وحدي..مع القريه اتأمل فروع الشجر
كيف آتعرى وخيطان الشجن وارفـه!
آقبّل التربـه الحمـرا واشـم المـدر
وآحس بالبرد جايب لي معـه سالفـه
ماخون .. ياحرمة القريه وهذي البشر
تخون بعيونها حزنـك وهـي عارفـه
صحاك تهليل شيبانك صـلاة الفجـر
وهدهدك مدريهة اطفال وحضن عاطفه
على الاتاريك لاطفّـاك ليـل المطـر
يوم الشبابيك تشهق زفـرة العاصفـه
وآخوي الاكبر يغيب ويبتلعـه السفـر
وان جا يخبّي الحزن حزنه وانا شايفه
من بعد كنا انقتلنا من بيـوت الحجـر
قلنا العصافير طارت والسمـا زايفـه
مافي المدينه مدينه..غير انا والدشـر
يوم آخر الليل يقبلنـي علـى هاتفـه
آلـف وآدور واتخيـل مـدار القمـر
كن الدكاكيـن كعبـه والقـدم طايفـه
صحاني الهم والحيره وطعم القهـر
والعسكري نام في الدوريـه الواقفـه
_فلو تنشد الناس بغداد الحزن والظفـر
كيف المواطن تحـول عبـوة ناسفـه ؟
هي عادة الظلم؟ والا توصية موتمـر
ناس على الحـق والتاريـخ متحالفـه
:
ويحجّمون القرى.. ويهمّشون الحضـر
يجي ثلاثين عام..ودمعتـي طارفـة ,
وحدي..مع القريه اتأمل فروع الشجر
كيف آتعرى وخيطان الشجن وارفـه!
هذا النص انغماس بجزيئات الواقع , وسفر من الحياة إلى الحياة في البحث عن الإنسان وما يدور في ملكوت هذا الإنسان من صخب وتناقض وخوف ورغبة في العيش والحياة . وكعادة الفلاسفة المتأملين الجانحين للعزلة يقف الشاعر في هذا النص . ومن الكلمة الأولى فيه " وحدي " الدالة على التفرد والوحدة والهدوء والتأمل بعيدًا عن ذوات الآخرين , متأملا ما يدور حوله في هذه القرية الدالة إما على عالمه الخاص الحقيقي المحيط به وهو القرية , أو تمثل العالم بكل ما فيه من صخب وحياة
. آقبّل التربـه الحمـرا واشـم المـدر
وآحس بالبرد جايب لي معـه سالفـه
في هذا الجو المشبع بالتأمل والإحساس بالوحدة والمسكون بالوحشة , يلجأ الشاعر إلى الأرض كملاذ له من هذا الضياع أو الشتات الذهني . الأرض عنصر استقرار وثبات , يتمسك بها كل من يشعر بالدوران أو الهزة , لهذا يتمسك بالأرض " التربة " بعد ذلك التحليق الفكري في ملكوت القرية والعالم من حوله , لجأ للأرض بشكل حميمي واضح " أقبل التربة " لإجاد حالة من الإنسجام بينه وبين العالم / القرية باعتبار أن الأرض هي الركيزة لكل شيئ
ماخون .. ياحرمة القريه وهذي البشر
تخون بعيونها حزنـك وهـي عارفـه
هذ الحنين للأرض بعث لدى الشاعر حنينًا لمن يسكن الأرض , الإنسان , بكل ماضيه , وهو ماضي الشاعر وذكرياته الخاصة . هنا يعلن الشاعر ـ كما يشاء لنفسه هذا الإعلان ـ تمسكه بالأرض / القرية وهي عالمه الخاص والمشترك في هذا الصخب المادي المتسارع الذ1ي خانته البشر من حول الشاعر خيانة قاسية , والخيانة بالعين من أقبح الصفات الآدمية المرفوضة لدى ذوي الطباع السوية , وفي هذا المعنوي إسقاط معنوي للمعنى القرآني " خائنة الأعين " لتكريس حالة البشاعة المادية التي يراها الشاعر في قسمات وملامح ووجوه من حوله في تسارع محموم وراء الماديات
صحاك تهليل شيبانك صـلاة الفجـر
وهدهدك مدريهة اطفال وحضن عاطفه
" صحاك " . إن اقتحام هذه المفردة في أول هذا البيت كجرس إنذار للشاعر ولنا من الاستيقاظ من هذه الغفوة الذهنية الحالمة المجنحة , استيقاظ آخر للقصيدة وانتقال فني بها من روح الشاعر الرومانسي الحالم المستسلم لهواجيسه الخاصة والتي لا تهم الكثير من الناس إلى نوع آخر من التعاطي مع الشعر وهو الشعر الإنساني الفلسفي الغارق في تفاصيل الحياة وهموم الإنسان , هذا الإنسان المرتبط بالأرض والإنسان بشكل عالم . ففي البيت الأول تظهر القرية كعلامة جغرافية على حيّز مكاني منت الأرض يحتاجها الإنساني من أجل الثبات والإستقرار والديمومة الإدمية , وفي هذا البيت ـ أي البيت الأول ـ ارتباط بالشجر من خلال " أتأمل فروع الشجر " هذه الأشجار الدالة على الثبات والأصالة والحميمية الروحية بين الإنسان والشجر , والشجر ثابتة في الأرض كالإنسان العربي , والشجر رمز للإنسان العربي المتشبث بماضيه وتاريخه وجذوره , لهذا ينصهر بها الشاعر عن طريق التأمل " أتأمل فروع الشجر " , والتأمل من درجات الرقي الفلسفي والحس الإنساني الصادق البعيد عن تشوهات الجياة المادية . وكذلك هناك إشارة أخرى لعلاقة الإنسان بالأرض " أقبل التربة " فهذا السلوك إشارة واضحة على التصاق الإنسان بمعبودته الطبيعية الأرض الحاضنة لرفات أسلافه وصمام الأمان لمستقبل أجياله , وفي هذا السلوك دلالة مزدوجة وممزوجة من الإجحاف الفصل فيما بينهما , وهي الخنوع التام المشبع بالتقديس والإكبار لها في الوقت ذاته . كما نلحظ إشارة روحية جميلة " صلاة الفجر " هذه الصلاة الثقيلة على المنافقين , كدليل على رسوخ الروح الدينية في نفوس " شيبانه " الذين يسبقون هذه الصلاة بالتهليل والتسبيح ووالتحميد كمقدمات شعائرية لخلق أجواء إيمانية هم في صدد الدخول بها , في محاولة صادقة لا بالامتزاج بالأرض أو الإنسان مثل الشاعر , بل للامتزاج برب الأرض وخالق الإنسان
على الاتاريك لاطفّـاك ليـل المطـر
يوم الشبابيك تشهق زفـرة العاصفـه
اجترار الذاكرة يتجذر مع الشاعر , ويتواصل النزيف , نزيف الذاكرة كزخات من المطر . فتبدو أمامه ابتسامات الطفولة من خلال ألعابها وعبثها الطفولي الشفاف كــ " مدريهة " الأطفال , (وهي حبل يوضع بين شجرتين يلعب فيه الصبية الصغار , مثل المرجيحة ) , هذه الذكريات تتواصل الهطول في عرس خيالي استحضره لنا الشاعر من عالم القرية الغافي في أحضان الماضي المعتمد على إضاءات " الأتاريك " وهي مفرد " اتريك " لخلق روح الأمان والصمأنينة في نفوس القرويين , وكأنه في هذه الإشارة يستحضر ما تعيشه الخضارة المعاصرة التي نادرًا ما تنطفئ فيها الانوار بسبب المطر " على الأتاريك لا طفّاك ليل المطر " , هذا الحضور المثقل بوجع الماضي الذي تربكه زخات من المطر , قادرة على جعل المساء الهادئ ليلا بهيمًا حالك الظلمة , مما يستدعي حضور " الشبابيك " كنوافذ وحيدة على العالم الخارجي , هذه الشبابيك التي تسمع بــ " موديلات " الستائر المتنوعة , هي بوابة المرور للعالم الخارجي بصريًّا في تلك الأيام , وفي مثل تلك الظروف
وآخوي الاكبر يغيب ويبتلعـه السفـر
وان جا يخبّي الحزن حزنه وانا شايفه
في هذا البيت نفس وجودي مشبع برائحة الأنين والوجع , حضور في مرحلة الغياب وغياب يستدعي الحضور , في هذا البيت ضياع للملامح وتكريس للهوية , في هذا البيت صراع الإنسان الأزلي مع نفسه في دوامة البحث عن ذاته , وعن لقمة العيش , وعن وجوده ووجود من يعولهم . هنا يقتنص الشاعر لحظة اللقاء مع أخيه المثقل بهموم السفر وضجيج الحاجة , لكنه لقاء حزين قاسي الملامح , فعلى الرغم من لقاءه به وعلى الرغم من حضور أخيه الأكبر ومجيئه لهم , لا نكاد نلمس أي ملمح يدل على الحضور , بل لا نرى إلا الغياب والوجع من خلال حضور مفردات تدل عليه " يعيب ـ يبتلعه ـ السفر ـ يخبي ـ الحزن ـ حزنه " , وكأن اللقاء بدأ من حيث انتهى لتستمر دوامة الحياة
من بعد كنا انقتلنا من بيـوت الحجـر
قلنا العصافير طارت والسمـا زايفـه
مافي المدينه مدينه..غير انا والدشـر
يوم آخر الليل يقبلنـي علـى هاتفـه
آلـف وآدور واتخيـل مـدار القمـر
كن الدكاكيـن كعبـه والقـدم طايفـه
صحاني الهم والحيره وطعم القهـر
والعسكري نام في الدوريـه الواقفـ
يحاول الشاعر , بعد انتقاله للمدينة , اقتناص لحظات اللقاء مع من يحبّ ويهوى , لهذا يعلن تمرده على الواقع الجديد هازئًا بسماء المدينة المليئة بالزيف , وكأن ابن القرية انقلب على نفسه , أو لعل عالم المدن عالم خادع ولا بد من مجاراته , لهذا يبحث عمن يريد , لكن النفس القروية الساكنة فيه , وإن استطاع التمرد عليها لم يستطع الخلاص منها , لذا " يلف ويدور " غير أن هاجس الخوف ملازمه , فهناك اكثر من علامة توجس تحول بينه وبين ما يريد , وتقف أمامه كموانع نفسية صارمة لا علاقة للأخلاق بها بل الخوف , والخوف وحده , الخوف من الناس والواقع , والذي أشار له بــ " الهم " و " القهر " , وكذلك من " السكري " النائم في " الورية الواقفة " الذي لا يعلم متى سيصحو ؟؟ وهل حظه العاثر سيلقيه بينت يديه بعد هذا اللف والدوران ؟؟ أم سيواصل النوم حتى الظهيرة ؟؟
في هذه الأبيات صراع الإنسان الشاب مع الحياة , والبحث عن اللحظة العابرة لاقتناصها من بين أصابع القدر , فهذا الشاب القروي الذي وجد ضالته في " الهاتف " ليرتمي عليه آخر الليل مناجيًا وهامسًا بكل ما في قاموسه من عبارات الحب والغرام " يوم أهر الليل يقبلني على هاتفه " , هذا الموقف يجعلنا نستحضر صورة " شيبانه " المنكبين على الصلاة والتهليل , وهنا إشارة على تعلق الجيل الشاب بالحياة وملذاتها المادية بينما كبار السن يرتبطون بالحياة الروحية الدينية
_فلو تنشد الناس بغداد الحزن والظفـر
كيف المواطن تحـول عبـوة ناسفـه ؟
هي عادة الظلم؟ والا توصية موتمـر
ناس على الحـق والتاريـخ متحالفـه
ويحجّمون القرى.. ويهمّشون الحضـر
يجي ثلاثين عام..ودمعتـي طارفـة
سبق القول أن الشاعر قد كان يعني بالقرية العالم , وقد رأينا هذه التحويرات التي قام بها الشاعر منقلا من القرية إلى المدينة , ليدخل في العالم الخارجي لمحيطه الجغرافي , وما دام ان غذابات الإنسان هي المخرك لهذا النص ( على الأقل من فهمي البسيط له ) سواء كان هذا الإنسان الحالم بالنقاء والشاعرية والتأمل كما في اول النص , أو ذلك الإنسان الباحث عن اللذة العابرة حينما فسخ عنه رداء القرية ليكثر الدوران باحثًا عن ملذاته الحسية , تظهر بغداد الجريحة هذه الأيام بكل ثقلها الجغرافي وبعدها التاريخي الضارب في أعماق الزمن الحضاري الإنسان , لكن ليس الصورة النستلوجية الشفافة المشاعر والبهية الملامح , ( والنستلوجيا هي الحنين إلى الماضي ) بل بغداد أخرى , بغداد يسكنها الخوف والموت والدمار والعبوات الناسفة التي سلبت من الإنسان كل شيئ , لترميه في متاهات من اللا شيئ , لهذا يطرح الشاعر هذا السؤال " هي عادة الظلم وإلا توصية مؤتمر " كجلد للذات وتحقير للواقع , وللبحث عن فضاءات أكثر رحابة في التعاطي مع الوضع بطريقة لا تآمرية . نعم , طرح السؤال ولم يرجِ الإجابة , لأن كل شيئ واضح , وكل شيئ مفهوم , لذا يعود إلى المكان الذي انطلق منه , إلى المكان الذي تحركت قوافل الكلمات منه في رحلة البحث عن الإنسان الذي مُزّق قرويًّا وتم تهميشه حَضَريًّا " يجمعون القرى , ويهمشون الحضر " في محاولة مدروسة ومنظمة للقضاء على الروح الإنسانية النبيلة فيه