و غامت عيناه. و لكنه مطبق على يدها بقوّة.
" أتراني سأذهب معه ؟ هل تجمّد فعلاً أم أنها حيلة منه ؟ "
و تفطن إلى المفاتيح التي ما زالت في قبضتها الأخرى، و قبل أن يسري الخدر من يدها، تقترب بالمفاتيح من الجسد المتحجر إلى جوارها، ضربة على الكتف، اثنتان، و ... ينهار الموت متفتتاً كأنه لم يكن، نُثارات على المقعد، و على أرضية الرصيف الكالحة، و المارة يعبرون، و بعضهم واقف كأنه لا يرى شيئاً !
وحدها كفّ الموت تبقى معلّقة بيدها، بلون الحجر. تعيد المفاتيح إلى حقيبتها، و ببطء تفكّ الكفّ، و تسندها برفق إلى جوارها على المقعد. تتجاوز الحافلة المكتظة التي لن تجد لنفسها مكاناً فيها، تغادر المكان مهرولة و هي تقطع الشارع إلى الضفة الأخرى.