محاولة لقراءة القصيدة مع التجرد إن شاء الله
مـا أجمـلَ البـدرَ لـوْلَا وصْمَـةُ الكَـلَـفِ
و أرْوَعَ الشمسِ لـو عَفَّـتْ عـن التَّلَـفِ
ابتدأ الكاتب بفلسفة النظر إلى أهم معلمين في السماء و هما الشمس و القمر ، فهما مؤثران في استقرار الحياة
و تحسينها ، فكان المطلع بنظرته إلى النيِّرين نظرة مقارنة بين بعض محاسنهما و مساوئهما.
البدر جميل و مضيء و مادة دسمة من مواد التشبيه لدى الشعراء و غيرهم. و مع هذا لم يخلوا من العيب و النقص .
فالبدر و هو ذاك الجرم المكتمل ضوءا و عنفوانا و شباباً لم يسلم من وصمة الكلف –بتحريك الكاف و اللام-
و هو : سوادٌ عارضٌ على الجسم الأبيض. و استعارتُه هنا مناسبة للحال .
و الشمس كذلك مضيئةٌ جميلة لكنها لم تسلم من النقص و العيب ..
تُرى هل وُفِّقَ الكاتب في كلمة (التلفِ) في التعبير عن الجانب السلبي في الشمس؟
لا أدري حسب تصريف كلمة (أتلفَ): يُتلِفُ إتلافا فهو مُتلِفٌ و مُتلَفٌ .
هل استخدم العرب صيغة فعل بمعنى مفعول في هذه الكلمة ؟
أتركه لمن هو أعلم مني.
سؤال : هل وُفِّقَ الكاتب كذلك في مطلع القصيدة ليكون عنواناً لتاليها ؟
أظنُ أنه لم يوفق لذلك ، و أن المطلع جاء توهما منه أن هذا التعبير مناسبٌ للحيرة في لغز الحياة.
و الحقيقة أنه مطلع مناسبٌ للحيرة في عدم كمال الأشياء في الدنيا لا للإشارة إلى سر الحياة أو لغزها.
سرَّحْـتُ طَرْفِـيَ بَيْـنَ الْكَـوْنِ أَفْحَـصُـهُ
حتـى مـددتُ يــدي جَـسَّـاً لـكـلِ خَـفِـي
شبَّه الكاتبُ هنا عيَنَ و نظر الفكر و العقل بالعين الباصرة و النظر العضوي.
و قوله (أفحصه) إشارة إلى قوة النظر العقلي إذ أن استخدام اليد في الفحص حقيقة و استخدامها في النظر الفكري مجاز بجامع التأمل الدقيق.
(حتى مددتُ يدي جسا لكل خفي)
يفيدُ هنا أنه من شدة إطلاق نظره العقلي لأشياء الكون و مقتنياته مدَّ يده في تفحص تلك الأشياء و المقتنيات
و تعبيره بـ(جسَّاً لكل خفي) مناسبٌ - في نظري – فال(جسَّاً) : اللمسُ بهدوء و تحسسٌ مع استجماع الحواس الراقبة
لناتج اللمس .
هل فعلاُ فعل هذا الشاعر بكل خفي؟
الجواب : بالطبع لا ؛ و لكنها استعارة لقوة التأمل حتى كأنه نظر و لمس خفي الأشياء ناهيك عن ظاهرها.
فكـلـمـا عَـــنَّ بـــرقٌ مِــــن غـيـاهـبِـهِ
ولاحـتِ الفكـرةُ الحسنـاءُ قلـتُ : قِـفِـي
صدرُ هذا البيت مناسبٌ جداً لطبيعة موضوع القصيدة ؛ إذ أن الإستعانة ب كلمة (عنَّ) معنى ظهر و (بَرْقٌ) و (غياهيه)
هو اللائق لمعنى انكشاف المجهول الخفي .
و لكنه سرعان ما يتلاشى ذلك المعلوم في نظر الشاعر ؛ إما لثقل الحقيقة المكتشفة و إما لعدم قدرة
الناظر على الحفظ لكثرة توارد الحقائق التي يُنسي اللاحقُ السابقَ. فيضطر أن يخاطب الفكرة الحسناء
بـ(قفي).
و رُحْـتُ أرسـمُ فــي عقـلـي ملامِحَـهَـا
و قد توارتْ كلَمْحِ البـرقِ فـي السُّـدُفِ
مكملٌ لسابقه.
كأنـنـي حـيـنَ أُنْـضِـيِ الفِـكْـرَ أُغْـمِــدُهُ
و رُبَّ سيـفٍ تهـاوى مِـن يَـدِ الصَّلِـفِ
يتضحُ من هذا البيت أن الشاعر ما إن يهتدي -حسب ظنه- إلى الحقيقة إلا و تغيبُ عنه أو يكتشف عدم صحتها
أنضي الفكر، أغمده.....
و كأني به يلتمس العذر لنفسه في عدم قدرته على استمرا إنضاء سيفه من غمده و تركه مشهوراً
بأن رب فارسٍ قويٍ صلِفٍ يتهاوى السيفُ من يده إما لقوة خصمه و إما لعلةٍ فيه أوهت قواه.
وارانـيَ الـدهـرُ فــي جنبـيـه يحملُـنـي
عـلـى الفَهَـاهَـةِ سِــرٌّ غـيــرُ مُنْـكَـشِـفِ
أكاد اشعر بتفكك البيت و عدم ترابطه :
ادعاؤه أن الدهر خبَّأه بين جنبيه معلومٌ ؛ و لكن ما الرابطُ بين هذا و بين قوله (يحملني على الفهاهة سرٌ غيرُ مكتَشَفِ) ؟
يكاد يكون هذا البيتُ استهلاكيا و فضلةً لا يخدم غرض القصيدة بشيء. و لو حذفه الكاتب لكان أكملَ لترابط القصيدة
و كيـف يسبُـرُ غَـوْرَ الدهـرِ ذو بصـرٍ
أعْشَى .. و يقتحمُ الهيجاءَ ذو تَرَفِ !؟
هنا أتسائل : هل نظر الكاتبُ إلى الدهر على أنه هو الحياة ؟
فتكون كلمة (الدهر) من مترادفات الحياة هنا ؟
إن لم يكن كذلك فهو إنتقالٌ من لغز إلى لغز آخر و هو الدهر ، و سيفتح الكاتب على نفسه بابا فلسفيا آخر و هو هل : الدهر هو محل الأحداث فيكون ضمن معاني الحياة ولو من بعيد أو أن الدهر هو الله بمعنى فاعل الدهر كما جاء في الحديث ( لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ) ؟؟
و كان الأولى عدم إيراد ما هو مختلف فيه في مقام التبيين الشعري. خصوصا في غرض فلسفي إلامع الإشارة إلى الترجيح لأحد معنيي الخلاف ولو بقرينة بعيدة.
و أعتقد أن هذا البيت من مكملات الغرض و ليس رئيسا فيه .
صحيح أن الكاتب وُفِقَ في نظري في هذا البيت من جهة جودة السبك و الإنسياب الموسيقي .
و كذلك في ترابط المغزى من البيت في الصدر و العجز.
و لكن كما قلتُ قبل قليل هو من مكملات الغرض في القصيدة و لا يناقش بشكل ملامس و مباشر للغرض.
فقـلـتُ لـمـا تَـنَـزَّى الـجـهـلُ يـسـتُـرُه :
عُــذْرَاً فـمـا كُـــلُ سـلـسـالٍ بمُـغْـتَـرَفِ
إنتهاءةٌ سريعةٌ من الغرض .
فهو يخاطب الجهل الساتر للحقيقة –حسب قوله- ب: عذرا...الخ
ليس كل شيء تطوله الحواس الخمس تستطيع إدراك كل أسراره .
و مـا الحيـاةُ التـي حــارتْ بـهـا فِـكَـرٌ
إلا أحَـاجِــيَّ فـــي أشـكــالِ مُـتَّـصِــفِ
و هنا يختتم أبياته الفسلسفية بتلخيص للغز الحياة بأنه شكلٌ من الأشكال و لكنها ألغاز .
الكاتبُ -في نظري- لم يتطرق لتفاصيل فلسفية كان يبنغي أن تطولها حروفه هنا ، سيما و أن القصيدة
تتكلم عن غرض كبير ، فكان ينبغي عليه إشهار التفاصيل الفسلسفية ، مثل الحيرة في كثير من سنن الحياة .
و أحوالها و تقلب تلك الأحوال ، و الكيف و المنشأ و المنتهى..
و تكاد تكون فلسفة غير مكتملة و إن كان أشبع بها الكاتب –ولو حسب ظنه و ذوقه- رغبته في المشاركة في
في الفلسفة الشعرية .
القصيدة كتبت تقريبا قبل عشر سنوات ، رجعت إليها بين ثنايا محفوظي ، و وجدتها مناسبة للتأمل و الدراسة المتواضعة
فهي قصيدتي ، نشرتها في قسم الفصيح ، و أردتُ أن يصوبني الإخوة النقاد ، و لكني لم أجد من يسمح له وقته أو رغبته في ذلك.
و كنتُ طرحت موضوعا في قسم الإقتراحات . أرجو ممن يرغب أن يقرأه .