مشاهدة النسخة كاملة : [ .. ثلاثون صحابياً و صحابية .. ] :
عطْرٌ وَ جَنَّة
09-25-2008, 02:02 AM
.
.
.
السؤال الرابع و العشرون :
لُقِّبت بـ [ المهاجرة أرملة المهاجر ]،
لأنها أسلمت وهاجرت بدينها إلى الحبشة مع زوجها
وتحملت مشاق الهجرة ومتاعب الغربة، وتوفى زوجها بعد أن عاد معها من الحبشة وقبل الهجرة إلى المدينة،
- من هِي ؟! -
http://www.qamat.net/vb/images/smilies/a36.gif
.
.
.
د. منال عبدالرحمن
09-25-2008, 02:16 AM
أمُّ المؤمنينَ , زوجةُ الحبيبِ المصطفى عليهِ افضلُ الصّلاةِ و أتمُّ التّسليم :
سودة بنت زمعة .
جُزيتَ نوراً و خيراً يا عِطر .
عطْرٌ وَ جَنَّة
09-25-2008, 02:26 AM
.
.
.
كمّ مِن الشُكرِ والوردِ يُوفيّك حقكِ يامنال
- إجابة صحيحة - / جُزيِّت الجنَّة والخير والمغفرة يارائعة !
http://www.qamat.net/vb/images/smilies/a36.gif
.
.
.
عطْرٌ وَ جَنَّة
09-25-2008, 02:32 AM
.
.
.
الشخصية الرابعة والعشرون :
[ سودة بنت زمعة رضي الله عنها ]
لُقِّبت بالمهاجرة أرملة المهاجر، لأنها أسلمت وهاجرت بدينها إلى الحبشة مع زوجها السكران بن عمرو بن عبد شمس، وتحملت مشاق الهجرة ومتاعب الغربة، وتوفى زوجها بعد أن عاد معها من الحبشة وقبل الهجرة إلى المدينة، وأمست سودة وحيدة لا عائل لها ولامعين، فأبوها مازال على كفره وضلاله، ولم يزل أخوها عبد اللَّه ابن زمعة على دين آبائه، فخشيت أن يفتناها في دينها.
فلما سمع الرسول ( ما أصاب السيدة سودة وصبرها والتجاءها إلى الله؛ خشى عليها بطش أهلها، وهم أعداء الإسلام والمسلمين، فأراد ( أن يرحمها وينجدها من عذابها، ويعينها على حزنها، ويجزيها على إسلامها وإيمانها خيرًا، فأرسل إليها خولة بنت حكيم -رضى اللَّه عنها- تخطبها له، وكانت السيدة خديجة -رضى الله عنها- قد ماتت، وهو بغير زوجة، وكانت سودة قد بلغت من العمر حينئذٍ الخامسة والخمسين، بينما كان رسول الله ( في الخمسين من عمره.
وحين دخلت خولة عليها قالت: ما أدخل الله عليكم من الخير والبركة ! قالت: سودة: وماذاك؟ فقالت خولة: إن رسول الله ( أرسلنى إليك لأخطبك إليه. قالت: وددت ذلك. فقالت خولة: دخلت على أبيها وكان شيخًا كبيرًا مازال على جاهليته وحيَّـيْـتُه بتحية أهل الجاهلية، فقلت: أنعِم صباحًا. فقال: من أنت؟ قلت: خولة بنت حكيم. فرحَّب بي، وقال ما شاء الله أن يقول. فقلت: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يذكر سودة ابنة زمعة. فقال: هو كفء كريم، فما تقول صاحبتك؟ قلت: تُحِبُّ ذلك. قال: ادعوها إلي. ولما جاءت قال: أى سودةُ، زعمت هذه أن محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب أرسل يخطبك وهو كفء كريم، أفتحبين أن أزوجكه؟ قالت: نعم. قال: فادعوه لي. فدعته خولة، فجاء فزوَّجه.
وفى رواية ابن سعد: أن النبي ( خطبها، فقالت: أمرى إليك، فقال لها مُرى رجلا من قومك يزوجك. فأمرت حاطب بن عمرو (وهو ابن عمها وأول مهاجر إلى الحبشة) فزوجها.
ودخلت السيدة سودة بنت زمعة -رضى الله عنها- بيت النبوة، وأصبحت واحدة من أمهات المؤمنين، وكانت الزوجة الثانية لرسول الله (، وكان ذلك قبل الهجرة بثلاث سنوات.
وكانت السيدة سودة مثالا نادرًا في التفانى في خدمة النبي ( وابنته أم كلثوم وفاطمة، فكانت تقوم على رعايتهما بكل إخلاص ووفاء، ثم هاجرت مع الرسول ( إلى المدينة.
وكانت السيدة سودة ذات فطرة طيبة ومرح، وكانت ممتلئة الجسم، فكان رسول اللَّه ( كلما رآها تمشى ضحك لمشيتها، فكانت تكثر المشى أمامه كى تضحكه، وتُدخل السرور عليه، وكانت تنتقى من الكلمات ماتظن أنه يضحكه.
وكانت السيدة سودة -رضى اللَّه عنها- تحب رسول اللَّه ( حبَّا شديدًا، وكانت تسعى إلى مرضاته دائمًا، فلما كبرت في السن، ولم تعد بها إلى الأزواج حاجَةً، وأحست بعجزها عن الوفاء بحقوق النبي (، أرادت أن تصنع من أجله شيئًا يعجبه ويرضيه ويرفع مكانتها عنده... فاهتدت إلى أن تهب يومها لعائشة؛ لعلمها أنها حبيبة إلى قلب رسول الله (، وحتى لا تشعر رسول الله ( بالحرج، وبررت له ما أقدمت عليه بقولها: ما بى على الأزواج من حرص، ولكنى أحب أن يبعثنى الله يوم القيامة زوجًا لك. وتفرغت للعبادة والصلاة.
قال لها رسول الله (:"يا بنت زمعة، لوتعلمين علم الموت، لعلمت أنه أشد مما تظنين" [ابن المبارك].
وكانت السيدة عائشة - رضى اللَّه عنها - تغبطها على عبادتها وحسن سيرتها، قالت: ما رأيت امرأة أحب إلى أن أكون في مِسْلاخها (هديها وصلاحها) من سودة .
ولما خرجت سودة -رضى الله عنها- مع رسول الله ( إلى حجة الوداع! قال: "هذه الحجة، ثم ظهور الحُصْر" (أى الْـزَمْـنَ بيوتكنّ ولا تخرجْنَ منها). فكانت - رضى الله عنها - تقول: حججت واعتمرت فأنا َأَقرُّ في بيتى كما أمرنى الله عز وجل، ولا تحركنا دابة بعد رسول الله (. [ابن سعد].
وكانت السيدة سودة -رضى الله عنها- زاهدة في الدنيا مقبلة على الآخرة. بعث إليها عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- في خلافته ببعض الدراهم، فوزعتها على الفقراء والمساكين.
وظلت كذلك حتى توفيت في آخر خلافة عمر فحضر جنازتها، وصلى عليها، ودفنت بالبقيع.
وكان للسيدة سودة نصيب من العلم والرواية، فقد روت -رضى الله عنها- أحاديثًا لرسول اللهدة لا عائل لها ولامعين، فأبوها مازال على كفره وضلاله، ولم يزل أخوها عبد اللَّه ابن زمعة على دين آبائه، فخشيت أن يفتناها في دينها.
فلما سمع الرسول ( ما أصاب السيدة سودة وصبرها والتجاءها إلى الله؛ خشى عليها بطش أهلها، وهم أعداء الإسلام والمسلمين، فأراد ( أن يرحمها وينجدها من عذابها، ويعينها على حزنها، ويجزيها على إسلامها وإيمانها خيرًا، فأرسل إليها خولة بنت حكيم -رضى اللَّه عنها- تخطبها له، وكانت السيدة خديجة -رضى الله عنها- قد ماتت، وهو بغير زوجة، وكانت سودة قد بلغت من العمر حينئذٍ الخامسة والخمسين، بينما كان رسول الله ( في الخمسين من عمره.
وحين دخلت خولة عليها قالت: ما أدخل الله عليكم من الخير والبركة ! قالت: سودة: وماذاك؟ فقالت خولة: إن رسول الله ( أرسلنى إليك لأخطبك إليه. قالت: وددت ذلك. فقالت خولة: دخلت على أبيها وكان شيخًا كبيرًا مازال على جاهليته وحيَّـيْـتُه بتحية أهل الجاهلية، فقلت: أنعِم صباحًا. فقال: من أنت؟ قلت: خولة بنت حكيم. فرحَّب بي، وقال ما شاء الله أن يقول. فقلت: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يذكر سودة ابنة زمعة. فقال: هو كفء كريم، فما تقول صاحبتك؟ قلت: تُحِبُّ ذلك. قال: ادعوها إلي. ولما جاءت قال: أى سودةُ، زعمت هذه أن محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب أرسل يخطبك وهو كفء كريم، أفتحبين أن أزوجكه؟ قالت: نعم. قال: فادعوه لي. فدعته خولة، فجاء فزوَّجه.
وفى رواية ابن سعد: أن النبي ( خطبها، فقالت: أمرى إليك، فقال لها مُرى رجلا من قومك يزوجك. فأمرت حاطب بن عمرو (وهو ابن عمها وأول مهاجر إلى الحبشة) فزوجها.
ودخلت السيدة سودة بنت زمعة -رضى الله عنها- بيت النبوة، وأصبحت واحدة من أمهات المؤمنين، وكانت الزوجة الثانية لرسول الله (، وكان ذلك قبل الهجرة بثلاث سنوات.
وكانت السيدة سودة مثالا نادرًا في التفانى في خدمة النبي ( وابنته أم كلثوم وفاطمة، فكانت تقوم على رعايتهما بكل إخلاص ووفاء، ثم هاجرت مع الرسول ( إلى المدينة.
وكانت السيدة سودة ذات فطرة طيبة ومرح، وكانت ممتلئة الجسم، فكان رسول اللَّه ( كلما رآها تمشى ضحك لمشيتها، فكانت تكثر المشى أمامه كى تضحكه، وتُدخل السرور عليه، وكانت تنتقى من الكلمات ماتظن أنه يضحكه.
وكانت السيدة سودة -رضى اللَّه عنها- تحب رسول اللَّه ( حبَّا شديدًا، وكانت تسعى إلى مرضاته دائمًا، فلما كبرت في السن، ولم تعد بها إلى الأزواج حاجَةً، وأحست بعجزها عن الوفاء بحقوق النبي (، أرادت أن تصنع من أجله شيئًا يعجبه ويرضيه ويرفع مكانتها عنده... فاهتدت إلى أن تهب يومها لعائشة؛ لعلمها أنها حبيبة إلى قلب رسول الله (، وحتى لا تشعر رسول الله ( بالحرج، وبررت له ما أقدمت عليه بقولها: ما بى على الأزواج من حرص، ولكنى أحب أن يبعثنى الله يوم القيامة زوجًا لك. وتفرغت للعبادة والصلاة.
قال لها رسول الله (:"يا بنت زمعة، لوتعلمين علم الموت، لعلمت أنه أشد مما تظنين" [ابن المبارك].
وكانت السيدة عائشة - رضى اللَّه عنها - تغبطها على عبادتها وحسن سيرتها، قالت: ما رأيت امرأة أحب إلى أن أكون في مِسْلاخها (هديها وصلاحها) من سودة .
ولما خرجت سودة -رضى الله عنها- مع رسول الله ( إلى حجة الوداع! قال: "هذه الحجة، ثم ظهور الحُصْر" (أى الْـزَمْـنَ بيوتكنّ ولا تخرجْنَ منها). فكانت - رضى الله عنها - تقول: حججت واعتمرت فأنا َأَقرُّ في بيتى كما أمرنى الله عز وجل، ولا تحركنا دابة بعد رسول الله (. [ابن سعد].
وكانت السيدة سودة -رضى الله عنها- زاهدة في الدنيا مقبلة على الآخرة. بعث إليها عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- في خلافته ببعض الدراهم، فوزعتها على الفقراء والمساكين.
وظلت كذلك حتى توفيت في آخر خلافة عمر فحضر جنازتها، وصلى عليها، ودفنت بالبقيع.
وكان للسيدة سودة نصيب من العلم والرواية، فقد روت -رضى الله عنها- أحاديثًا لرسول الله ,
http://www.shathaaya.com/vb/images/smilies/i.gif
.
.
.
السؤال الخامس والعشرون
صحابي وضعه سعد بن أبي وقاص في الحبس لشربه المتكرر للخمر وفي معركة القادسية تحرقت نفسه لقتال الكفار فقامت زوجة سيدنا سعد بإطلاق سراحة حتى لحق بالمسلمين وكان سببا في انتصارهم ثم عاد إلى الحبس كما كان
من هو ؟
د. منال عبدالرحمن
09-29-2008, 12:12 AM
إنّهُ الصّحابيّ أبو محجن الثّقفي ,
جُزيتِ خيراً يا حنين , هاتِ باقي أسئلتكِ فالعيدُ على الابواب :)
شكرا منال
وكل عام وانتم بخير
............................................
الشخصية الخامسة والعشرون :
أبو محجن الثقفي شاعر وفارس عربي مسلم مغوار من بني ثقيف،وكان رجل من المسلمين قد ابتلى بشرب الخمر وطالما عوقب عليها ويعود ويعاقب ويعود ، بل كان من شدة تعلقه بالخمر يوصى ولده ويقول :
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فإننــــــي أخاف إذا ما مت أن لا أذوقهـا
فلما تداعى المسلمون للجهاد ولقتال الفرس في معركة القادسية خرج معهم أبو محجن..وحمل زاده ومتاعه ..ولم ينس ان يحمل خمرا..دسها بين متاعه ..فلما وصلو القادسية ..طلب رستم مقابلة سعد بن أبي وقاص قائد المسلمين.. وبدأت المراسلات بين الجيشين..عندها وسوس الشيطان لأبي محجن فاختبأ في مكان بعيد وشرب الخمر..فلما علم به سعد غضب عليه وحرمه من دخول القتال..وأمر أن يقيد بالسلا سل ويغلق عليه في خيمة. فلما ابتدأ القتال وسمع أبو محجن صهيل الخيول ..وصيحات الابطال ..لم يطق أن يصبر على القيد ..واشتاق للشهادة..بل اشتاق إلى خدمة هذا الدين..وبذل روحه لله ..وإن كان عاصيا..وإن كان مدمن خمر..إلا أنه مسلم يحب الله ورسوله. وأخذ يترنم قائلا:
كفى حزنا أن تدخل الخيل بالقنى وأترك مشدودا علي وثاقي
إذا قمت عناني الحديد وغلقت مصاريع دوني تصم المناديا
يُقَطِّع قلبي حسرةً أن أرى الوغى ولا سامعٌ صوتي ولا من يَرَانيا
وأن أشهدَ الإسلام يدعو مُغَوِّثاً فلا أُنجدَ الإسلام حينَ دعانيا
وقد كنت ذا مال كثير وإخوة وقد تركوني واحدالاأخى ليا
فلله عهد لاأحيف بعهده لإن فرجت لاأزور الحوانيا
ثم أخذ ينادي بأعلى صوته إلى أن يلتفت إلى زوجة القائد سعد ويناشدها أن تطلق سراحه ليشهد المعركة معلناً توبته قائلا هذه الابيات
سُلَيْمى دعيني أروِ سيفي من العدا فسيفيَ أضحى وَيْحَهُ اليومَ صاديا
دعيني أَجُلْ في ساحةِ الحربِ جَوْلَةً تُفَرِّجُ من همّي وتشفي فؤاديا
وللهِ عهدٌ لا أَحيفُ بعهده لئن فُرِّجت أَنْ لا أزورَ الحوانيا
فسألته امرأة سعد ماذا تريد فقال فكي القيد من رجلي وأعطيني البلقاء فرس سعد، فأقاتل فإن رزقني الله الشهادة فهو ماأريد وإن بقيت فلك علي عهدالله وميثاقه أن أرجع حتى تضعي القيد في رجلي، وأخذ يرجوها ويناشدها حتى فكت القيدوأعطته البلقاء فلبس درعه وغطى وجهه بالمغفر ثم قفز كالأسد على ظهر الفرس والقى بنفسه بين يدي الكفار علق نفسه بالآخرة ولم يفلح ابليس في تثبيطه عن خدمة هذا الدين وحمل على القوم برقابهم بين الصفين برمحه وسلا حه، وتعجب الناس منه وهم لايعرفونه ولم يروه بالنهار ومضى أبو محجن يقاتل ويبذل روحه رخيصة في ذات الله عز وجل .. نعم مضى أبو محجن .. أما سعد بن أبي وقاص فقد كانت به قروح في فخذيه فلم ينزل ساحة القتال .. لكنه كان يرقب القتال من بعيد فلما رأى أبا محجن عجب من قوة قتاله ، وقال الضرب ضرب أبي محجن والكركر البلقاء وأبو محجن في القيد ،والبلقاء في الحبس ..!! فلما انتهى القتال عاد أبو محجن إلى سجنه ووضع رجله في القيد ، ونزل سعد فوجد فرسه يعرق فقال : ما هذا ؟ فذكروا له قصة أبي محجن فرضي عنه وأطلقه وقال : والله لا جلدتك في الخمر أبدا ،فقال أبو محجن : وأنا والله لا شربت الخمر أبدا فلله در أبي محجن لم تمنعه معصيته من الجهاد في سبيل الله.
الشخصية السـادسة والعشرون
خالد بن الوليـــــــــــــــــــد
ان أمره لعجيب..!!
هذا الفاتك بالمسلمين يوم أحد والفاتك بأعداء الاسلام بقية الأيام..!!
ألا فلنأت على قصته من البداية..
ولكن أية بداية..؟؟
انه هو نفسه، لا يكاد يعرف لحياته بدءا الا ذلك اليوم الذي صافح فيه الرسول مبايعا..
ولو استطاع لنحّى عمره وحياته، كل ماسبق ذلك اليوم من سنين، وأيام..
فلنبدأ معه اذن من حيث يحب.. من تلك اللحظة الباهرة التي خشع فيها قلبه لله، وتلقت روحه فيها لمسة من يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، فنفجّرت شوقا الى دينه، والى رسوله، والى استشهاد عظيم في سبيل الحق، ينضوي عن كاهله أوزار مناصرته الباطل في أيامه الخاليات..
لقد خلا يوما الى نفسه، وأدار خواطره الرشيدة على الدين الجديد الذي تزداد راياته كل يوما تألقا وارتفاعا، وتمنّى على الله علام الغيوب أن يمدّ اليه من الهدى بسبب.. والتمعت في فؤاده الذكي بشائر اليقين، فقال:
" والله لقد استقام المنسم....
وان الرجل لرسول..
فحتى متى..؟؟
أذهب والله، فأسلم"..
ولنصغ اليه رضي الله عنه وهو يحدثنا عن مسيره المبارك الى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعن رحلته من مكة الى المدينة ليأخذ مكانه في قافلة المؤمنين:
".. وددت لو أجد من أصاحب، فلقيت عثمان بن طلحة، فذكرت له الذي أريد فأسرع الاجابة، وخرجنا جميعا فأدلجنا سحرا.. فلما كنا بالسهل اذا عمرو بن العاص، فقال مرحبا يا قوم،
قلنا: وبك..
قال: أين مسيركم؟ فأخبرناه، وأخبرنا أيضا أنه يريد النبي ليسلم.
فاصطحبنا حتى قدمنا المدينة أول يوم من صفر سنة ثمان..فلما اطّلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه بالنبوّة فردّ على السلام بوجه طلق، فأسلمت وشهدت شهادة الحق..
فقال الرسول: قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك الا الى خير..
وبايعت رسول الله وقلت: استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله..
فقال: ان الاسلام يجبّ ما كان قبله..
قلت: يا رسول الله على ذلك..
فقال: اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صدّ عن سبيلك..
وتقدّم عمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة، فأسلما وبايعا رسول الله"
أرأيتم قوله للرسول:" استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله"..؟
ان الذي يضع هذه العبارة بصره، وبصيرته، سيهتدي الى فهم صحيح لسلك المواقف التي تشبه الألغاز في حياة سيف الله وبطل الاسلام..
وعندما نبلغ تلك المواقف في قصة حياته ستكون هذه العبارة دليلنا لفهمها وتفسيرها-..
أما الآن، فمع خالد الذي أسلم لتوه لنرى فارس قريش وصاحب أعنّة الخيل فيها، لنرى داهية العرب كافة في دنيا الكرّ والفرّ، يعطي لآلهة أبائه وأمجاد قومه ظهره، ويستقبل مع الرسول والمسلمين عالما جديدا، كتب الله له أن ينهض تحت راية محمد وكلمة التوحيد..
مع خالد اذن وقد أسلم، لنرى من أمره عجبا..!!!!
أتذكرون أنباء الثلاثة شهداء أبطال معركة مؤتة..؟؟
لقد كانوا زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبدالله بن رواحة..
لقد كانوا أبطال غزوة مؤتة بأرض الشام.. تلك الغزوة التي حشد لها الروم مائتي ألف مقاتل، والتي أبلى المسلمون فيها بلاء منقطع النظير..
وتذكرون العبارة الجليلة الآسية التي نعى بها الرسول صلى الله عليه وسلم قادة المعركة الثلاثة حين قال:
" أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا.
ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى قتل شهيدا..
ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا".
كان لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بقيّة، ادّخرناها لمكانها على هذه الصفحات..
هذه البقيّة هي:
" ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله، ففتح الله علي يديه".
فمن كان هذا البطل..؟
لقد كان خالد بن الوليد.. الذي سارع الى غزوة مؤتة جنديا عاديا تحت قيادة القواد الثلاثة الذين جعلهم الرسول على الجيش: زيد، وجعفر وعبدالله ابن رواحة، والذين استشهدوا بنفس الترتيب على ارض المعركة الضارية..
وبعد سقوط آخر القواد شهيدا، سارع الى اللواء ثابت بن أقرم فحمله بيمينه ورفعه عاليا وسط الجيش المسلم حتى لا تبعثر الفوضى صفوفه..
ولم يكد ثابت يحمل الراية حتى توجه بها مسرعا الى خالد بن الوليد، قائلا له:
" خذ اللواء يا أبا سليمان"...
ولم يجد خالد من حقّه وهو حديث العهد بالاسلام أن يقود قوما فيهم الأنصار والمهاجرون الذين سبقوه بالاسلام..
أدب وتواضع وعرفان ومزايا هو لها اهل وبها جدير!!
هنالك قال مجيبا ثابت بن أقرم:
" لا آخذ اللواء، أنت أحق به.. لك سن وقد شهدت بدرا"..
وأجابه ثابت:" خذه، فأنت أدرى بالقتال مني، ووالله ما أخذته الا لك".
ثم نادى في المسلمين: اترضون امرة خالد..؟
قالوا: نعم..
واعتلى العبقري جواده. ودفع الراية بيمينه الى الأمام كأنما يقرع أبوابا مغلقة آن لها أن تفتح على طريق طويل لاحب سيقطعه البطل وثبا..
في حياة الرسول وبعد مماته، حتى تبلغ المقادير بعبقريته الخارقة أمرا كان مقدورا...
ولّي خالد امارة الجيش بعد أن كان مصير المعركة قد تحدد. فضحايا المسلمين كثيرون، وجناهم مهيض.. وجيش الروم في كثرته الساحقة كاسح، ظافر مدمدم..
ولم يكن بوسع أية كفاية حربية أن تغير من المصير شيئا، فتجعل المغلوب غالبا، والغالب مغلوبا..
وكان العمل الوحيد الذي ينتظر عبقريا لكي ينجزه، هو وقف الخسائر في جيش الاسلام، والخروج ببقيته سالما، أي الانسحاب الوقائي الذي يحول دون هلاك بقية القوة المقاتلة على أرض المعركة.
بيد أن انسحابا كهذا كان من الاستحالة بمكان..
ولكن، اذا كان صحيحا أنه لا مستحيل على القلب الشجاع فمن أشجع قلبا من خالد، ومن أروع عبقرية وأنفذ بصيرة..؟؟!
هنالك تقدم سيف الله يرمق أرض القتال الواسعة بعينين كعيني الصقر، ويدير الخطط في بديهته بسرعة الضوء.. ويقسم جيشه، والقتال دائر، الى مجموعات، ثم يكل الى كل مجموعة بمهامها.. وراح يستعمل فنّه المعجز ودهاءه البليغ حتى فتح في صفوف الروم ثغرة فسيحة واسعة، خرج منها جيش المسلمين كله سليما معافى. بعد أن نجا بسبب من عبقرية بطل الاسلام من كارثة ماحقة ما كان لها من زوال...!!
وفي هذه المعركة أنعم الرسول على خالد بهذا اللقب العظيم..
وتنكث قريش عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتحرك المسلمون تحت قيادته لفتح مكة..
وعلى الجناح الأيمن من الجيش، يجعل الرسول خالدا أميرا..
ويدخل خالد مكة، واحدا من قادة الجيش المسلم، والأمة المسلمة بعد أن شهدته سهولها وجبالها. قائدا من قوّاد جيش الوثنية والشرك زمنا طويلا..
وتخطر له ذكريات الطفولة، حيث مراتعها الحلوة.. وذكريات الشباب، حيث ملاهيه الصاخبة..
ثم تجيشه ذكريات الأيام الطويلة التي ضاع فيها عمره قربانا خاسرا لأصنام عاجزة كاسدة..
وقبل أن يعضّ الندم فؤاده ينتفض تحت تحت روعة المشهد وجلاله..
مشهد المستضعفين الذين لا تزال جسومهم تحمل آثار التعذيب والهول، يعودون الى البلد الذي أخرجوا منه بغيا وعدوا، يعودون اليه على صهوات أجسادهم الصاهلة، وتحت رايات الاسلام الخافقة.. وقد تحوّل همسهم الذي كانوا يتناجون به في دار الأرقم بالأمس، الى تكبيرات صادعة رائعة ترجّ مكة رجّا، وتهليلات باهرة ظافرة، يبدو الكون معها، وكأنه كله في عيد...!!
كيف تمّت المعجزة..؟
أي تفسير لهذا الذي حدث؟
لا شيء الا هذه الآية التي يرددها الزاحفون الظافرون وسط تهليلاتهم وتكبيراتهم حتى ينظر بعضهم الى بعض فرحين قائلين:
(وعد الله.. لا يخلف الله وعده)..!!
ويرفع خالد رأسه الى أعلى. ويرمق في اجلال وغبطة وحبور رايات الاسلام تملأ الأفق.. فيقول لنفسه:
أجل انه وعد الله ولا يخلف الله وعده..!!
ثم يحني رأسه شاكرا نعمة ربه الذي هداه للاسلام وجعله في يوم الفتح العظيم هذا، واحدا من الذين يحملون راية الاسلام الى مكة.. وليس من الذين سيحملهم الفتح على الاسلام..
ويظل خالد الى جانب رسول الله، واضعا كفاياته المتفوقة في خدمة الدين الذي آمن به من كل يقينه، ونذر له كل حياته.
وبعد أن يلحق الرسول بالرفيق الأعلى، ويحمل أبو بكر مسؤولية الخلافة، وتهبّ أعاصير الردّة غادرة ماكرة، مطوقة الدين الجديد بزئيرها المصمّ وانتفاضها المدمدم.. يضع أبو بكر عينه لأول وهلة على بطل الموقف ورجل الساعة.. ألي أبي سليمان، سيف الله، خالد بن الوليد..!!
وصحيح أن أبا بكر لم يبدأ معارك المرتدين الا بجيش قاده هو بنفسه، ولكن ذلك لا يمنع أنه ادّخر خالدا ليوم الفصل، وأن خالدا في المعركة الفاصلة التي كانت أخطر معارك الردة جميعا، كان رجلها الفذ وبطلها الملهم..
عندما بدأت جموع المرتدين تتهيأ لانجاز مؤامرتها الضخمة، صمم الخليفة العظيم أبو بكر على أن يقود جيوش المسلمين بنفسه، ووقف زعماء الصحابة يبذلون محاولات يائسة لصده عن هذا العزم. ولكنه ازداد تصميما.. ولعله أراد بهذا أن يعطي القضية التي دعا الناس لخوض الحرب من أجلها أهميّة وقداسة، لا يؤكدها في رأيه الا اشتراكه الفعلي في المعارك الضارية التي ستدور رحاها بين قوى الايمان، وبين جيوش الضلال والردة، والا قيادته المباشرة لبعض أو لكل القوات المسلمة..
ولقد كانت انتفاضات الردة بالغة الخطورة، على الرغم من أنها بدأت وكأنها تمرّد عارض..
لقد وجد فيها جميع الموتورين من الاسلام والمتربصين به فرصتهم النادرة، سواء بين قبائل العرب، أم على الحدود، حيث يجثم سلطان الروم والفرس، هذا السلطان الذي بدأ يحسّ خطر الاسلام الأكبر عليه، فراح يدفع الفتنة في طريقه من وراء ستار..!!
ونشبت نيران الفتننة في قبائل: أسد، وغطفان، وعبس، وطيء، وذبيان..
ثم في قبائل: بني غامر، وهوزان، وسليم، وبني تميم..
ولم تكد المناوشات تبدأ حتى استحالت الى جيوش جرّارة قوامها عشرات الألوف من المقاتلين..
واستجاب للمؤامرة الرهيبة أهل البحرين، وعمان، والمهرة، وواجه الاسلام أخطر محنة، واشتعلت الأرض من حول المسلمين نارا.. ولكن، كان هناك أبو بكر..!!
عبّأ أبو بكر المسلمين وقادهم الى حيث كانت قبائل بني عبس، وبني مرّة، وذبيان قد خرجوا في جيش لجب..
ودار القتال، وتطاول، ثم كتب للمسلمين نصر مؤزر عظيم..
ولم يكد الجيش المنتصر يستقر بالمدينة. حتى ندبه الخليفة للمعركة التالية..
وكانت أنباء المرتدين وتجمّعاتهم تزداد كل ساعة خطورة .. وخرج أبو بكر على رأس هذا الجيش الثاني، ولكن كبار الصحابة يفرغ صبرهم، ويجمعون على بقاء الخليفة بالمدينة، ويعترض الامام علي طريق أبا بكر ويأخذ بزمام راحلته التي كان يركبها وهو ماض امام جيشه الزاحف فيقول له:
" الى أين يا خليفة رسول الله..؟؟
اني أقول لك ما قاله رسول الله يوم أحد:
لمّ سيفك يا أبا بكر لا تفجعنا بنفسك..."
وأمام اجماع مصمم من المسلمين، رضي الخليفة أن يبقى بالمدينة وقسّم الجيش الى احدى عشرة مجموعة.. رسم لكل مجموعة دورها..
وعلى مجموعة ضخمة من تلك المجموعات كان خالد بن الوليد أميرا..
ولما عقد الخليفة لكل أمير لواءه، اتجه صوب خالد وقال يخاطبه:
" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نعم عبدالله. وأخو العشيرة، خالد ابن الوليد، سيف من سيوف الله. سلّه الله على الكفار والمنافقين"..
ومضى خالد الى سبيله ينتقل بجيشه من معركة الى معركة، ومن نصر الى مصر حتى كانت المعركة الفاصلة..
فهناك باليمامة كان بنو حنيفة، ومن انحاز اليهم من القبائل، قد جيّشوا أخطر جيوش الردة قاطبة، يقوده مسيلمة الكذاب.
وكانت بعض القوات المسلمة قد جرّبت حظها مع جيوش مسيلمة، فلم تبلغ منه منالا..
وجاء أمر الخليفة الى قائده المظفر أن سر الى بني حنيفة.. وسار خالد..
ولم يكد مسيلمة يعلم أن ابن الوليد في الطريق اليه حتى أعاد تنظيم جيشه، وجعل منه خطرا حقيقيا، وخصما رهيبا..
والتقى الجيشان:
وحين تطالع في كتب السيرة والتاريخ، سير تلك المعركة الهائلة، تأخذك رهبة مضنية، اذ تجد نفسك أمام معركة تشبه في ضراوتها زجبروتها معارك حروبنا الحديثة، وان اختلّفت في نوع السلاح وظروف القتال..
ونزل خالد بجيشه على كثيب مشرف على اليمامة، وأقبل مسيلمة في خيلائه وبغيه، صفوف جيشه من الكثرة كأنها لا تؤذن بانتهاء..!!
وسّلم خالد الألوية والرايات لقادة جيشه، والتحم الجيشان ودار القتال الرهيب، وسقط شهداء المسلمين تباعا كزهور حديقة طوّحت بها عاصفة عنيدة..!!
وأبصر خالد رجحان كفة الأعداء، فاعتلى بجواده ربوة قريبة وألقى على المعركة نظرة سريعة، ذكية وعميقة..
ومن فوره أدرك نقاط الضعف في جيشه وأحصاها..
رأى الشعور بالمسؤولية قد وهن تحت وقع المفاجأة التي دهمهم بها جيش مسيلمة، فقرر في نفس اللحظة أن يشدّ في أفئدة المسلمين جميعا الى أقصاه.. فمضى ينادي اليه فيالق جيشه وأجنحته، وأعاد تنسيق مواقعه على أرض المعركة، ثم صاح بصوته المنتصر:
" امتازوا، لنرى اليوم بلاء كل حيّ".
وامتازوا جميعا..
مضى المهاجرون تحت راياتهم، والأنصار تحت رايتهم " وكل بني أب على رايتهم".
وهكذا صار واضحا تماما، من أين تجيء الهزيمة حين تجيء واشتعلت الأنفس حماسة، اتّقدت مضاء، وامتلأت عزما وروعة..
وخالد بين الحين والحين، يرسل تكبيرة أو تهليلة أو صيحة يلقى بها امرا، فتتحوّل سيوف جيشه الى مقادير لا رادّ لأمرها، ولا معوّق لغاياتها..
وفي دقائق معدودة تحوّل اتجاه المعركة وراح جنود مسيلمة يتساقطون بالعشرات، فالمئات فالألوف، كذباب خنقت أنفاس الحياة فيه نفثات مطهر صاعق مبيد..!!
لقد نقل خالد حماسته كالكهرباء الى جنوده، وحلّت روحه في جيشه جميعا.. وتلك كانت احدى خصال عبقريّته الباهرة..
وهكذا سارت أخطر معارك الردة وأعنف حروبها، وقتل مسيلمة..
وملأت جثث رجاله وجيشه أرض القتال، وطويت تحت التراب الى الأبد راية الدّعيّ الكذاب..
وفي المدينة صلى الخليفة لربه الكبير المتعال صلاة الشكر، اذ منحهم هذا النصر، وهذا البطل..
وكان أبو بكر قد أدرك بفطنته وبصيرته ما لقوى الشر الجاثمة وراء حدود بلاده من دور خطير في تهديد مصير الاسلام واهله.. الفرس في العراق.. والروم في بلاد الشام..
امبرطوريتان خرعتان، تتشبثان بخيوط واهنة من حظوظهما الغاربة وتسومان الناس في العراق وفي الشام سوء العذاب، بل وتسخرهم، وأكثرهم عرب، لقتال المسلمين العرب الذين يحملون راية الدين الجديدة، يضربون بمعاوله قلاع العالم القديم كله، ويجتثون عفنه وفساده..!
هنالك أرسل الخليفة العظيم المبارك توجيهاته الى خالد أن يمضي بجيشه صوب العراق..
ويمضي البطل الى العراق، وليت هذه الصفحات كانت تتسع لتتبع مواكب نصره، اذن لرأينا من أمرها عجبا.
لقد استهلّ عمله في العراق بكتب أرسلها الى جميع ولاة كسرى ونوابه على ألوية العراق ومدائنه..
" بسم الله الرحمن الرحيم
من خالد بن الوليد.. الى مرازبة فارس..
سلام على من اتبع الهدى
أما بعد، فالحمد لله الذي فضّ خدمكم، وسلب ملككم، ووهّن كيدكم
من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، واكل ذبيحتنا فذلكم المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا
اذا جاءكم كتابي فابعثوا اليّ بالرهن واعتقدوا مني الذمّة
والا، فوالذي لا اله غيره لأبعثن اليكم قوما يحبون الموت كما تحبون الحياة"..!!
وجاءته طلائعه التي بثها في كل مكان بأنباء الزّحوف الكثيرة التي يعدها له قوّاد الفرس في العراق، فلم يضيّع وقته، وراح يقذف بجنوده على الباطل ليدمغه.. وطويت له الأرض طيّا عجيبا.
في الأبلّة، الى السّدير، فالنّجف، الى الحيرة، فالأنبار، فالكاظمية. مواكب نصر تتبعها مواكب... وفي كل مكان تهلّ به رياحه البشريات ترتفع للاسلام راية يأوي الى فيئها الضعفاء والمستعبدون.
أجل، الضعفاء والمستعبدون من أهل البلد الذين كان الفرس يستعمرونهم، ويسومونهم سوء العذاب..
وكم كان رائعا من خالد أن بدأ زحفه بأمر أصدره الى جميع قوّاته:
" لا تتعرّضوا للفلاحين بسوء، دعوهم في شغلهم آمنين، الا أن يخرج بعضهم لقتالكم، فآنئذ قاتلوا المقاتلين".
وسار بجيشه الظافر كالسكين في الزبد الطريّ حتى وقف على تخوم الشام..
وهناك دوّت أصوات المؤذنين، وتكبيرات الفاتحين.
ترى هل سمع الروم في الشام..؟
وهل تبيّنوا في هذه التكبيرات نعي أيامهم، وعالمهم..؟
أجل لقد سمعوا.. وفزّعوا.. وقرّروا أن يخوضوا في حنون معركة اليأس والضياع..!
كان النصر الذي أحرزه الاسلام على الفرس في العراق بشيرا بنصر مثله على الروم في الشام..
فجنّد الصدّيق أبو بكر جيوشا عديدة، واختار لامارتها نفرا من القادة المهرة، أبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، ثم معاوية بن أبي سفيان..
وعندما نمت أخبار هذه الجيوش الى امبراطور الروم نصح وزراءه وقوّاده بمصالحة المسلمين، وعدم الدخول معهم في حرب خاسرة..
بيد أن وزراءه وقوّاده أصرّوا على القتال وقالوا:
" والله لنشغلنّ أبا بكر على أن يورد خيله الى أرضنا"..
وأعدوا للقتال جيشا بلغ قوامه مائتي ألف مقاتل، وأ{بعين ألفا.
وأرسل قادة المسلمين الى الخليفة بالصورة الرهيبة للموقف فقال أبو بكر:
" والله لأشفينّ وساوسهم بخالد"..!!!
وتلقى ترياق الوساوس.. وساوس التمرّد والعدوان والشرك، تلقى أمر الخليفة بالزحف الى الشام، ليكون أميرا على جيوش الاسلام التي سبقته اليها..
وما اسرع ما امتثل خالد وأطلع، فترك على العراق المثنّى بن الحارثة وسار مع قواته التي اختارها حتى وصل مواقع المسلمين بأرض الشام، وأنجز بعبقريته الباهرة تنظيم الجيش المسلم وتنسيق مواقعه في وقت وجيز، وبين يدي المعركة واللقاء، وقف في المقاتلين خطيبا فقال بعد أن حمد ربه وأثنى عليه:
" ان هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي..
أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، وتعالوا نتعاور الامارة، فيكون أحدنا اليوم أميرا، والآخر غدا، والآخر بعد غد، حتى يتأمّر كلكم"...
هذا يوم من أيام الله..
ما أروعها من بداية..!!
لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي..
وهذه أكثر روعة وأوفى ورعا!!
ولم تنقص القائد العظيم الفطنة المفعمة بالايثار، فعلى الرغم من أن الخليفة وضعه على رأس الجيش بكل أمرائه، فانه لم يشا أن يكون عونا للشيطان على أنفس أصحابه، فتنازل لهم عن حقه الدائم في الامارة وجعلها دولة بينهم..
اليوم أمير، وغدا أمير ثان.. وبعد غد أمير آخر..وهكذا..
كان جيش الروم بأعداده وبعتاده، شيئا بالغ الرهبة..
لقد أدرك قوّاد الروم أن الزمن في صالح المسلمين، وأن تطاول القتال وتكاثر المعارك يهيئان لهم النصر دائما، من أجل ذلك قرروا أن يحشدوا كل قواهم في معركة واحدة يجهزون خلالها على العرب حيث لا يبقى لهم بعدها وجود، وما من شك أن المسلمين أحسّوا يوم ذاك من الرهبة والخطر ما ملأ نفوسهم المقدامة قلقا وخوفا..
ولكن ايمانهم كان يخفّ لخدمتهم في مثل تلك الظلمات الحالكات، فاذا فجر الأمل والنصر يغمرهم بسناه..!!
ومهما يكن بأس الروم وجيوشهم، فقد قال أبو بكر، وهو بالرجال جدّ خبير:
" خالد لها".!!
وقال:" والله، لأشفينّ وساوسهم بخالد".
فليأت الروم بكل هولهم، فمع المسلمين الترياق..!!
عبأ ابن الوليد جيشه، وقسمه الى فيالق، ووضع للهجوم والدفاع خطة جديدة تتناسب مع طريقة الروم بعد أن خبر وسائل اخوانهم الفرس في العراق.. ورسم للمعركة كل مقاديرها..
ومن عجب أن المعركة دارت كما رسم خالد وتوقع، خطوة خطوة، وحركة حركة، حتى ليبدو وكأنه لو تنبأ بعدد ضربات السيوف في المعركة، لما أخطأ التقدير والحساب..!!
كل مناورة توقعها من الروم صنعوها..
كل انسحاب تنبأ به فعلوه..
وقبل أن يخوض القتال كان يشغل باله قليلا، احتمال قيام بعض جنود جيشه بالفرار، خاصة أولئك الذين هم حديثو العهد بالاسلام، بعد أن رأى ما ألقاه منظر جيش الروم من رهبة وجزع..
وكان خالد يتمثل عبقرية النصر في شيء واحد، هو الثبات..
وكان يرى أن حركة هروب يقوم بها اثنان أو ثلاثة، يمكن أن تشيع في الجيش من الهلع والتمزق ما لا يقدر عليه جيش العدو بأسره...
من أجل هذا، كان صارما، تجاه الذي يلقي سلاحه ويولي هاربا..
وفي تلك الموقعة بالذات موقعة اليرموك، وبعد أن أخذ جيشه مواقعه، دعا نساء المسلمين، ولأول مرّة سلّمهن السيوف، وأمرهن، بالوقوف وراء صفوف المسلمين من كل جانب وقال لهن:
" من يولّي هاربا فاقتلنه"..
وكانت لفتة بارعة أدت مهمتها على أحسن وجه..!!
وقبيل بدء القتال طلب قائد الروم أن يبرز اليه خالد ليقول له بضع كلمات ..
وبرز اليه خالد، حيث تواجها فوق جواديهما في الفراغ الفاصل بين الجيشين..
وقال ماهان قائد الروم يخاطب خالدا"
" قد علمنا أنه لم يخرجكم من بلادكم الا الجوع والجهد..
فان شئتم، أعطيت كل واحد منكم عشرة دنانير، وكسوة، وطعاما، وترجعون الى بلادكم، وفي العام القادم أبعث اليكم بمثلها".!!
وضغط خالد الرجل والبطل على أسنانه، وأدرك ما في كلمات قائد الروم من سوء الأدب..
وقرر أن يرد عليه بجواب مناسب، فقال له:
" انه لم يخرجنا من بلادنا الجوع كما ذكرت، ولكننا قوم نشرب الدماء، وقد علمت أنه لا دم أشهى وأطيب من دم الروم، فجئنا لذلك"..!!
ولوة البطل زمام جواده عائدا الى صفوف جيشه. ورفع اللواء عاليا مؤذنا بالقتال..
" الله أكبر"
" هبّي رياح الجنة"..
كان جيشه يندفع كالقذيفة المصبوبة.
ودار قتال ليس لضراوته نظير..
وأقبل الروم في فيالق كالجبال..
وبدا لهم من المسلمين ما لم يكونوا يحتسبون..
ورسم المسلمون صورا تبهر الألباب من فدائيتهم وثباتهم..
فهذا أحدهم يقترب من أبي عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه والقتال دائر ويقول:
" اني قد عزمت على الشهادة، فهل لك من حاجة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغها له حين ألقاه"؟؟
فيجيب أبو عبيدة:
" نعم قل له: يا رسول الله انا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا".
ويندفع الرجل كالسهم المقذوف.. يندفع وسط الهول مشتاقا الى مصرعه ومضجعه.. يضرب بسيفه، ويضرب بآلاف السيوف حتى يرتفع شهيدا..!!
وهذا عكرمة بن أبي جهل..
أجل ابن أبي جهل..
ينادي في المسلمين حين ثقلت وطأة الروم عليهم قائلا:
" لطالما قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهدني الله الاسلام، افأفرّ من أعداء الله اليوم"؟؟
ثم يصيح:" من يبايع على الموت"..
فيبايعه على الموت كوكبة من المسلمين، ثم ينطلقون معا الى قلب المعركة لا باحثين عن النصر، بل عن الشهادة.. ويتقبّل الله بيعتهم وبيعهم،
فيستشهدون..!!
وهؤلاء آخرون أصيبوا بجراح أليمة، وجيء لهم بماء يبللون به أفواههم، فلما قدم الماء الى أولهم، أشار الى الساقي أن أعط أخي الذي بجواري فجرحه أخطر، وظمؤه أشد.. فلما قدّم اليه الماء، اشار بدوره لجاره. فلما انتقل اليه أشار بدوره لجاره..
وهكذا، حتى.. جادت أرواح أكثرهم ظامئة.. ولكن أنضر ما تكون تفانيا وايثارا..!!
أجل..
لقد كانت معركة اليرموك مجالا لفدائية يعز نظيرها.
ومن بين لوحات الفداء الباهرة التي رسمتها عزمات مقدرة، تلك اللوحة الفذة.. لوحة تحمل صورة خالد بن الوليد على رأس مائة لا غير من جنده، ينقضّون على ميسرة الروم وعددها أربعون ألف جندي، وخالد يصيح في المائة الذين معه:
" والذي نفسي بيده ما بقي مع الروم من الصبر والجلد الا ما رأيتم.
واني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم".
مائة يخوضون في أربعين ألف.. ثم ينتصرون..!!
ولكن أي عجب؟؟
أليس ملء قلوبهم ايمان بالله العلي الكبير..؟؟
وايمان برسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم؟؟
وايمان بقضية هي أكثر قضايا الحياة برا، وهديا ونبلا؟
وأليس خليفتهم الصديق رضي الله عنه، هذا الذي ترتفع راياته فوق الدنيا، بينما هو في المدينة العاصمة الجديدة للعالم الجديد، يحلب بيده شياه الأيامى، ويعجن بيده خبز اليتامى..؟؟
وأليس قائدهم خالد بن الوليد ترياق وساوس التجبر،والبغي، والعدوان، وسيف الله المسلول على قوى التخلّف والتعفّن والشرك؟؟
أليس ذلك، كذلك..؟
اذن، هبي رياح النصر...
هبّي قويّة عزيزة، ظافرة، قاهرة...
لقد بهرت عبقرية خالد قوّاد الروم وأمراء جيشهم، مما حمل أحدهم، واسمه جرجه على أن يدعو خالدا للبروز اليه في احدى فترات الراحة بين القتال.
وحين يلتقيان، يوجه القائد الرومي حديثه الى خالد قائلا:
" يا خالد، أصدقني ولا تكذبني فان الحرّ لا يكذب..
هل أنزل على نبيّكم سيفا من السماء فأعطاك ايّاه، فلا تسلّه على أحد الا هزمته"؟؟
قال خالد: لا..
قال الرجل:
فبم سميّت بسيف الله"؟
قال خالد: ان الله بعث فينا نبيه، فمنا من صدّقه ومنا من كذّب. وكنت فيمن كذّب حتى أخذ الله قلوبنا الى الاسلام، وهدانا برسوله فبايعناه..
فدعا لي الرسول، وقال لي: أنت سيف من سيوف الله، فهكذا سميّت.. سيف الله".
قال القائد الرومي: والام تدعون..؟
قال خالد:
الى توحيد الله، والى الاسلام.
قال:
هل لمن يدخل في الاسلام اليوم مثل ما لكم من المثوبة والأجر؟
قال خالد: نعم وأفضل..
قال الرجل: كيف وقد سبقتموه..؟
قال خالد:
لقد عشنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأينا آياته ومعجزاته وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم في يسر..
أما أنتم يا من لم تروه ولم تسمعوه، ثم آمنتم بالغيب، فان أجركم أجزل وأكبر اا صدقتم الله سرائركم ونواياكم.
وصاح القائد الرومي، وقد دفع جواده الى ناحية خالد، ووقف بجواره:
علمني الاسلام يا خالد"".!!!
وأسلم وصلى ركعتين لله عز وجل.. لم يصلّ سواهما، فقد استأنف الجيشان القتال.. وقاتل جرجه الروماني في صفوف المسلمين مستميتا في طلب الشهادة حتى نالها وظفر بها..!!
وبعد، فها نحن أولاء نواجه العظمة الانسانية في مشهد من أبهى مشاهدها.. اذ كان خالد يقود جيوش المسلمين في هذه المعركة الضارية، ويستلّ النصر من بين أنياب الروم استلالا فذا، بقدر ما هو مضن ورهيب، واذا به يفاجأ بالبريد القادم من المدينة من الخليقة الجديد، أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.. وفيه تحيّة الفاروق للجيش المسلم، نعيه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وتولية أبي عبيدة بن الجرّاح مكانه..
قرأ خالد الكتاب، وهمهم بابتهالات الترحّم على ابي بكر والتوفيق لعمر..
ثم طلب من حامل الكتاب ألا يبوح لأحد بما فيه وألزمه مكانه أمره ألا يغادره، وألا يتصل بأحد.
استأنف قيادته للمعركة مخفيا موت أبي بكر، وأوامر عمر حتى يتحقق النصر الذي بات وشيكا وقريبا..
ودقّت ساعة الظفر، واندحر الروم..
وتقدّم البطل من أبي عبيدة مؤديا اليه تحيّة الجندي لقائده... وظنها أبو عبيدة في أول الأمر دعابة من دعابات القائد الذي حققق نصرا لم يكن في الحسبان.. بيد أنه ما فتئ أن رآها حقيقة وجدّا، فقبّل خالد بين عينيه، وراح يطري عظمة نفسه وسجاياه..
وثمّت رواية تاريخية أخرى، تقول: ان الكتاب أرسل من أمير المؤمنين عمر الى أبي عبيدة، وكتم أبو عبيدة النبأ عن خالد حتى انتهت المعركة..
وسواء كان الأمر هذا أو ذاك، فان مسلك خالد في كلتا الحالتين هو الذي يعنينا.. ولقد كان مسلكا بالغ الروعة والعظمة والجلال..
ولا أعرف في حياة خالد كلها موقفا ينبئ باخلاصه العميق وصدقه الوثيق، مثل هذا الموقف...
فسواء عليه أن يكون أميرا، أو جنديا..
ان الامارة كالجندية، كلاهما سبب يؤدي به واجبه نحو الله الذي آمن به، ونحو الرسول الذي بايعه، ونحو الدين الذي اعتنقه وسار تحت رايته..
وجهده المبذول وهو أمير مطاع.. كجهده المبذول وهو جندي مطيع..!
ولقد هيأ له هذا الانتصار العظيم على النفس، كما هيأه لغيره، طراز الخلفاء الذين كانوا على راس الأمة المسلمة والدولة المسلمة يوم ذاك..
أبو بكر وعمر..
اسمان لا يكاد يتحرّك بهما لسان، حتى يخطر على البال كل معجز من فضائل الانسان، وعظمة الانسان..
وعلى الرغم من الودّ الذي كان مفقودا أحيانا بين عمر وخالد، فان نزاهة عمر وعدله،وورعه وعظمته الخارقة، لم تكن قط موضع تساؤول لدى خالد..
ومن ثم لم تكن قراراته موضع سك، لأن الضمير الذي يمليها، قد بلغ من الورع، ومن الاستقامة، ومن الاخلاص والصدق أقصى ما يبلغه ضمير منزه ورشيد..
لم يكن أمير المؤمنين عمر يأخذ على خالد من سوء، ولكنه كان يأخذ على سيفه التسرّع، والحدّة..
ولقد عبّر عن هذا حين اقترح على أبي بكر عزله اثر مقتل مالك بن نويرة، فقال:
" ان في سيف خالد رهقا"
أي خفة وحدّة وتسرّع..
فأجابه الصدّيق قائلا:
" ما كنت لأشيم سيف سلّه الله على الكافرين".
لم يقل عمر ان في خالد رهقا.. بل جعل الرهق لسيفه لا لشخصه، وهي كلمات لا تنمّ عن أدب أمير المؤمنين فحسب، بل وعن تقديره لخالد أيضا..
وخالد رجل حرب من المهد الى اللحد..
فبيئته، ونشأته، وتربيته وحياه كلها، قبل الاسلام وبعده كانت كلها وعاء لفارس، مخاطر، داهية..
ثم ان الحاح ماضيه قبل السلام، والحروب التي خاضها ضد الرسول وأصحابه، والضربات التي أسقط بها سيفه أيام الشرك رؤوسا مؤمنة، وجباها عابدة، كل هذا كان له على ضميره ثقل مبهظ، جعل سيفه توّاقا الى أن يطوّح من دعامات الشرك أضعاف ما طوّح من حملة الاسلام..
وانكم لتذكرون العبارة التي أوردناها أوّل هذا الحديث والتي جاءت في سياق حديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ قال له:
" يا رسول الله..
استغفر لي كل ما أوضعت فيه عن صدّ عن سبيل الله".
وعلى الرغم من انباء الرسول صلى الله عليه وسلم اياه، بأن الاسلام يجبّ ما كان قبله، فانه يظل يتوسل على الظفر بعهد من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر الله له فيما صنعت من قبل يداه..
والسيف حين يكون في يد فارس خارق كخالد بن الوليد، ثم يحرّك اليد القابضة عليه ضمير متوهج بحرارة التطهر والتعويض، ومفعم بولاء مطلق لدين تحيط به المؤمرات والعداوات، فان من الصعب على هذا السيف أن يتخلى عن مبادئه الصارمة، وحدّته الخاطفة..
وهكذا رأينا سيف خالد يسبب لصاحبه المتاعب.
فحين أرسله النبي عليه الصلاة والسلام بعد الفتح الى بعض قبائل العرب القريبة من مكة، وقال له:
" اني أبعثك داعيا لا مقاتلا".
غلبه سيفه على أمره ودفعه الى دور المقاتل.. متخليا عن دور الداعي الذي أوصاه به الرسول مما جعله عليه السلام ينتفض جزعا وألما حين بلفه صنيع خالد.. وقام مستقبلا القبلة، رافعا يديه، ومعتذرا الى الله بقوله:
" اللهم اني أبرأ اليك مما صنع خالد".
ثم أرسل عليّا فودى لهم دماءهم وأموالهم.
وقيل ان خالدا اعتذر عن نفسه بأن عبدالله بن حذافة السهمي قال له:
ان رسول الله قد أمرك بقتالهم لامتناعهم عن الاسلام..
كان خالد يحمل طاقة غير عادية.. وكان يستبد به توق عارم الى هدم عالمه القديم كله..
ولو أننا نبصره وهو يهدم صنم العزّى الذي أرسله النبي لهدمه.
لو أننا نبصره وهو يدمدم بمعوله على هذه البناية الحجرية، لأبصرنا رجلا يبدو كأنه يقاتل جيشا بأسره، يطوّح رؤوس أفرداه ويتبر بالمنايا صفوفه.
فهو يضرب بيمينه، وبشماله، وبقدمه، ويصيح في الشظايا المتناثرة، والتراب المتساقط:
" يا عزّى كفرانك، لا سبحانك
اني رأيت الله قد أهانك"..!!
ثم يحرقها ويشعل النيران في ترابها..!
كانت كل مظاهر الشرك وبقاياه في نظر خالد كالعزّى لا مكان لها في العالم الجديد الذي وقف خالد تحت أعلامه..
ولا يعرف خالد أداة لتصفيتها الا سيفه..
والا.." كفرانك لا سبحانك..
اني رأيت الله قد أهانك"..!!
على أننا اذ نتمنى مع أمير المؤمنين عمر، لوخلا سيف خالد من هذا الرهق، فاننا سنظل نردد مع أمير المؤمنين قوله:
" عجزت النساء أن يلدن مثل خالد"..!!
لقد بكاه عمر يوم مات بكاء كثيرا، وعلم الانس فيما بعد أنه لم يكن يبكي فقده وحسب، بل ويبكي فرصة أضاعها الموت عن عمر اذ كان يعتزم رد الامارة الى خالد بعد أن زال افتتان الناس به. ومحصت أسباب عزله، لولا أن تداركه الموت وسارع خالد الى لقاء ربه.
نعم سارع البطل العظيم الى مثواه في الجنة..
أما آن له أن يستريح..؟؟ هو الذي لم تشهد الأرض عدوّا للراحة مثله..؟؟
أما آن لجسده المجهد أن ينام قليلا..؟؟ هو الذي كان يصفه أصحابه وأعداؤه بأنه:
" الرجل الذي لا ينام ولا يترك أحدا ينام"..؟؟
أما هو، فلو خيّر لاختار أن يمدّ الله له في عمره مزيدا من الوقت يواصل فيه هدم البقايا المتعفنة القديمة، ويتابع عمله وجهاده في سبيل الله والاسلام..
ان روح هذا الرجل وريحانه ليوجدان دائما وابدا، حيث تصهل الخيل، وتلتمع الأسنّة، وتخفق رايات التوحيد فوق الجيوش المسلمة..
وانه ليقول:
" ما ليلة يهدى اليّ فيها عروس، أو أبشّر فيها بوليد، بأحبّ اليّ من ليلة شديدة الجليد، في سريّة من المهاجرين، أصبح بهم المشركين"..
من أجل ذلك، كانت مأساة حياته أن يموت في فراشه، وهو الذي قضى حياته كلها فوق ظهر جواده، وتحت بريق سيفه...
هو الذي غزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقهر أصحاب الردّة، وسوّى بالتراب عرش فارس والروم، وقطع الأرض وثبا، في العراق خطوة خطوة، حتى فتحها للاسلام، وفي بلاد الشام خطوة خطوة حتى فتحها كلها للاسلام...
أميرا يحمل شظف الجندي وتواضعه.. وجنديا يحمل مسؤولية الأمير وقدوته..
كانت مأساة حياة البطل أن يموت البطل على فراشه..!!
هنالك قال ودموعه تنسال من عينيه:
" لقد شهدت كذا، وكذا زحفا، وما في جسدي موضع الا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، أو رمية سهم..
ثم هأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء"..!
كلمات لا يجيد النطق بها في مثل هذا الموطن، الا مثل هذا الرجل، وحين كان يستقبل لحظات الرحيل، شرع يملي وصيّته..
أتجرون الى من أوصى..؟
الى عمر بن الخطاب ذاته..!!
أتدرون ما تركته..؟
فرسه وسلاحه..!!
ثم ماذا؟؟
لا شيء قط ، مما يقتني الناس ويمتلكون..!!
ذلك أنه لم يكن يستحوذ عليه وهو حيّ، سوى اقتناء النصر وامتلاك الظفر على أعداء الحق.
وما كان في متاع الدنيا جميعه ما يستحوذ على حرصه..
شيء واحد، كان يحرص عليه في شغف واستماتة.. تلك هي قلنسوته"..
سقطت منه يوم اليرموك. فأضنى نفسه والناس في البحث عنها.. فلما عوتب في ذلك قال:
" ان فيها بعضا من شعر ناصية رسول الله واني أتافاءل بها، وأستنصر".
وأخيرا، خرج جثمان البطل من داره محمولا على أعناق أصحابه ورمقته أم البطل الراحل بعينين اختلط فيهما بريق العزم بغاشية الحزن فقالت تودّعه:
أنت خير من ألف ألف من القوم اذا ما كبت وجوه الرجال
أشجاع..؟ فأنت أشجع من لي ث غضنفر يذود عن أشبال
أجواد..؟ فأنت أجود من سي ل غامر يسيل بين الجبال
وسمعها عمر فازداد قلبه خفقا.. ودمعه دفقا.. وقال:
" صدقت..
والله ان كان لكذلك".
وثوى البطل في مرقده..
ووقف أصحابه في خشوع، والدنيا من حولهم هاجعة، خاشعة، صامتة..
لم يقطع الصمت المهيب سوى صهيل فرس جاءت تركض بعد أن خلعت رسنها، وقطعت شوارع المدينة وثبا وراء جثمان صاحبها، يقودها عبيره وأريجه..
واذ بلغت الجمع الصامت والقبر الرطب لوت برأسها كالراية، وصهيلها يصدح.. تماما مثلما كانت تصنع والبطل فوق ظهرها، يهدّ عروش فارس والروم، ويشفي وساوس الوثنية والبغي، ويزيح من طريق الاسلام كل قوى التقهقر والشرك...
وراحت وعيناها على القبر لا تزيغان تعلو برأسها وتهبط، ملوّحة لسيدها وبطلها مؤدية له تحية الوداع..!!
ثم وقفت ساكنة ورأسها مرتفع.. وجبهتها عالية.. ولكن من مآقيها تسيل دموع غزار وكبار..!!
لقد وقفها خالد مع سلاحه في سبيل الله..
ولكن هل سيقدر فارس على أن يمتطي صهوتها بعد خالد..؟؟
وهل ستذلل ظهرها لأحد سواه..؟؟
ايه يا بطل كل نصر..
ويا فجر كل ليلة..
لقد كنت تعلو بروح جيشك على أهوال الزحف بقولك لجندك:
" عند الصباح يحمد القوم السرى"..
حتى ذهبت عنك مثلا..
وهأأنتذا، قد أتممت مسراك..
فلصباحك الحمد أبا سليمان..!!
ولذكراك المجد، والعطر، والخلد، يا خالد..!!
ودعنا.. نردد مع أمير المؤمنين عمر كلماته العذاب الرطاب التي ودّعك بها ورثاك:
" رحم الله أبا سليمان
ما عند الله خير مما كان فيه
ولقد عاش حميدا
ومات سعيدا
الشخصية السابعة والعشرون
صفية بنت عبد المطلب
عمة رسول الله
رضي الله عنها وأرضاها
من هذه السيدة الجزلة الرزان التي كان يحسب لها الرجال ألف حساب ؟ .
من هذه الصحابية الباسلة التي كانت أول امرأة قتلت مشركاً في الإسلام ؟ ...
من هذه المرأة الحازمة التي انشأت للمسلمين أول فارس سل سيفاً في سبيل الله ؟ ...
إنها صفية بنت عبد المطلب الهاشمية القرشية عمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
***
اكتنف المجد صفية بنت عبدالمطلب من كل جانب:
فأبوها, عبدالمطلب بن هاشم جد النبي (صلى الله عليه وسلم) و زعيم قريش و سيدها المطاع .
و أمها, هالة بنت وهب أخت آمنة بنت وهب والدة الرسول (صلى الله عليه وسلم).
وزوجها الأول, الحارث بن حرب أخو أبي سفيان ابن حرب زعيم بني (( أمية )) , وقد توفي عنها .
وزوجها الثاني, العوام بن خويلد أخو خديجة بنت خويلد سيدة نساء العرب في الجاهلية , وأولى أمهات المؤمنين في الإسلام.
وابنها, الزبير بن العوام حواري رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
أفبعد هذا الشرف شرف تطمح إليه النفوس غير شرف الإيمان ؟!.
***
لقد توفي عنها زوجها العوام بن خويلد وترك لها طفلاً صغيراً هو ابنها (( الزبير )) فنشأته على الخشونة و البأس ...
وربته على الفروسية والحرب ...
وجعلت لعبه في بري السهام و إصلاح القسيِّ.
ودأبت على أن تقذفه في كل مَخُوفَةٍ , و تقحمه في كل خطر ...
فإذا رأته أحجم أو تردد ضربته ضرباً مبرحاً , حتى إنها عوتبت في ذلك من قبل أحد أعمامه حيث قال لها :
ما هكذا يضرب الولد... إنك تضربينه ضرب مبغضة لا ضرب أم؛ فارتجزت قائلة :
من قال قد أبغضـتـه فــقـد كـذب
وإنـمـــا أضـــربـــه لـــكي يلــــب
و يهزم الجيش و يأتي بالسلــب
***
ولما بعث الله نبيه بدين الهدى والحق , و أرسله نذيراً للناس , و أمره بأن يبدأ بذوي قرباه جمع بني عبدالمطلب ... نساءهم و رجالهم و كبارهم و صغارهم , و خاطبهم قائلاً :
(يا فاطمة بنت محمد, يا صفية بنت عبدالمطلب, يابني عبد المطلب إني لا أملك لكم من الله شيئاً).
ثم دعاهم إلى الإيمان بالله, و حضهم على التصديق برسالته ...
فأقبل على النور الإلهي منهم من أقبل , و أعرض عن ضيائه من أعرض ؛ فكانت صفية بنت عبدالمطلب في الرعيل الأول من المؤمنين المصدقين ... عند ذلك جمعت صفية المجد من أطرافه : سؤدد الحسب , و عز الإسلام .
***
انضمت صفية بنت عبدالمطلب إلى موكب النور هي وفتاها الزبير بن العوام , و عانت ما عاناه المسلمون السابقون من بأس قريش وعنتها و طغياتها .
فلما أذن الله لنبيه والمؤمنين معه بالهجرة إلى المدينة خلفت السيدة الهاشمية وراءها مكة بكل ما لها فيها من طيوب الذكريات , و ضروب المفاخر والمآثر و يممت وجهها شطر المدينة, مهاجرة بدينها إلى الله ورسوله .
***
وعلى الرغم من أن السيدة العظيمة كانت يومئذٍ تخطوا نحو الستين من عمرها المديد الحافل ...
فقد كان لها في ميادين الجهاد مواقف ما يزال يذكرها التاريخ بلسان نديٍّ بالإعجاب رطيب بالثناء , وحسبنا من هذه المواقف مشهدان اثنان:
كان أولهما يوم أحد ...
وثانيهما يوم الخندق .
***
أما ما كان منها في (( أحد )) فهو أنها خرجت مع جند المسلمين في ثلة من النساء جهاداً في سبيل الله . فجعلت تنقل الماء, و تروي العطاش, و تبري السهام, و تصلح القسيَّ . وكان لها مع ذلك عرض آخر هو أن ترقب المعركة بمشاعرها كلها ...
ولا غرو فقد كان في ساحتها ابن أخيها محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ...
و أخوها حمزة بن عبدالمطلب أسد الله ...
وابنها الزبير بن العوام حواري نبي الله (صلى الله عليه وسلم) ...
وفي المعركة - قبل ذلك كله و فوق ذلك كله - مصير الإسلام الذي اعتنقته راغبة ...
وهاجرت في سبيله محتسبة ...
وأبصرت من خلاله طريق الجنة .
***
و لما رأت المسلمين ينكشفون عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا قليلاً منهم...
ووجدت المشركين يوشكون أن يصلوا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) و يقضوا عليه ؛ طرحت سقائها أرضاً ...
وهبت كاللبوة التي هوجم أشبالها و انتزعت من يد أحد المنهزمين رمحه, ومضت تشق به الصفوف, وتضرب بسنانه الوجوه, و تزأر في المسلمين قائلة :
ويحكم, أنهزمتم عن رسول الله ؟!!
فلما رآها النبي عليه الصلاة والسلام مقبلة خشي عليها أن ترى أخاها حمزة وهو صريع, وقد مثل به المشركون أبشع تمثيل فأشار إلى ابنها الزبير قائلاً:
(المرأة يازبير ... المرأة يا زبير ...).
فأقبل عليها الزبير وقال :
يا أُمَّهْ إليكِ ... إليكِ يا أُمَّهْ.
فقالت : تنح لا أم لك .
فقال : إن رسول الله يأمرك أن ترجعي ...
قثالت : وَلِمَ ؟! إنه قد بلغني أنه مُثِّلَ بأخي , وذلك في الله ...
فقال له الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (خل سبيلها يا زبير) ؛ فخلى سبيلها .
***
ولما وضعت الحرب أوزارها ... وقفت صفية على أخيها حمزة فوجدته قد بقر بطنه , و أخرجت كبده , وجدع أنفه , وصلمت أذناه , وشُوِّهَ وجهه , فاستغفرت له, وجعلت تقول :
إن ذلك في الله ...
لقد رضيت بقضاء الله .
والله لأصبرن , و لأحتسبن إن شاء الله.
***
كان ذلك موقف صفية بنت عبدالمطلب يوم (( أحد )) ...
أما موقفها يوم (( الخندق )) فله قصة مثيرة سُداها الدهاء و الذكاء و لحمتها البسالة والحزم ...
[السَّدى : الخيوط الطويلة للنسيج, و اللحمة : الخيوط العرضية ]
فأليك خبرها كما وعته كتب التاريخ .
***
لقد كان من عادة الرسول (صلى الله عليه وسلم إذا عزم على غزوة من الغزوات أن يضع النساء والذراري في الحصون خشية أن يغدر بالمدينة غادر في غيبة حُماتها .
فلما كان يوم الخندق جعل نساءه و عمته و طائفة من نساء المسلمين في حصنٍ لحسان بن ثابت ورثة عن آبائه , وكان من أمنع حصون المدينة مناعةً و أبعدها منالاً .
وبينما كان المسلمون يرابطون على حواف الخندق في مواجهة قريش و أحلافها , وقد شُغِلوا عن النساء والذراري بمنازلة العدو .
أبصرت صفية بنت عبدالمطلب شبحاً يتحرك في عتمة الفجر , فأرهفت له السمع , وأحدت له إليه البصر ...
فإذا هو يهودي أقبل على الحصن , و جعل يطيف به متحسساً أخباره متجسساً على من فيه .
فأدركت أنه عين لبني قومه جاء ليعلم أفي الحصن رجال يدافعون عمن فيه , أم إنه لايضم بين جدرانه غير النساء والأطفال .
فقالت في نفسها : إن يهود بني قريظة قد نقضوا ما بينهم و بين رسول الله من عهد وظاهروا قريشاً و أحلافها على المسلمين ...
وليس بيننا وبينهم أحد من المسلمين يدافع عنا, ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومن معه مرابطون في نحور العدو ...
فإن استطاع عدو الله أن ينقل إلى قومه حقيقة أمرنا سبى اليهود نساء المسلمين واسترقوا الذراري, وكانت الطامة على المسلمين .
***
عند ذلك بادرت إلى خمارها فلفته على رأسها, و عمدت إلى ثيابها فشدتها على وسطها, و أخذت عموداً على عاتقها, ونزلت إلى باب الحصن فشقته في أناةٍ و حذق, و جعلت ترقب من خلاله عدو الله في يقظة و حذر , حتى إذا أيقنت أنه غدا في موقف يمكنها منه ...
حملت عليه حملة حازمة صارمة, وضربته بالعمود على رأسه فطرحته أرضاً ...
ثم عززت الضربة الأول بثانية وثالثة حتى أجهزت عليه , و أخمدت أنفاسه بين جنبيه ...
ثم بادرت إليه فاحتزت رأسه بسكين كانت معها , وقذفت بالرأس من أعلى الحصن...
فطفق يتدحرج على سفوحه حتى استقر بين أيدي اليهود الذين كانوا يتربصون في أسفله .
فلما رأى اليهود رأس صاحبهم؛ قال بعضهم لبعض :
قد علمنا إن محمداً لم يكن ليترك النساء و الأطفال من غير حماة ... ثم عادوا أدراجهم ...
***
رضي الله عن صفية بنت عبدالمطلب.
فقد كانت مثلاَ فذا للمرأة المسلمة ...
ربت وحيدها فأحكمت تربيته ...
وأصيبت بشقيقها فأحسنت الصبر عليه ...
واختبرتها الشدائد فوجدت فيها المرأة الحازمة العاقلة الباسلة ...
ثم إن التاريخ كتب في أنصع صفحاته :
إن صفية بنت عبدالمطلب كانت أول امرأةٍ قتلت مشركاً في الإسلام .
الشخصية الثامنة والعشرون
خباب بن الأرت
أستاذ فنّ الفداء
رضي الله عنه وأرضاه
خرج نفر من القرشيين، يغدّون الخطى، ميممين شطر دار خبّاب ليتسلموا منه سيوفهم التي تعاقدوا معه على صنعها..
وقد كان خباب سيّافا، يصنع السيوف ويبيعها لأهل مكة، ويرسل بها الى الأسواق..
وعلى غير عادة خبّاب الذي لا يكاد يفارق بيته وعمله، لم يجده ذلك النفر من قريش فجلسوا ينتظرونه..
وبعد حين طويل جاء خباب على وجهه علامة استفهام مضيئة، وفي عينيه دموع مغتبطة.. وحيّا ضيوفه وجلس..
وسألوه عجلين: هل أتممت صنع السيوف يا خباب؟؟
وجفت دموع خباب، وحل مكانها في عينيه سرور متألق، وقال وكأنه يناجي نفسه: ان أمره لعجب..
وعاد القوم يسألونه: أي أمر يا رجل..؟؟ نسألك عن سيوفنا، هل أتممت صنعها..؟؟
ويستوعبهم خبّاب بنظراته الشاردة الحالمة ويقول:
هل رأيتموه..؟ هل سمعتم كلامه..؟
وينظر بعضهم لبعض في دهشة وعجب..
ويعود أحدهم فيسأله في خبث:
هل رأيته أنت يا خبّاب..؟؟
ويسخر خبّاب من مكر صاحبه، فيردّ عليه السؤال قائلا:
من تعني..؟
ويجيب الرجل في غيظ: أعني الذي تعنيه..؟
ويجيب خبّاب بعد اذ أراهم أنه أبعد منالا من أن يستدرج، وأنه اعترف بايمانه الآن أمامهم، فليس لأنهم خدعوه عن نفسه، واستدرجوا لسانه، بل لأنه رأى الحق وعانقه، وقرر أن يصدع به ويجهر..
يجيبهم قائلا، وهو هائم في نشوته وغبطة روحه:
أجل... رأيته، وسمعته.. رأيت الحق يتفجر من جوانبه، والنور يتلألأ بين ثناياه..!!
وبدأ عملاؤه القرشيون يفهمون، فصاح به أحدهم:
من هذا الذي تتحدث عنه يا عبد أمّ أنمار..؟؟
وأجاب خبّاب في هدء القديسين:
ومن سواه، يا أخا العرب.. من سواه في قومك، من يتفجر من جوانبه الحق، ويخرج النور بين ثناياه..؟!
وصاح آخر وهبّ مذعورا:
أراك تعني محمدا..
وهز خبّاب رأسه المفعم بالغبطة، وقال:
نعم انه هو رسول الله الينا، ليخرجنا من الظلمات الى االنور..
ولا يدري خبّاب ماذا قال بعد هذه الكلمات، ولا ماذا قيل له..
كل ما يذكره أنه أفاق من غيبوبته بعد ساعات طويلة ليرى زوّاره قد انفضوا.. وجسمه وعظامه تعاني رضوضا وآلاما، ودمه النازف يضمّخ ثوبه وجسده..!!
وحدّقت عيناه الواسعتان فيما حوله.. وكان المكان أضيق من أن يتسع لنظراتهما النافذة، فتحمّل على آلامه، ونهض شطر الفضاء وأمام باب داره وقف متوكئا على جدارها، وانطلقت عيناه الذكيتان في رحلة طويلة تحدّقان في الأفق، وتدوران ذات اليمين وذات الشمال..انهما لا تقفان عند الأبعاد المألوفة للناس.. انهما تبحثان عن البعد المفقود...أجل تبحثان عن البعد المفقود في حياته، وفي حياة الناس الذين معه في مكة، والناس في كل مكان وزمان..
ترى هل يكون الحديث الذي سمعه من محمد عليه الصلاة والسلام اليوم، هو النور الذي يهدي الى ذلك البعد المفقود في حياة البشر كافة..؟؟
واستغرق خبّاب في تأمّلات سامية، وتفكير عميق.. ثم عاد الى داخل داره.. عاد يضمّد جراح جسده، ويهيءه لاستقبال تعذيب جديد،
وآلام جديدة..!!
ومن ذلك اليوم أخذ خبّاب مكانه العالي بين المعذبين والمضطهدين..
أخذ مكانه العالي بين الذين وقفوا برغم فقرهم، وضعفهم يواجهون كبرياء قريش وعنفها وجنونها..
أخذ مكانه العالي بين الذين غرسوا في قلوبهم سارية الراية التي أخذت تخفق في الأفق الرحيب ناعية عصر الوثنية، والقيصرية.. مبشرة بأيام المستضعفين والكادحين، الذين سيقفون تحت ظل هذه الراية سواسية مع أولئك الذين استغلوهم من قبل، وأذاقوهم الحرمان والعذاب..
وفي استبسال عظيم، حمل خبّاب تبعاته كرائد..
يقول الشعبي:
" لقد صبر خبّاب، ولم تلن له أيدي الكفار قناة، فجعلوا يلصقون ظهره العاري بالرضف حتى ذهب لحمه"..!!
أجل كان حظ خبّاب من العذاب كبيرا، ولكن مقاومته وصبره كانا أكبر من العذاب..
لقد حوّل كفار قريش جميع الحديد الذي كان بمنزل خبّاب والذي كان يصنع منه السيوف.. حولوه كله الى قيود وسلاسل، كان يحمى عليها في النار حتى تستعر وتتوهج، ثم يطوّق بها جسده ويداه وقدماه..
ولقد ذهب يوما مع بعض رفاقه المضطهدين الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا جوعين من التضحية، بل راجين العافية، فقالوا:" يا رسول الله.. ألا تستنصر لنا..؟؟" أي تسأل الله لنا النصر والعافية...
ولندع خبّابا يروي لنا النبأ بكلماته:
" شكونا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببرد له في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا..؟؟
فجلس صلى الله عليه وسلم، وقد احمرّ وجهه وقال:
قد كان من قبلكم يؤخذ منهم الرجل، فيحفر له في الأرض، ثم يجاء بمنشار، فيجعل فوق رأسه، ما يصرفه ذلك عن دينه..!!
وليتمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت لا يخشى الا الله عز وجل، والذئب على غنمه، ولكنكم تعجلون"..!!
سمع خبّاب ورفاقه هذه الكلمات، فازداد ايمانهم واصرارهم وقرروا أن يري كل منهم ربّه ورسوله ما يحبّان من تصميم وصبر، وتضحية.
وخاض خبّاب معركة الهول صابرا، صامدا، محتسبا.. واستنجد القرشيون أم أنمار سيدة خبّاب التي كان عبدا لها قبل أن تعتقه، فأقبلت واشتركت في حملة تعذيبه..
وكانت تأخذ الحديد المحمى الملتهب، وتضعه فوق رأسه ونافوخه، وخبّاب يتلوى من الألم، لكنه يكظم أنفاسه، حتى لا تخرج منه زفرة ترضي غرور جلاديه..!!
ومرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، والحديد المحمّى فوق رأسه يلهبه ويشويه، فطار قلبه حنانا وأسى، ولكن ماذا يملك عليه الصلاة والسلام يومها لخبّاب..؟؟
لا شيء الا أن يثبته ويدعو له..
هنالك رفع الرسول صلى الله عليه وسلم كفيه المبسوطتين الى السماء، وقال:
" اللهم أنصر خبّابا"..
ويشاء الله ألا تمضي سوى أيام قليلة حتى ينزل بأم أنمار قصاص عاجل، كأنما جعله القدر نذيرا لها ولغبرها من الجلادين، ذلك أنها أصيبت بسعار عصيب وغريب جعلها كما يقول المؤرخون تعوي مثل الكلاب..!!
وقيل لها يومئذ لا علاج سوى أن يكوى رأسها بالنار..!!
وهكذا شهد رأسها العنيد سطوة الحديد المحمّى يصبّحه ويمسّيه..!!
**
كانت قريش تقاوم الايمان بالعذاب.. وكان المؤمنون يقاومون العذاب بالتضحية.. وكان خبّاب واحدا من أولئك الذين اصطفاهم الله ليجعل منهم أساتذة في فن التضحية والفداء..
ومضى خبّاب ينفق وقته وحياته في خدمة الدين الذي خفقت أعلامه..
ولم يكتف رضي الله عنه في أيام الدعوة الأولى بالعبادة والصلاة، بل استثمر قدرته على التعليم، فكان يغشى بيوت بعض اخوانه من المؤمنين الذين يكتمون اسلامهم خوفا من بطش قريش، فيقرأ معهم القرآن ويعلمهم اياه..
ولقد نبغ في دراسة القرآن وهو يتنزل آية آية.. وسورة، سورة حتى ان عبدالله بن مسعود، وهو الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من أراد أن يقرأ القرآن غصّا كما أنزل، فليقراه بقراءة ابن أم عبد"..
نقول:
حتى عبد الله بن مسعود كان يعتبر خبّابا مرجعا فيما يتصل بالقرآن حفظا ودراسة..
وهو الذي كان يدرّس القرآن لـ فاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد عندما فاجأهم عمر بن الخطاب متقلدا سيفه الذي خرج به ليصفي حسابه مع الاسلام ورسوله، لكنه لم يكد يتلو القرآن المسطور في الصحيفة التي كان يعلّم منها خبّاب، حتى صاح صيحته المباركة:
" دلوني على محمد"...!!
وسمع خبّاب كلمات عمر هذه، فخرج من مخبئه الذي كان قد توارى فيه وصاح:
" يا عمر..
والله اني لأرجوا أن يكون الله قد خصّك بدعوة نبيّه صلى الله عليه وسلم، فاني سمعته بالأمس يقول: اللهم أعز الاسلام بأحبّ الرجلين اليك.. أبي الحكم بن هشام، وعمربن الخطاب"..
وسأله عمر من فوره: وأين أجد الرسول الآن يا خبّاب:
" عند الصفا، في دار الأرقم بن أبي الأرقم"..
ومضى عمر الى حظوظه الوافية، ومصيره العظيم..!!
**
شهد خبّاب بن الأرت جميع المشهد والغزوات مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعاش عمره كله حفيظا على ايمانه ويقينه....
وعندما فاض بيت مال لمسلمين بالمال أيام عمر وعثمان، رضي الله عنهما، كان خبّاب صاحب راتب كبير بوصفه من المهاجرين السابقين الى الاسلام..
وقد أتاح هذا الدخل الوفير لخبّاب أن يبتني له دارا بالكوفة، وكان يضع أمواله في مكان ما من الدار يعرفه أصحابه وروّاده.. وكل من وقعت عليه حاجة، يذهب فيأخذ من المال حاجته..
ومع هذا فقد كان خبّاب لا يرقأ له جفن، ولا تجف له دمعة كلما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه الذين بذلوا حياتهم لله، ثم ظفروا بلقائه قبل أن تفتح الدنيا على المسلمين، وتكثر في أيديهم الأموال.
اسمعوه وهو يتحدث االى عوّاده الذين ذهبوا يعودونه وهو رضي الله عنه في مرض موته.
قالوا له:
أبشر يا أبا عبدالله، فانك ملاق اخواتك غدا..
فأجابهم وهو يبكي:
" أما انه ليس بي جزع .. ولكنكم ذكّرتموني أقواما، واخوانا، مضوا بأجورهم كلها لم ينالوا من الدنيا شيئا..
وانّا بقينا بعدهم حتى نلنا من الدنيا ما لم نجد له موضعا الا التراب"..
وأشار الى داره المتواضعة التي بناها.
ثم أشار مرة أخرى الى المكان الذي فيه أمواله وقال:
" والله ما شددت عليها من خيط، ولا منعتها من سائل"..!
ثم التفت الى كنفه الذي كان قد أعدّ له، وكان يراه ترفا واسرافا وقال ودموعه تسيل:
" أنظروا هذا كفني..
لكنّ حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوجد له كفن يوم استشهد الا بردة ملحاء.... اذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه، واذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه"..!!
**
ومات خبّاب في السنة السابعة والثلاثين للهجرة..
مات أستاذ صناعة السيوف في الجاهلية..
وأستاذ صناعة التضحية والفداء في الاسلام..!!
مات الرجل الذي كان أحد الجماعة الذين نزل القرآن يدافع عنهم، ويحييهم، عندما طلب بعض السادة من قريش أن يجعل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، وللفراء من أمثال :خبّاب، وصهيب، وبلال يوما آخر.
فاذا القرآن العظيم يختص رجال الله هؤلاء في تمجيد لهم وتكريم، وتهل آياته قائلة للرسول الكريم:
( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه، ما عليك من حسابهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا: أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟! أليس الله بأعلم بالشاكرين واذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا، فقل سلام عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة)..
وهكذا، لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يراهم بعد نزول الآيات حتى يبالغ في اكرامهم فيفرش لهم رداءه، ويربّت على أكتافهم، ويقول لهم:
" أهلا بمن أوصاني بهم ربي"..
أجل.. مات واحد من الأبناء البررة لأيام الوحي، وجيل التضحية...
ولعل خير ما نودّعه به، كلمات الامام علي كرّم الله وجهه حين كان عائدا من معركة صفين، فوقعت عيناه على قبر غضّ رطيب، فسأل: قبر من هذا..؟
فأجابوه: انه قبر خبّاب..
فتملاه خاشعا آسيا، وقال:
رحم الله خبّابا..
لقد أسلم راغبا.
وهاجر طائعا..
وعاش مجاهدا..
الشخصية التاسعة والعشرون
أم سلمة
اللهم اجرني في مصيبتي
رضي الله عنها وأرضاها
أم سلمة ، وما أدراك ما أم سلمة؟
أما أبوها فسيد من سادات مخزوم المرقومين ، وجواد من أجواد العرب المعدودين ، وأما زوجها فعبد الله بن عبد الأسد أحد العشرة السابقين إلى الإسلام.
أسلمت هند (أم سلمة) مع زوجها فكانت هي الأخرى من السابقات إلى الإسلام أيضا ، وما إن شاع نبأ إسلام أم سلمة وزوجها حتى هاجت قريش وماجت ، وجعلت تصب عليهما من نكالها ، فلم يضعفا ولم يهنا ..
ولما اشتد عليهما الأذى وأذن الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة كانا في طليعة المهاجرين ، وعلى الرغم مما لقيته أم سلمة وصحبها من حماية النجاشي نضر الله في الجنة وجهه ، فقد كان الشوق إلى مكة مهبط الوحي ، والحنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد أشواقها وزوجها لهبا.
ثم تتباعت الأخبار على المهاجرين إلى أرض الحبشة بأن المسلمين في مكة قد كثر عددهم ، وأن إسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم قد شد من أزرهم ، وكف شيئا من أذى قريش عنهم ، فعزم فريق منهم على العودة إلى مكة يحدوهم الشوق ويدعوهم الحنين ، فكانت أم سلمة وزوجها في طليعة العائدين ، لكن سرعان ما اكتشف العائدون أن ما نمي إليهم من أخبار كان مبالغا فيه ، ولقد تفنن المشركون في تعذيب المسلمين وترويعهم ، فأذاقوهم من بأسهم ما لاعهد لهم من قبل.
عند ذلك أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة ، فعزمت أم سلمة وزوجها على أن يكونا أول المهاجرين فراراً بدينهما وتخلصا من أذى قريش ، لكن هجرة أم سلمة وزوجها لم تكن سهلة ميسرة لهما ، وإنما كانت شاقة مرة خلفت وراءها مأساة تهون دونها كل مأساة.
تقول أم سلمة : لما عزم أبو سلمة على الخروج إلى المدينة أعد لي بعيراً ، ثم حملني عليه ، وجعل طفلنا سلمة في حجري ، ومضى يقود بنا البعير وهو لا يلوي على شيء ، وقبل أن نفصل عن مكة رآنا رجال من قومي بني مخزوم فتصدوا لنا ، وقالوا لأبي سلمة :
إن كنت قد غلبتنا على نفسك ، فما بال امرأتك هذه ؟ وهي بنتنا ، فعلام نتركك تأخذها منا وتسير بها في البلاد؟
ثم وثبوا عليه وانتزعوني منه انتزاعا ، وما إن رآهم قوم زوجي بنو عبدالأسد يأخذونني أنا وطفلي ، حتى غضبوا أشد الغضب ، وقالوا : لا والله لا نترك الولد عند صاحبتكم بعد أن انتزعتموها من صاحبنا انتزاعا .. فهو ابننا ونحن أولى به ، ثم طفقوا يتجاذبون طفلي سلمة بينهم على مشهد مني حتى خلعوا يده وأخذوه، وفي لحظات وجدت نفسي ممزقة الشمل وحيدة فريدة ، فزوجي اتجه إلى المدينة فرارا بدينه وبنفسه وولدي اختطفه بنو عبد الأسد من بين يدي ، أما أنا فقد استولى علي قومي بنو مخزوم ، وجعلوني عندهم ...
ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني في ساعة ..
ومنذ ذلك اليوم جعلت أخرج كل غداة إلى الأبطح ، فأجلس في المكان الذي شهد مأساتي ، وأستعيد صورة اللحظات التي حيل فيها بيني وبين ولدي وزوجي ، وأظل أبكي حتي يخيم علي الليل ..
وبقيت على ذلك سنة أو قريبا من سنة إلى أن مر بي رجل من بني عمي فرق لحالي ورحمني وقال لبني قومي : ألا تطلقون هذه المسكينة ؟ فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها . وما زال بهم يستلين قلوبهم ويستدر عطفهم حتى قالوا لي : إلحقي بزوجك إن شئت ..
ولكن كيف لي أن ألحق بزوجي في المدينة وأترك ولدي فلذة كبدي في مكة عند بني عبد الأسد؟ ورأى بعض الناس ما أعالج من أحزاني وأشجاني فرقت قلوبهم لحالي ، وكلموا بني عبد الأسد في شأني واستعطفوهم علي فردوا لي ولدي سلمة.
لم أشأ أن أتريث في مكة حتى أجد من أسافر معه ، فقد كنت أخشى أن يحدث ما ليس بالحسبان فيعوقني عن اللحاق بزوجي عائق .. لذلك بادرت فأعددت بعيري ، ووضعت ولدي في حجري ، وخرجت متوجهة نحو المدينة أريد زوجي ، وما معي أحد من خلق الله ..
وما أن بلغت (التنعيم) حتى لقيت عثمان بن طلحة وكان حاجب بيت الله في الجاهلية ، أسلم مع خالد بن الوليد وشهد فتح مكة فدفع إليه الرسول صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة وكان يوم رافق أم سلمة مشركاً فقال : إلى أين يا بنت زاد الركب (يقصد أبوها).
فقلت : أريد زوجي في المدينة .
قال: أوما معك أحد؟
قلت : لا والله إلا الله ثم بني هذا.
قال : والله لا أتركك أبدا حتى تبلغي المدينة ، ثم أخذ بخطام بعيري وانطلق يهوي بي ...
فوالله ما صحبت رجلا من العرب قط أكرم منه ولا أشرف : كان إذا بلغ منزلا من المنازل ينيخ بعيري ، ثم يستاخر عني ، حتى إذا نزلت عن ظهره واستويت على الأرض دنا إليه وحط عنه رحله ، واقتاده إلى شجرة وقيده فيها ..
ثم يتنحى عني إلى شجرة أخرى فيضطجع في ظلها . فإن حان الرواح قام إلى بعيري فأعده ، وقدمه لي ، ثم يستأخر عني ويقول : اركبي ، فإذا ركبت ن واستويت على البعير ، أتى فأخذ بخطامه وقاده. وما زال يصنع بي مثل ذلك كل يوم حتى بلفنا المدينة ، فلما نظر إلى قرية بقباء لبني عمرو ابن عوف قال : زوجك في هذه القرية، فادخليها على بركة الله ، ثم انصرف راجعا إلى مكة.
اجتمع الشمل الشتيت بعد طول افتراق ، وقرت عين أم سلمة بزوجها ، وسعد أبو سلمة بصاحبته وولده ثم طفقت الأحداث تمضي سراعا كلمح البصر ، فهذه بدر يشهدها أبو سلمة ويعود منها مع المسلمين ، وقد انتصروا نصرا مؤزرا ..
وهذه أحد ، يخوض غمارها بعد بدر ويبلى فيها أحسن البلاء وأكرمه ، لكنه يخرج منها وقد جرح جرحا بليغا ، فما زال يعالجه حتى بدا له أنه قد اندمل ، لكن الجرح كان قد رم على فساد فما لبث أن انتكأ ولزم أبو سلمة الفراش ..
وفيما كان ابو سلمة يعالج من جرحه قال لزوجه :
يا أم سلمة ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يصيب أحدا مصيبة ، فيسترجع عند ذلك ويقول : اللهم عندك احتسبت مصيبتي هذه ، اللهم أخلفني خيرا منها إلا أعطاه الله عز وجل خيرا منها ..
ظل أبو سلمة على فراش مرضه أياما ، وفي ذات صباح جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعوده ، فلم يكد ينتهي من زياره ويجاوز باب داره ، حتى فارق ابو سلمة الحياة ، فأغمض النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفتين عيني صاحبه ، ورفع طرفه إلى السماء وقال:
اللهم اغفر لأبي سلمة ، وارفع درجته في المقربين .. واخلفه في عقبه في الغابرين ، واغفر لنا وله يارب العالمين ، وافسح له في قبره ونور له قبره .
أما أم سلمة فتذكرت ما رواه لها أبو سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت :
اللهم عندك احتسب مصيبتي هذه ... لكنها لم تطب نفسها أن تقول : اللهم أخلفني فيها خيرا منها ، لأنها كانت تتساءل ومن عساه أن يكون خيرا من أبي سلمة ؟ لكنها ما لبثت أن أتمت الدعاء ..
حزن المسلمون لمصاب أم سلمة كما لم يحزنوا لمصاب أحد من قبل ، وأطلقوا عليها اسم (أيم العرب) أي المرأة التي فقدت زوجها ، إذ لم يكن لها في المدينة أحد من ذويها غير صبية صغار كزغب القطا.
شعر المهاجرون والأنصار معا بحق أم سلمة عليهم ، فما كادت تنتهي من حدادها على أبي سلمة حتى تقدم منها أبو بكر الصديق رضي الله عنه يخطبها لنفسه فأبت أن تستجيب لطلبه ، ثم ثقدم منها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فردته كما ردت صاحبه .
ثم تقدم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له : يا رسول الله ، إن في خلالا ثلاثا : فأنا امرأة شديدة الغيرة ، فأخاف أن ترى مني شيئا يغضبك فيعذبني الله به , وأنا امرأة قد دخلت في السن (أي جاوزت سن الزواج) ، وانا امرأة ذات عيال ..
فقال عليه الصلاة والسلام : أما ما ذكرت من غيرتك فإني أدعو الله عز وجل ان يذهبها عنك ، واما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك .. وأما ما ذكرت من العيال ، فإنما عيالك عيالي !!
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم من أم سلمة فاستجاب الله دعاءها ، وأخلفها خيرا من أبي سلمة .. ومنذ ذلك اليوم لم تبق هند المخزومية أما لسلمة وحده ، وإنما غدت أما لجميع المؤمنين .. نضر الله وجه أم سلمة في الجنة ورضي عنها وأرضاها.
الشخصية الثـلاثون
خبيب بن عديّ
بطل.. فوق الصليب
رضي الله عنه وأرضاه
اسمه خبيب بن عديّ.
انه من أوس المدينة وأنصارها.
تردد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مذ هاجر اليهم، وآمن بالله رب العالمين.
كان عذب الروح، شفاف النفس، وثيق الايمان، ريّان الضمير.
كان كما وصفه حسّان بن ثابت:
صقرا توسّط في الأنصار منصبه
سمح الشجيّة محضا غير مؤتشب
ولما رفعت غزوة بدر أعلامها، كان هناك جنديا باسلا، ومقاتلا مقداما.
وكان من بين المشركين الذين وقعوا في طريقه ابّان المعركة فصرعهم بسيفه الحارث بن عمرو بن نوفل.
وبعد انتهاء المعركة، وعودة البقايا المهزومة من قريش الى مكة عرف بنو الحارث مصرع أبيهم، وحفظوا جيدا اسم المسلم الذي صرعه في المعركة: خبيب بن عديّ..!!
**
وعاد المسلمون من بدر الى المدينة، يثابرون على بناء مجتمعهم الجديد..
وكان خبيب عابدا، وناسكا، يحمل بين جبينه طبيعة الناسكين، وشوق العابدين..
هناك أقبل على العبادة بروح عاشق.. يقوم الليل، ويصوم الناهر، ويقدّس لله رب العالمين..
**
وذات يوم أراد الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن يبلو سرائر قريش، ويتبيّن ما ترامى اليه من تحرّكاتها، واستعدادها لغزو جديد.. فاهتار من أصحابه عشرة رجال.. من بينهم خبيب وجعل أميرهم عاصم بن ثابت.
وانطلق الركب الى غايته حتى اذا بلغوا مكانا بين عسفان ومكة، نمي خبرهم الى حيّ من هذيل يقال لهم بنو حيّان فسارعوا اليهم بمائة رجل من أمهر رماتهم، وراحوا يتعقبونهم، ويقتفون آثارهم..
وكادوا يزيغون عنهم، لولا أن أبصر أحدهم بعض نوى التمر ساقطا على الرمال.. فتناول بعض هذا النوى وتأمله بما كان للعرب من فراسة عجيبة، ثم صاح في الذين معه:
" انه نوى يثرب، فلنتبعه حتى يدلنا عليهم"..
وساروا مع النوى المبثوث على الأرض، حتى أبصروا على البعد ضالتهم التي ينشدون..
وأحس عاصم أمير العشرة أنهم يطاردون، فدعا أصحابه الى صعود قمة عالية على رأس جبل..
واقترب الرماة المائة، وأحاطوا بهم عند سفح الجبلو وأحكموا حولهم الحصار..
ودعوهم لتسليم أنفسهم بعد أن أعطوهم موثقا ألا ينالهم منهم سوء.
والتفت العشرة الى أميرهم عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين.
وانتظروا بما يأمر..
فاذا هو يقول:" أما أنا، فوالله لا أنزل في ذمّة مشرك..
اللهم أخبر عنا نبيك"..
وشرع الرماة المائة يرمونهم بالنبال.. فأصيب أميرهم عاصم واستشهد، وأصيب معه سبعة واستشهدوا..
ونادوا الباقين، أنّ لهم العهد والميثاق اذا هم نزلوا.
فنزل الثلاثة: خباب بن عديّ وصاحباه..
واقترب الرماة من خبيب وصاحبه زيد بن الدّثنّة فأطلقوا قسيّهم، وبرطوهما بها..
ورأى زميلهم الثالث بداية الغدر، فقرر أن يموت حيث مات عاصم واخوانه..
واستشهد حيث أراد..
وهكذا قضى ثمانية من أعظم المؤمنين ايمانا، وأبرّهم عهدا، وأوفاهم لله ولرسوله ذمّة..!!
وحاول خبيب وزيد أن يخلصا من وثاقهما، ولكنه كان شديد الاحكام.
وقادهما الرماة البغاة الى مكة، حيث باعوهما لمشركيها..
ودوّى في الآذان اسم خبيب..
وتذكّر بنوالحارث بن عامر قتيل بدر، تذكّروا ذلك الاسم جيّدا، وحرّك في صدورهم الأحقاد.
وسارعوا الى شرائه. ونافسهم على ذلك بغية الانتقام منه أكثر أهل مكة ممن فقدوا في معركة بدر آباءهم وزعماءهم.
وأخيرا تواصوا عليه جميعا وأخذوا يعدّون لمصير يشفي أحقادهم، ليس منه وحده، بل ومن جميع المسلمين..!!
وضع قوم أخرون أيديهم على صاحب خبيب زيد بن الدّثنّة وراحوا يصلونه هو الآخر عذابا..
**
أسلم خبيب قلبه، وأمره،ومصيره لله رب العالمين.
وأقبل على نسكه ثابت النفس، رابط الجأش، معه من سكينة الله التي افاءها عليه ما يذيب الصخر، ويلاشي الهول.
كان الله معه.. وكان هو مع الله..
كانت يد الله عليه، يكاد يجد برد أناملها في صدره..!
دخلت عليه يوما احدى بنات الحارث الذي كان أسيرا في داره، فغادرت مكانه مسرعة الى الناس تناديهم لكييبصروا عجبا..
" والله لقد رأيته يحمل قطفا كبيرا من عنب يأكل منه..
وانه لموثق في الحديد.. وما بمكة كلها ثمرة عنب واحدة..
ما أظنه الا رزقا رزقه الله خبيبا"..!!
أجل آتاه الله عبده الصالح، كما آتى من قبل مريم بنت عمران، يوم كانت:
( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا..
قال يا مريم أنّى لك هذا
قالت هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب)..
**
وحمل المشركون الى خبيب نبأ مصرع زميله وأخيه زيد رضي الله عنه.
ظانين أنهم بهذا يسحقون أعصابه، ويذيقونه ضعف الممات وما كانوا يعلمون أن الله الرحيم قد استضافه، وأنزل عليه سكينته ورحمته.
وراحوا يساومونه على ايمانه، ويلوحون له بالنجاة اذا ما هو كفر لمحمد، ومن قبل بربه الذي آمن به.. لكنهم كانوا كمن يحاول اقتناص الشمس برمية نبل..!!
أجل، كان ايمان خبيب كالشمس قوة، وبعدا، ونارا ونورا..
كان يضيء كل من التمس منه الضوء، ويدفئ كل من التمس منه الدفء، أما الذي يقترب منه ويتحدّاه فانه يحرقه ويسحقه..
واذا يئسوا مما يرجون، قادوا البطل الى مصيره، وخرجوا به الى مكان يسمى التنعيم حيث يكون هناك مصرعه..
وما ان بلغوه حتى استأذنهم خبيب في أن يصلي ركعتين، وأذنوا له ظانين أنه قد يجري مع نفسه حديثا ينتهي باستسلامه واعلان الكفران بالله وبرسوله وبدينه..
وصلى خبيب ركعتين في خشوع وسلام واخبات...
وتدفقت في روحه حلاوة الايمان، فودّ لو يظل يصلي، ويصلي ويصلي..
ولكنه التفت صوب قاتليه وقال لهم:
" والله لاتحسبوا أن بي جزعا من الموت، لازددت صلاة"..!!
ثم شهر ذراعه نحو السماء وقال:
" اللهم احصهم عددا.. واقتلهم بددا"..
ثم تصفح وجوههم في عزم وراح ينشد:
ولست أبالي حين أقتل مسلما*** على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الاله وان يشأ*** يبارك على أوصال شلو ممزّع
ولعله لأول مرة في تاريخ العرب يصلبون رجلا ثم يقتلونه فوق الصليب..
ولقد أعدّوا من جذوع النخل صليبا كبيرا أثبتوافوقه خبيبا.. وشدّوا فوق أطرافه وثاقه.. واحتشد المشركون في شماتة ظاهرة.. ووقف الرماة يشحذون رماحهم.
وجرت هذه الوحشية كلها في بطء مقصود امام البطل المصلوب..!!
لم يغمض عينيه، ولم تزايل السكينة العجيبة المضيئة وجهه.
وبدأت الرماح تنوشه، والسيوف تنهش لحمه.
وهنا اقترب منه أحد زعماء قريش وقال له:
" أتحب أن محمدا مكانك، وأنت سليم معافى في أهلك"..؟؟
وهنا لا غير انتفض خبيب كالاعصار وصاح، في قاتليه:
" والله ما أحبّ أني في اهلي وولدي، معي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة"..
نفس الكلمات العظيمة التي قالها صاحبه زيد وهم يهمّون بقتله..! نفس الكلمات الباهرة الصادعة التي قالها زيد بالأمس.. ويقولها خبيب اليوم.. مما جعل أبا سفيان، وكان لم يسلم بعد، يضرب كفا بكف ويقول مشدوها:" والله ما رأيت أحدا يحب أحدا كما يحب أصحاب محمد محمدا"..!!
**
كانت كلمات خبيب هذه ايذانا للرماح وللسيوف بأن تبلغ من جسد البطل غايتها، فتناوشه في جنون ووحشية..
وقريبا من المشهد كانت تحومطيور وصقور. كأنها تنتظر فراغ الجزارين وانصرافهم حتى تقترب هي فتنال من الجثمان وجبة شهيّة..
ولكنها سرعان ما تنادت وتجمّعت، وتدانت مناقيرها كأنها تتهامس وتتبادل الحديث والنجوى.
وفجأة طارت تشق الفضاء، وتمضي بعيدا.. بعيدا..
لكأنها شمّت بحاستها وبغريزتها عبير رجل صالح أوّاب يفوح من الجثمان المصلوب، فخدلت أن تقترب منه أو تناله بسوء..!!
مضت جماعة الطير الى رحاب الفضاء متعففة منصفة.
وعادت جماعة المشركين الى أوكارها الحاقدة في مكة باغية عادية..
وبقي الجثمان الشهيد تحرسه فرقة من القرشيين حملة الرماح والسويف..!!
كان خبيب عندما رفعوه الى جذوع النخل التي صنعوا منها صليبا، قد يمّم وجهه شطر السماء وابتهل الى ربه العظيم قائلا:
" اللهم انا قد بلّغنا رسالة رسولك فبلّغه الغداة ما يصنع بنا"..
واستجاب الله دعاءه..
فبينما الرسول في المدينة اذ غمره احساس وثيق بأن أصحابه في محنة..
وتراءى له جثمان أحدهم معلقا..
ومن فوره دعا المقداد بن عمرو، والزبير بن العوّام..
فركبا فرسيهما، ومضيا يقطعان الأرض وثبا.
وجمعهما الله بالمكان المنشود، وأنزلا جثمان صاحبهما خبيب، حيث كانت بقعة طاهرة من الأرض في انتظاره لتضمّه تحت ثراها الرطيب.
ولا يعرف أحد حتى اليوم أين قبر خبيب.
ولعل ذلك أحرى به وأجدر، حتى يظل مكانه في ذاكرة التاريخ، وفي ضمير الحياة، بطلا.. فوق الصليب..!!!
http://www9.0zz0.com/2008/09/27/12/960449460.jpg
vBulletin® v3.8.7, Copyright ©2000-2025,