حياة المدن .. لم تترك لي غير سيارتي .. أخلو فيها لنفسي ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شقيٌ من ابتدر يومه بأمل .. من تصدق بالنهار لينال ثواب المساء .. قد تحسو قهوتك برائحة فيروز .. لكنّ التشوهات تشربك ، ولعلك تشنق الوقت على أكتاف الأصدقاء ولا تنتبه للخراب الذي يسكنك ، متى تتخلى عن أمانيك .. لتعيش حراً ، المستقبل كلمة اخترعناها لنواري فيها خيباتنا .. لنثرثر على موائدنا أطول ، متأخراً أدركت أن الحياة كأس فارغ .. وكلٌ منا يملؤه بوهم مختلف .
البنايات أشباح محنطة .. عيونها تدبر لك مكيدة .. أبوابها حديث يبطنه الوعيد .. تتعالى لتريك كم أنت قزمٌ صغير ، هي سرقت ترابنا .. حرمتني رائحة المطر .. والأعشاب التي تزهر كفاكهة في مرمى النظر ، تلك البناية تشبه سامي .. بغدره ولؤمه .. بالنقوش الناعمة في لسانه .. بالستائر التي يقنع بها وجهه البغيض .. والبناية في آخر الشارع تنتصب كتمثال .. تريد منا أن نقدسها .. نتذلل لها بعيوننا .. هذه البنايات نحن صنعناها .. تشبه قراراتنا الخائبة .. نرتبها خطوة بعد خطوة .. لتهزمنا عواقبها .
الصباح يلد الأشجار المنهكة .. الطيور العاطلة .. وحظي منه طريق أسود ، عرفتُ المساء في السماء بقمر يغرد .. لكن هنا ممدود على الأرض بلا قمر .. بلا ذاكرة مسكوبة في كوب الشاي .. بلا كتاب يجعل من قلبي برتقالة لذيذة ، خطوطه البيضاء نجوم ميتة .. استطالت من هول الاصطدام .. والعربات تقضي يومها تدهس الجثث .. لا تُراعي حرمتها .. هكذا هم الأموات .. يتنازلون لنا عن أجسادهم .. ولا يتسامحون في أرواحهم .
الظلام ضاع في مدينتي .. خطفته جنيات واقفة على شط الأرصفة ، كبيراً كان في طفولتي .. يندس وراء جدار بيتنا .. يلبس طاقية الشبح ويخيفنا في الأزقة الضيقة .. يعرقلنا في الممرات ويضحك .. وأظنني قبلته كثيراً في رحم أمي ، الآن ألتقيه في حجرة النوم .. أصبح صغيراً .. اقرأ آية الكرسي .. وأتركه يثرثر مع الذكريات .. هو صديقها الحبيب منذ زمن بعيد .. والذكريات تتضح أكثر في حضرة الظلام .
عند الإشارات تظهر سلمى .. بضحكتها الممتدة لآخر الطريق .. بذكرياتنا التي تتقافز على الشجر كالعصافير .. ، ولأني غاضب منها .. أتركها معلقة على الإشارة وأمضي .. تسترضيني عند البناية القادمة .. لكنّ شاحنة تمر تشوش صورتها .. أقول لها ( أحسن .. تستاهلي ) .. هي خذلتني في آخر حديث لنا .. جعلتني كعشبة مهملة على ضفاف الطريق .. كإعلان سخيف في آخر الجريدة .. الحياة قاسية.. لكنّ أقسى ما فيها أن يخذلنا من نحب .