(6)
أطلال حزينة سوداء تتصاعد منها الأدخنة كالزفرات الحارة..
هذا هو ما تبقى من كوخك يا حسن ..
ليلى لم تدر ما تقول أو تفعل.. تراجعت للخلف خشية تهور العجوز الذي وقف يحدق في الكوخ ذاهلاً.. يرفع بندقيته ثم يخفضها.. يدور حول نفسه.. تدور الأرض من حوله.. راح كوخه.. راحت كتبه..
ألقى البندقية وارتمي في أحضان الأطلال الباقية.. مرغ وجهه في الرماد الحار.. ثم قام وقد تحول وجهه إلى كتلة غضب سوداء مبهمة الملامح وفي وسطها جذوتين من لهب مستعر ..
هل كان كل ذلك يستحق؟..
سمع النشيج من خلفه فاستدار إليها ببطء.. هالها منظره المخيف فوضعت كفها على فمها لتكتم بكائها..
لم يقل لها سوى عبارة واحدة مقتضبة:
ـ لم يبق لي غيرك يا ليلى..
انسابت الدموع الحارة على خديها وهي تردد :
ـ أنا التي جلبت الوبال على رأسك..
التقط البندقية ووضعها على كتفه ثم اتجه للسيارة قائلاً :
ـ بل هم الذين جلبوا الوبال على رؤوسهم..
ركبت بجواره وجلسا صامتين لبرهة.. ثم مدت كفها بحذر وحاولت أن تمسح الرماد الأسود عن وجهه .. سألها بصوت مشروخ:
ـ تعرفين كيف نجدهم؟
مسحت دموعها هي فلطخت وجهها بالهباب.. قالت :
ـ إنه وكر يعج باللصوص.. هذا يعني أن مصيرنا لن يختلف كثيراً عن مصير الكوخ..
ـ دليني فقط على الطريق..
قالت باستسلام :
ـ اتجه شمالاً..
***
مشهد الغروب الحزين يغلف الصحراء المترامية خلف وكر دان..
على مقربة من أكوام الخردة والمسروقات التي تحيط بالكوخ، قام الرجال بإشعال النار والجلوس حولها استعداداً لبرد الليل القارص، فجو الصحراء المتقلب يريك فصول السنة الأربعة على مدار اليوم والليلة..
دان في غرفته الخاصة في قلب الوكر يستمتع بفحص شرائحه الذكية.. إنهم لا يحتاجون لمثل هذه الأشياء هنا في الصحراء، لكنه أقنع رجاله بأن الأمر بالنسبة إليه أشبه بهواية جمع الطوابع النادرة والغالية، ولقد دفع ثمن هذه الكذبة حينما أغرت لوسي بسرقة بعض هذه الشرائح والفرار من قبضته طمعاً في بيعها لأحدهم..
لكن الحقيقة هنا إنه يجمع من خلال تلك الشرائح تاريخ مئات البشر، لديه سجل كامل لحياتهم، يمكنه عن طريق جهاز معقد صغير سرقه من إحدى الوحدات الشرطية أن يسرد كل تفاصيل أصحاب تلك الشرائح. بعض التفاصيل تكون خاصة جداً، لذا كانت تلك هي متعته الخاصة حينما يدخل الليل..
يقرر أن يمارس دور النخبة الأممية حينما تحصي أنفاس البشر وتتجسس على أدق تفاصيل حياتهم..
تلك الشريحة كانت مع أم ربيبته لوسي.. مازال يذكر ذلك اليوم جيداً.. كانت تدعى ليلى.. لقد حصل على تذكاره الخاص منها وهي تجود بأنفاسها تحت وطأة الحمى.. عرف قصتها كاملة من شرائحها الذكية، وقرر أن يسدي لها معروفاً في ابنتها الرضيعة.. سيجعل منها لصة محترفة.. وسيسميها لوسي كذلك على اسم فتاته التي ماتت بالسلالي العام الفائت.. لكنه لم يستوعب أن الدماء التي تجري في عروقها دماء إسماعيلية وأنها ستخونه مع أول إسماعيلي تقابله..
صب لنفسه كوب من الديسكافيه.. ذلك المشروب السحري الذي يسرقه بانتظام من مقاطعات الشريحة جـ.. وجلس يتسلى بمشاهدة ما تبثه الشرائح المتنوعة من معلومات وصور ومشاهد ثلاثية الأبعاد.. هذا حريق ضخم في مكان ما.. يبدو أن صاحب تلك الشريحة كان يعمل في فرق الإطفاء.. هناك مشاهد نيران وأدخنة وجثث متفحمة.. خيل إليه كأن الأدخنة غادرت إطار الصورة المبثوثة وبدأت تنتشر في أرجاء الغرفة.. وحينما سمع صوت الانفجارات خيل إليه أنها تدوي من حوله بالفعل لكنه عزى ذلك للجودة العالية لذلك الفيديو الذي يشاهده..
لكن هل تصل جودة الفيديو إلى حد يجعله يشم بالفعل رائحة شياط ..
هنا انتفض قائماً وجرى ناحية الباب.. لكن لم يكد يضع يده على المقبض حتى أطلق صرخة مدوية، وتراجع وهو يرفع كفه أمام عينيه المتسعتين.. كان هناك حرق بشع في راحته بحجم مقبض الباب..
صرخ :
ـ إلي يا رجال !
لكن انفجار مروع أطاح بالباب، واندلع عبره لسان من نار لفح وجهه فارتد للوراء وهو يصرخ مدارياً وجهه بساعديه..
***
بالخارج اكتشف الرجال الجالسين الكارثة مبكراً..
وحينما هرولوا بدلاء الماء ناحية ألسنة اللهب التي اندلعت بين أكوام الخردة أطاح بهم أول انفجار..
بعدها توالت الانفجارات وتحول الوكر في ثوان إلى قطعة من اللهب..
ومن بعيد جلست ليلى داخل سيارة حسن ترقب المشهد وقلبها يخفق بقوة.. ثم فجأة شعرت بأحدهم يقفز بجوارها على مقعد القيادة فكاد قلبها يطير..
ـ لقد انتهيت..
قالها حسن بهدوء شديد، ثم جلس معها يراقب المشهد المهيب.. الانفجارات ما زالت تدوي حيناً بعد حين.. ومع كل انفجار تتألق عينا حسن بنشوة ظافرة..
قالت ليلى بأنفاس مبهورة ووهج النيران ينعكس على قسمات وجهها:
ـ أنت فعلت كل هذا وحدك!
قال حسن بعين لا تطرف:
ـ العين بالعين..
ثم أردف:
ـ هناك مثل يقول: من كان بيته من زجاج فلا يقذف الناس بالطوب.. لقد أحرق دان كوخي ونسي أن مخزنه قنبلة موقوتة.. إنه مليء بالوقود وأسطوانات الغاز وغيرها.. وأنا مازالت خبراتي السابقة تلح علي.. كنا قادرين على إحداث دمار شامل بأشياء لا يمكن تصورها.. أشعر أنني عدت للوراء أكثر من ربع قرن..
هنا لمحا سوياً تلك السيارة التي انبثقت فجأة من قلب الجحيم.. واندفعت بكل سرعتها في قلب الصحراء.. كان بداخلها رجل واحد..
صاحت ليلى :
ـ هذا هو دان..
أصر حسن على أسنانه وهو ينطلق خلف سيارة الأول كالسهم ..
ـ تشرفنا!
سألته في لوعة :
ـ ماذا ستفعل معه؟
قال بتلقائية وهو يدير المقود:
ـ سأقتله..
في نفس الوقت كان دان ينظر لهما عبر مرآة سيارته ..
ـ لوسي و الإسماعيلي العجوز!..
و ضرب على المقود بيديه مردفاً في غل:
ـ ليكن.. هيا.. تعالوا.. تعالوا خلفي..
بالرغم من دمار وكره، ومصرع رجاله، والحروق التي طالت وجهه وذراعيه، إلا أنه كان سعيداً لأنه استطاع إنقاذ شرائحه الأثيرة.. كل شيء يمكن تعويضه إلا الشرائح..
زاد من سرعته موغلاً في قلب الصحراء، ومن خلفه سيارة حسن المكشوفة.. يشقان الصحراء الناعمة في خطين متتابعين.. ثم التحم الخطان ليصرا واحدا.. وصارت المسافة بينهما تتضاءل.. وتتضاءل..
ـ تعالي إلي يا لوسي الساقطة أنت وحبيبك المومياء..
قالها دان و ضغط على الفرامل فجأة لكي تصطدم به سيارة حسن..
لكن الأخير أدار المقود بسرعة لتنحرف سيارته في اللحظة الأخيرة وتتفادى الارتطام القاتل.. صرخت لوسي بينما تناثرت الرمال على شكل دوامة وعربة حسن تدور حول نفسها.. وحينما نجح في السيطرة عليها كان دان قد انطلق بسيارته ثانية وهو يقهقه..
ترك حسن المقود لليلى وشهر بندقيته باتجاه سيارة دان..
ضغط الزناد وهو يتمنى أن يفعلها بهذا الوضع الحرج، لكن طلقاته طاشت كلها بعيداً عن جسم السيارة.. لابد أن يعترف لنفسه : أنه لم يعد كما كان.. التصويب من سيارة مسرعة فوق الرمال الغير ممهدة.. تلك كانت لعبته الأثيرة أيام خدمته في الجيش.. أما اليوم فهو بحاجة لأرض ثابتة ليقاتل عليها.. أما اليوم، فهو في معركة حقيقية وليس في تدريب..
تهتز السيارة.. ترتفع وتنخفض.. الأيام الخوالي تتراءى لناظريه.. فيختل توازنه.. وفي أخر لحظة يتماسك قبل أن يسقط من العربة المسرعة..
ليلى تتضرع إليه كي يجلس، فيلتفت إليها هاتفاً بحرقة :
ـ لقد أحرق منزلي يا ليلى.. ذلك اليهودي أحرق منزلي.. لماذا لا تفهمين؟
انكمشت في مقعدها وهي تنظر له في رهبة.. لقد بدا لها للحظة وكأنه يناضل من أجل شيء أخر أكبر من كوخه.. ربما أكبر من تلك الصحراء المترامية أمامها..
كأن هناك ثأر موغل في القدم بينه وبين دان الذي واصل الانطلاق بسيارته وهو يترنم بانتشاء :
ـ هافا ناجيلا.. هافا ناجيلا.. هافا ناجيلا فينسماخا..
( لنفرح.. لنفرح.. لنفرح ونسعد )
ومن بعيد تبدت أمامه تلك الأسوار المحاطة بالأسلاك والأبراج، فتألقت عيناه متمتماً في جذل:
ـ وصلنا إلى بر الأمان..
وواصل الترنم بصوت أعلى وهو يهتز بنشوة :
ـ هافا نرنينا.. هافا نرنينا..
( لنغني.. لنغني )
انعقد حاجبي حسن حينما لمح المشهد..
ـ هذه قاعدة عسكرية ..
عقبت ليلى :
ـ إنها كذلك.. دان له علاقات وطيدة معهم.. ولاشك أنه سيلجأ إليهم لحمايته..
ثم نظرت له في قلق وأردفت:
ـ إنها نهاية الرحلة بالنسبة إلينا..
نظر لسيارة دان وهي تواصل الانطلاق باتجاه القاعدة وشعر أن عقله قد توقف عن العمل..
هافا نرنينا فينسماخا..
تمتم من بين أسنانه :
ـ النخبة.. لطالما حالت بيننا وبينهم..
سألته ليلى بغباء:
ـ بينكم وبين من؟..
التفت إليها صائحاً :
ـ اتركي لي القيادة..
عورو.. عورو..
( استفيقوا .. استفيقوا..)
صاحت:
ـ لقد اقتربنا أكثر من اللازم..
تجاهل حسن صياحها وهو يركز على سيارة دان، التي أخرج منها الأخير كفه براية تبدو وكأنها شارة متفق عليها بينه وبين حراس الأبراج؛ كي يسمحوا له بالعبور..
لكنهم طبعاً سينسفون أي ذبابة تفكر في العبور خلفه..
عورو.. عورو
عورو أخيم بِلِف سَمِيّاخ..
( استفيقوا يا إخوان بقلب سعيد )
عورو أخيم بِلِف سَمِيّاخ..
عورو أخيم بلف سمياخ ..
عورو أخيم..
عورو أخيم..
عورو أخيم..
بلف سمياااااااااااخ..................
***
فجأة ظهر أمامه ذلك الجمل الشارد ..
وبتلقائية أدار دان المقود وهو يطلق السباب..
ومن بعيد كان المشهد بالنسبة لحسن ولوسي خرافياً..
سيارة دان انحرفت فجأة وهي بأقصى سرعتها، لتتفادي الارتطام بسفينة الصحراء.. فانقلبت عدة مرات متتالية قبل أن تزحف مسافة لا بأس بها وسط عاصفة من الرمال..
وتوقفت أخيراً بعد أن تحولت إلى كتلة معدنية مبهمة الملامح..
بينما واصل الجمل طريقه بلا مبالاة وكأنه لم يصنع شيئا..
وحينما وصل حسن إلى موضع الحادث، أوقف السيارة وقفز منها متجهاً ناحية سيارة دان المعجونة ليشفي منه غليله.. اتجه إلى موضع كابينة القيادة وانتزع بابها وألقاه جانباً، ثم مد يده ليمسك بتلابيب دان ويجذبه خارجاً ..
كان دان حياً وإن كانت جراحه تقول أنه لن يستمر كذلك طويلاً..
هناك جرح قطعي في البطن تتدلى عبرها أمعائه بالإضافة للدماء التي كانت تغرق وجهه المحطم.. تقلصت قبضة حسن وهو يتردد في سحق ما بقي من عظامه.. ثم ترك جسده على الرمال وتراجع بظهره للخلف..
سمع شهقة ليلى من خلفه ففهم أنها رأت المشهد البشع ..
ـ لوسي.
كانت هذه من دان وهو يرنوا إلى ما وراء كتف حسن.. حيث وقفت لوسي واضعه كفها على فمها ودموعها تنساب في صمت..
ـ ساعدني يا لوسي.. أنا الذي ربيتك..
قال له حسن :
ـ جرحك قاتل.. لا يستطيع أحد مساعدتك.
حاول دان أن يرفع طرفه ليري ما حل ببدنه ثم تأوه وسقط رأسه للخلف..
ـ أدن مني أيها الإسماعيلي..
تقدم منه حسن ومال على صدره ليسمع ما يريد قوله.. كانت شفته ترتجف وصوته يزداد ضعفاً فبدا أقرب للهمهمة ..
ـ أطلق علي رصاصة الرحمة.
هز حسن رأسه ببطء وقال :
ـ وما يدريك أنها سترحمك؟
ظهر الرعب على وجه دان الدامي وهو يهمس :
ـ لا تتركني أتعذب طويلاً.. أرجوك.
رمقه حسن بنظرة طويلة ساهمة.. ثم مال على أذنه وقال شيئاً..
أصغى إليه دان وصدره يقعقع.. بعدها لانت ملامحه تدريجياً وبدا وكأنه يحاول جاهداً تحريك شفتيه ليقول شيئاً بدوره..
ليلى لم تفهم ما يدور هناك لكنها لم تجرؤ على الاقتراب..
وأخيراً نهض حسن وهو ينفض كفيه.. التفت لليلى فرأت على وجهه التأثر..
ـ مات؟
أومأ لها برأسه إيجاباً، واتجه ناحية سيارته..
لكن فجأة ثارت عاصفة من الرمال حجبت عنهما الرؤية.. وسمعا صوت هدير فوق رأسيهما مباشرة.. لقد حركت القاعدة العسكرية إحدى حواماتها من أجلهم..
كان هناك جندي يصوب بندقية آلية إليهم، وصوت يتردد عبر مكبر صوت يطلب منهم عدم الحركة..
رفع حسن كفيه مستسلماً وهو يغمض عينيه كي لا تؤذيهما الرمال.. قال لنفسه وهو يسمع وقع أقدام الجنود :
ـ بعد كل هذه السنوات يا حسن.. تعود إليهم برجليك..
***