محروم وحي الحرمان" ديوان شعري للشاعر عبد الله الفيصل, والديوان شعر وجداني, وهو تعبير مباشر عن مشاعر الإنسان من حب وكره وحنين وعذاب وسعادة, يمتاز بالانفعال العاطفي وتوهج الذات, وقد يكون موضوعاً داخلياً صرفاً أو خارجياً, غير أن الشاعر يعبِّر عنه من خلال إحساسه به, فتصوير الطبيعة ليس تصويراً مجرّداً موضوعياً يعني الشاعر فيه بأبعاد موضوعه المعقولة المحسوسة مادّياً بل يرسمه بعد انفعال به, ومن الأفق الذي يتبدّى له إثارة وحساسية.
الشاعر الأمير عبد الله الفيصل يذكّرنا بالشعراء المهجريين حيث الشعر الوجداني الغنائي, وهو تعبير صادق صافٍ عن خلجات النفس, وعن العواطف والانفعالات الذاتية الخاصة. وفي تراثنا العربي نغمات "وجدانية ثرَّة", وكثيراً ما يسبغ الشاعر الوجداني على موضوعه شيئاً من ذاته, وهو يعمد إلى التشخيص فيجعل الطبيعة تشاركه أتراحه وأفراحه حتى يندمج بها أو تندمج به في كلٍّ موحّد, يقول الأستاذ صلاح لبكي من خلال مقدمته لديوان الشاعر عبد الله الفيصل: "ويا ما أفجع هذا الحرمان الذي يحول المرء وحقيقة ما يكنّه له كإنسان إيّاما أوجعه !! يأبى أن يظلّ صاحبه رهين غربتك, غربة نفسه في الأرض, أو غربة مؤاخاة لمن لا يعرف مدى الصدق في مؤاخاتهم له!! لكم يجب أن يكون هذا المحروم محروماً".
وفي غزل الشاعر الأمير عبد الله الفيصل سموّ روحي يرقى بالحبّ إلى آفاق سامية, ويترفّع عن كلِّ مادّي محسوس. وفي قصيدته "هل تذكرين" تشاركه الطبيعة حبّه وهيامه, والشاعر يرى في الطبيعة ذاتها مرآة لأحاسيسه ومشاعره, ويؤكّد بقاء هذا الحب, وأسمى ما فيه وهو العفاف:
هل تذكرين وداعينا مصافحةً أودعت فيها كريم الأصل يُمناك
وحين غنَّت الأغصان شاديةً أنشودة الحب في ترديدها الباكي
أنت الحياة لقلب جدّ مكتئبٍ وليس يسعده بالوصل إلاّك
فإن نسيت وداداً كان يجمعنا على العفاف فقلبي ليس ينساك
ويأبى الشاعر أن يكون الحبّ عبوديةً, وفي هذه النظرة عمق إنساني ينساب في شغاف قلبه رغم ما وجده من صدود وإن كان يفصح عن هواه بيد أنها لا تبادله الشعور بشعور, ورغم هذا الصد كانت قريحته تتوقد فتتحوّل العاطفة إلى حمم من البراكين في قصيدته "أراك":
أراك فلما لعينك لا تراني وأنت وصوتي فرسا رهان
وها أنا في هواك أضعت عمري مقاربةً علي أمل التداني
دعوت الشعر فيك فما عصاني ولان قياده بعد الحران
ويرسم الشاعر لوحةً شعرية, لكن الألوان في هذه اللوحة تبعث في النفس الشجن واللوعة والحزن والقلق, إنه الإعراض وما يخلفُهُ من هواجس وعواطف متصارعة داخل النفس, غير أن الشاعر كان مستسلماً لخياله الرومانسي فلم يفلح بالسيطرة على قلب الحبيبة فتظهر مثاليته وتزيد عما هو مألوف في الواقعية وذلك في قصيدته "حيرة":
إن تكن بالوهم تحيا بعدما جدّ منه البين فالوهم ذليلُ
ما ترانا سُفحَت أدمعنا وكذاك الدمع للوجد رسولُ
نحن صرعى لفتاتٍ ورؤى وأمانٍ ما إليهن .... سبيلُ
ومما لا شك فيه أن المرأة تبقى دائماً ملهمة للشعراء, ومفجِّرةً للخيال, وموقدةً للمشاعر.
في قصيدته "ثورة خيال" تتأجج المشاعر فتنساب أبياته العذبة كالينابيع الثرَّة, وعلى عادة الشعراء العشّاق العرب لم يستطع أن يصرّح تصريحاً مباشراً عما يكنُّه داخل أعماقه وفي ذلك امتداد لطقوس عربية منذ القدم.
فالسرُّ يكاد يمزّق أوصال الشاعر, ولكنه في حيرةٍ من أمره وكان لا بدَّ له من الصبر شاء أم أبى, خاطب سلطان القلوب:
هل أداري الألم العاصف في قلبي بصبري?
أم أبوح اليوم بالسرِّ وهل يجهل سرِّي?
لست أدري هل أبوح الآن ويحي لست أدري?
وفي قصيدته "نجوى" استرجاع للذكريات التي مرّت بحياته حين كان في زيارة "لمصر" وكان لا بد أن يتواجد "النيل" في شعره وبذلك تتداعى الأحلام الجميلة, وقد أراد الشاعر أن يملأ الكون بهجةً وسروراً وفرحاً, فلم يبق من الحب سوى شريط الذكريات وهذا الشريط الذي يرسمه الذهن يبقى عزاءً لشاعرنا فلم يعد هناك شيء سوى الحلم الجميل:
وعلى النيل مواعيد الوصال لم يدم لي غير ذكرى في خيالي
يا حبيبي هذه الدنيا لنا فاملأ الكون بهاءً وسنا
إنّما سلواي ذكرى حبنا أين يا ليلاي مني عُشّنا?
ويحلّق الشاعر في فضاء الإبداع ويفصح عن تجاربه الحياتية في "عواطف حائرة" فالحيرة توجع رأس صاحبها, وقد انسابت المعاني انسياباً جميلاً رائعاً وفق شاعرية غنائية ترقَّ فيها الألفاظ وتتوقد فيها الأحاسيس:
أكاد أشكُّ في نفسي لأنّي أكاد أشكّ فيك وأنت مني
فالشاعر يريد أن يمزّق حبال الشك, وما أقسى الشك حين لا تحسم المعاناة ولا تظهر الكوامن كما يجب, فهو قلق وأسيرلهذه الظلال القاتمة :
يكذّب فيك كل الناس قلبي وتسمع فيك كل الناس أذني
وكم طافت عليّ ظلال شك أقضَّت مضجعي واستعبدتني
وجرياً على عادة الفرسان الذين لم يهابوا سطوة الموت ولم يكترثوا مما تؤول إليه الأمور, حيث الحميّة والشكيمة والاعتداد بالنفس غير أنهم عندما يقتحمون رحاب المرأة يرفعون الراية البيضاء حيث تصرعهم العيون النجلاء والجمال الساحر, وجرياً على هذه العادة كان الشاعر عبد الله الفيصل في هذه المعمعة الغزلية في قصيدته سمراء,
سمراء يا حلم الطفولة يا منية النفس العليلة
كيف الوصول إلى حماك وليس لي في الأمر حيلة
إن كان في ذلّي رضاك فهذه روحي .... ذليلة
رغم أن الشاعر لم يكن موفّقاً من قبل المحبوبة التي لم تصن العهد فكانت ناكرة خادعة, ورغم ما وهبها من شبابه وحيويته ووجده إلاّ أنه كشف قناع الغدر عن وجهها وأمام هذه الحالة التي لا تسرُّ أراد الشاعر أن يتظاهر بالإزدراء منها رُبّما ليخفّف من وقع المصاب عليه, وربّما يكون الكبرياء بعينه كما هو وارد في قصيدته "أمل يخيب"
لا حبّ والغدر الخؤون يحوطه ولّى الغرام مع الحبيب الغادر
هي وردةً ظمأى وقد روّيتها إذ قلّ عنها الغيث ماء نواطري
كم ذا بذلت صداقةً ومحبّة وجنيتُ ما يجني فقيد بصائر
هرباً بنفسك أن تكون معذّبا وانظر إلى الماضي بعين الساخر
ما أنبلك أيها الشاعر الأمير وأنت لا تطلب من الحبيبة سوى الوفاء , فالشاعر يرفض أن تذرف الحبيبة الدموع, ويرفض صراخها ونحيبها. وفي موقفه هذا يتجلّى الكبرياء والشمم والسمو, يقول في قصيدته "أطيلي الوقوف":
هو الداء يبعث في أضلعي وإذا ما نعيت فلا تفزعي
ولا تبعثي صرخةً في الفضاء ولا ترسلي مدمع الموجع
ولك عليك بحفظ الوداد وصوني عهود الفتى الألمعي
لم ينصرف الشاعر إلى الهوى ويدع الوطن, فقد كان الوطن وما زال أثمن وأغلى وأسمى شيء في حياته, فهو يفتخر بوطنه, ويشيد بشباب المملكة الذي تسلح بالعلم وبكرامة تراث الوطن كما يهب روحه فداء للسواعد الفتية وذلك في قصيدته "إلى شباب بلادي".
مرحى فقد وضح الصواب وهفا إلى المجد الشباب
قد راح يستهدي العلا ويصارع الموج العباب
ذاكم لعمري عدة الو طن الكريم المستطاب
كرَّمتموني .... دائماً فلكم حياتي يا شباب
وهكذا تفيأنا في روضة الشعر العربي السعودي, روضة الشاعر الأمير عبد الله الفيصل, وهو أحد عمالقة الشعر العربي, وقد بلغت قصائد الديوان تسعاً وثلاثين قصيدة, وضمَّ ما بين دفتييه مائة وتسعة وأربعين صفحة, لمؤسسة الملك فيصل الخيرية.
بقلم
جاك صبري شماس