مشاهدة النسخة كاملة : فنجان شاي
حنين عمر
05-12-2009, 01:53 PM
الفنجان 2
فنجان شاي مع نجيب محفوظ
لـ حنين عمر
عن زاوية فنجان شاي / صحيفة الفجر / 10-5-2009
حينما كانت طائرتي عام 2006 تنزل على أرض مصر، كانت روح نجيب محفوظ ترتفع إلى السماء،و كان عليا أن ارتدي فستانا أسود بسرعة، و أنتزع الوردة البيضاء التي في مشبك شعري، وألتحق بوفد مودعي الهرم الرابع، لأجد نفسي جالسة بين عشرات النساء ألأرستقراطيات المتشحات بالسواد وبين قارورات ماء بلاستيكية صغيرة مبعثرة هنا وهناك.
و بعيدا عن كون قدمي – كانت نحسا عليه- فإنني أعتبر نفسي محظوظة جدا لأنني كنت ضمن برتكول مراسيم جنازته،و تمكنت من سرقة كل ذلك الزخم الروحي والشعري من لحظة نادرة في تاريخ الأدب العربي.
لقد عاش نجيب محفوظا عمرا طويلا كمنتج أساسي للمادة الروائية المصرية، و أسس تجربة مهمة امتدت على مدى سنوات طويلة جدا، و لم تقتصر انعكاساتها على اثراء الأدب المصري فقط ، إنما امتدت إلى اثراء السينما المصرية، من خلال الكثير من الأفلام التي ما تزال قادرة على جعلنا نلقي بالريموت كنترول جانبا لنغوص في احداثها و نتماهى مع شخصياتها، ولابد ان من الاشارة هنا، إلى أن علاقة نجيب محفوظ بالسينما كانت علاقة تعايش وفية ضمنت لأعماله الرواج عند النخبة والجماهير على حد سواء، و منحته الضوء والشهرة والخلود.
ولا استغرب كثيرا حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، بل إنه من المنطقي جدا أن يأخذ كاتب عرف من أين تؤكل الكتف، و أجاد فن العزف على أوتار الواقعية، كل ذلك الإهتمام العالمي، إذ لا مناص من الاعتراف بذكاء نجيب محفوظ الذي استطاع ان يخرج ببيئته الاجتماعية المصرية – بتكيتها وبحاراتها و فتوّاتها و نسائها و رجالها- و بهموم أجيالها و بأنظمتها السياسية- إلى خارج حدودها، وهذا في حد ذاته يحسب له ولا يحسب عليه، لكن ما يحسب عليه هو أن اسلوبه – رغم تنوع المواضيع- بقي واحدا لا متأثرا بأي تغييرات زمنية، و لا متأزما مع الشخصيات ، و لا مسافرا في أبعاد اخرى من اللغة و المعنى اللغوي، فقد ظلّ يكتفي ربما بالسفر عميقا في بعد فلسفي و روحي و رمزي من ناحية المعنى التركيبي للرواية كما نجد في رواية " الشحاذ" مثلا،التي تطرح قضية البحث عن الحقيقة الدينية.
إن أسلوب نجيب محفوظ – برأيي المتواضع- رغم ثراءه المدهش من الناحية الفكرية و الفلسفية، بقي يحمل طوال الوقت نفس الروح الباردة التابعة للمدرسة الواقعية والمرسلة على لسان الراوي الخارجي بنفس الوتيرة المزاجية التي لا تواكب مشاعر القاريء ولا تبعث فيه الرغبة في البكاء، ولا غصة التوّحد مع أبطال الرواية،و لا تلامس العمق السايكولوجي ولا تثري القاموس اللغوي الجمالي، و لا تحلق به في آفاق ابعد من سرد شفوي تقريري لأحداث مرئية محددة بتفاصيل لا تغوص غالبا كثيرا في جمالية المشهد، ذلك المشهد المؤثث دائما حسب التقاليد المحفوظية الثابتة،و التي نجدها انعكاسا فطريا لبيئة الكاتب إذ حينما نراجع مجموعته ( حكايات حارتنا)، تبدو السيرة امتدادا لـ( قصر الشوق) و( بين القصرين) و ( زقاق المدق) وغيرها. كما نجد لدى نجيب محفوظ شخصيات مرسومة غالبا بدقة تبالغ في واقعيتها، و ترّوج لفكر معين هو انتهاج المحفوظية ذاتها : (قتل "سي السيد " اجتماعيا) حتى وإن كان "سي السيد" قد ظلّ يعيش بين خيوط نسيج ارتباط الكاتب بالبيئة الاجتماعية التي نشأ فيها، بطربوشه الأحمر وشواربه المفتولة، و نظرته المخيفة...
ولن اطمع طبعا في احتساء فنجان شاي مع "سي السيد" في مقهى الحارة، وأكتفي بفنجان شاي مع نجيب محفوظ في مقهى الفيشاوي بخان الخليلي، اشربه على عجل و أنا اخبره بصراحة أنني أفضل مشاهدة رواياته على قراءتها، لأنها فعلا روايات سينمائية تستحق أن نتخلى من أجلها عن حلقة من المسلسل التركي – الذي لا أحبه-.
حنين
قايـد الحربي
05-12-2009, 05:03 PM
حنين عمر
ــــــــــ
* * *
أُرحبُ بكِ كثيْراً .
قُلتِ :
إن أسلوب نجيب محفوظ – برأيي المتواضع- رغم ثراءه المدهش من الناحية الفكرية و الفلسفية، بقي يحمل طوال الوقت نفس الروح الباردة التابعة للمدرسة الواقعية والمرسلة على لسان الراوي الخارجي بنفس الوتيرة المزاجية التي لا تواكب مشاعر القاريء ولا تبعث فيه الرغبة في البكاء، ولا غصة التوّحد مع أبطال الرواية،و لا تلامس العمق السايكولوجي ولا تثري القاموس اللغوي الجمالي، و لا تحلق به في آفاق ابعد من سرد شفوي تقريري لأحداث مرئية محددة بتفاصيل لا تغوص غالبا كثيرا في جمالية المشهد، ذلك المشهد المؤثث دائما حسب التقاليد المحفوظية الثابتة،و التي نجدها انعكاسا فطريا لبيئة الكاتب
لأعْترِضَ علَى جُملتكِ الاعْتراضيّة " - برأيي المتواضع - " ،
فَـ رأيٌ كَهذا لا يُمكنُ أنْ يكُونَ مُتواضِعاً ، بَل وَاضعَاً غَيرالمُمكِن - عِندَ الآخَر - فيْ مَكانِه المُمْكن وَ الصحيْح
لأنّنا كَشعوْبٍ عَاطفيّة لا نُكذّبُ الكِذبة فنُصدّقهَا فقَط ، بَل وَ نلْعَنُ مَن شَكّكَ فيْهَا ، وَ مَن طَالَهَا بِنقْدٍ اتّهمْناهُ بالْحِقد !
حنين عمر
قلتِ مَا كُنتُ أخشى قَوْله فيْ كُلّ حديْثٍ عَن النّجيب : نجيب محفوظ ،
فشُكراً لكِ بلا حدّ .
عبدالله العويمر
05-12-2009, 09:40 PM
حنين
طَرْح أكثَر مِن جمِيل
شُكْرا ً تَلِيْق
محمد مهاوش الظفيري
05-12-2009, 11:39 PM
الفنجان 2
فنجان شاي مع نجيب محفوظ
إن أسلوب نجيب محفوظ – برأيي المتواضع- رغم ثراءه المدهش من الناحية الفكرية و الفلسفية، بقي يحمل طوال الوقت نفس الروح الباردة التابعة للمدرسة الواقعية والمرسلة على لسان الراوي الخارجي بنفس الوتيرة المزاجية التي لا تواكب مشاعر القاريء ولا تبعث فيه الرغبة في البكاء، ولا غصة التوّحد مع أبطال الرواية،و لا تلامس العمق السايكولوجي ولا تثري القاموس اللغوي الجمالي، و لا تحلق به في آفاق ابعد من سرد شفوي تقريري لأحداث مرئية محددة بتفاصيل لا تغوص غالبا كثيرا في جمالية المشهد،
مرحبا حنين
لقد تداخلت معك في مكان آخر حول نجيب وعظمة هذا الأديب المرموق
لكن استوقفتني هذا النقطة , وهي ابتعاده عن القاموس اللغوي الجمالي
أذكر أنني كنت أقرأ عن سارتر والوجودية في كتاب اسمه فلسفات معاصرة وكان المؤلف يتكلم عن صعوبة وإشكالية اللغة الفرنسية وأنها كما يقول بأنها لغة جامدة , لهذا نجح الفلاسفة والأدباء الفرنساويون بتطويعها لهم , لذا برعوا في الإبداع والتفنن من خلال كسر حاجز اللغة الصلب , ونظرًا لأن الجزائر كانت مستعمرة فرنسية وكانت سياسة فرنسا الاستعمارية هي الاستيعاب الثقافي مثل ما كانت انجلترا تعتمد سياسة فرّق تسد , أقول قد يكون لهذا المنحى الذي انتهجتيه أثر من بعيد أو من قريب , وهذا ملحوظ على أحلام مستغانمي وعبد الملك مرتاض في الوقت الذي كنت فيه أعاني الأمرين من لغة مالك بن نبي - رحمه الله - الثقيلة علي كمثقف صغير حينما كنت أقرأ له في بعض كتبه
لك خالص الشكر
أحمد الحسون
05-13-2009, 12:37 AM
وأنا أراه منتج أساسي للرواية العربية وليس المصرية فقط.
تعودتُ على عمق لغتك أختي
الرواية تأرخ للماضي والحاضر
وبعد .
محفوظ ذاكرة تأبى النسيان.
اعذريني لمروري المتواضع ، ولي عودة إن سنحت الفرصة إن شاء الله تعالى.
دمت بخير وحضور مشرق دوماً.
سالم عايش
05-13-2009, 02:14 PM
حنين
رأي جميل ورؤية رائعة في قلم كتب الكثير من الإبداع وكتب عنه الكثير من الإبداع وهذه من ضمن الإبداع الذي كتب
عنه ، أختلف مع نجيب محفوظ في بعض التوجهات أو الفكر الذي يطرحه في رواياته ك أولاد حارتنا ولكنه أدبياً مبدع
ورائع .
حنين كل الشكر على روعتك .
حنين عمر
05-13-2009, 09:04 PM
مرحبا حنين
لقد تداخلت معك في مكان آخر حول نجيب وعظمة هذا الأديب المرموق
لكن استوقفتني هذا النقطة , وهي ابتعاده عن القاموس اللغوي الجمالي
أذكر أنني كنت أقرأ عن سارتر والوجودية في كتاب اسمه فلسفات معاصرة وكان المؤلف يتكلم عن صعوبة وإشكالية اللغة الفرنسية وأنها كما يقول بأنها لغة جامدة , لهذا نجح الفلاسفة والأدباء الفرنساويون بتطويعها لهم , لذا برعوا في الإبداع والتفنن من خلال كسر حاجز اللغة الصلب , ونظرًا لأن الجزائر كانت مستعمرة فرنسية وكانت سياسة فرنسا الاستعمارية هي الاستيعاب الثقافي مثل ما كانت انجلترا تعتمد سياسة فرّق تسد , أقول قد يكون لهذا المنحى الذي انتهجتيه أثر من بعيد أو من قريب , وهذا ملحوظ على أحلام مستغانمي وعبد الملك مرتاض في الوقت الذي كنت فيه أعاني الأمرين من لغة مالك بن نبي - رحمه الله - الثقيلة علي كمثقف صغير حينما كنت أقرأ له في بعض كتبه
لك خالص الشكر
أهلا استاذ محمد مرة ثانية على طاولة نجيب محفوظ
في الحقيقية، قد اوافقك الرأي في كون الفرنسية - وهي لغتي الأم على كل حال- لغة صعبة التطويع من الناحية الجمالية الشعرية، ولغة بمفاهيم أقل دقة من اللغة العربية، لكنها في نفس الوقت أفضل بكثير من ناحية التشكيل الدلالي مقارنة مع لغات اخرى كالألمانية وحتى الإنجليزية.
فاللغة الفرنسية لغة أدبية جدا، وموغلة في عمق نفسها من أجل اكتشاف مناطق بحث وتنقيب واستخراج جديدة، و قد وجدت من خلال اطلاعي على الكثير الكثير من الأعمال الأدبية الفرنسية أن الشاعر أو الأأديب الفرنسي له أسلوب قد يكون أقرب للواقعية غالبا لكن المنهج الرومنسي حاضر بقوة في مكامن النصوص.
أما عن موضوع التأثير اللغوي الفرانكفوني فيث الجزائر، فهو لم يعد عاما الآن، و قد استطاع بعض الكتاب الجزائريين - رغم ندرتهم واختلاف اتجاهاتهم وتجاربهم- أن يصنعوا أسماء لهم في المشهد العربي.
أما عن ما قلته في " فنجان شايي هذا " فهو قناعتي الصغيرة، التي كونتها عبر قراءة أعماله التي تبالغ في واقعية لم تعد على موضة جيل يريد ان يحس...أن يعيش بعواطفه، أن يتفاعل وأن يتفجر وان ينكسر وأن يحلم ...
على فكرة يا أستاذ محمد ، اتمنى فقط أن لغة مقالاتي لا تتعبك مثلما كانت تتعبك لغة العظيم مالك بن نبي :)
لك عميق تقديري
حنين عمر
05-14-2009, 09:02 PM
أستاذ أحمد
شكرا على مرور حضرتك هنا
لاشك أن نجيب محفوظ كان علامة فارقة في التاريخ الأدبي
تقبل كل تقديري
حنين عمر
05-17-2009, 01:53 PM
أستاذ سالم
أشكرك أولا على مرورك
واشاطر حضرتك الٍاي تماما في بعض الاختلافات الفكرية معه
شكراااا جزيلا
تقديري
حنين عمر
05-17-2009, 01:55 PM
إلى هنا أغادر طاولة نجيب محفوظ
لأنزل قليلا عبر سلم التاريخ و ألتقي بأديب مصري آخر
المنفلوطي
لادعوه إلى شرب فنجان شاي معي.
حنين عمر
05-17-2009, 01:55 PM
فنجان شاي مع المنفلوطي
لـ حنين عمر
زاوية فنجان شاي- الفجر : 17-5-2009
مازلت أذكر جيدا تلك الغصة التي أصابتني لأسبوع كامل، وحالة الاكتئاب التي سببها لي الأديب المصري المعروف مصطفى لطفي المنفلوطي وأنا بعد لم اكمل 12 عاما من عمري، بعدما قرأت ترجمته لرواية " الفضيلة"- أو بول وفرجيني للفرنسي بيرنار دي سان بيار- والتي كانت تتنافى تماما مع ما في رأسي الصغير من افكار يوتوبية آنذاك، و تناقض نظريتي الطفولية " الطيبون ينتصرون دائما في النهاية " . ولم أستطع التخلص من ذلك الاكتئاب إلا بمواربته بطريقة مضحكة، فقد قررت أن أعيد كتابة الرواية من جديد وأن أغير نهايتها إلى نهاية سعيدة معتقدة انني بذلك ساغير مصير ابطال الرواية و ساتخلص من شعوري بالحزن. ولعلي مازلت أحتفظ في مكان ما من أوراقي بروايتي ذات النهاية السعيدة مكتوبة بخط رديء بعض الشيء ومزينة برسومات لـ بول وفرجيني بطلي القصة، كما مازلت أحتفظ أيضا بأول ورقة نقدية كتبتها في حياتي وعمري 14 عاما،والتي جاء في مطلعها :" لم أتمن في حياتي أن التقي بأديب كما تمنيت أن التقي بالمنفلوطي لعلي أنجح في تغيير نظرته المتشائمة للحياة".
لقد استطاع مصطفى لطفي المنفلوطي - رغم نظرته السوداوية للحياة – ان يصنع لنفسه عالما خاصا في تاريخ الأدب المصري والعربي، رغم أنه لم يكن روائيا بالمفهوم العام بقدر ما كان مترجما قادرا على اقتناص محتوى المفردة الأجنبية وصبها في قالب اللغة العربية تماما كما يجب، و لعله في احيان كثيرة جعل النص المترجم أكثر جمالا من النص الأصلي، كما يظهر ذلك مثلا في النص الأصلي لرواية "ماجدولين" أو : " تحت ظلال الزيزفون" للمؤلف الفرنسي ألفونس كار. كما يظهر تمكن المنفلوطي من اضفاء لمسته الخاصة على ما يترجمه من الأدب الفرنسي جليا في ترجمته لنص " في سبيل التاج" الذي هو بالأساس مأساة شعرية للكاتب فرانسوا كوبيه.
و بعيدا عن مجال الترجمة الذي برع فيه المنفلوطي، فإن أسلوب كتاباته الخاص الجاف نسبيا و الموغل في السوداوية، ظلّ متأثرا بذلك المجال، و كأنما كتاباته الخاصة ترجمة لتفكيره بلغة أخرى، اذ انني – حسب رأيي المتواضع- أرجح أن المنفلوطي كان يفكر باللغة الفرنسية وهو يكتب بالعربية، ولهذا اكتست كتاباته تلك المسحة الشبيهة بمسحة النص المترجم، بل وحتى من ناحية البناء اللغوي والتأثيث الجمالي ضلّ هناك رابط خفي ما يجمع طرفي المعادلة.
أما عن المحتوى العام للنصوص، فأعتقد أن هناك تساؤلا كبيرا جدا يجب أن يطرح بخصوص النظرة التشائمية القاتمة والقانتة التي عاش المنفلوطي سجينا فكريا لها في كتاباته الخاصة، فبرغم كونه كان أزهريا و تلقى تعليما دينيا إلا ننا نجد أن هذا التعليم الديني لم يكن له ذا فائدة كبيرة، فالفكر الديني غالبا ما يكون مبشرا - وبشر المؤمنين - و يدعو الى التفاؤل ويلقي رداء الطمأنينة على النفس، وهذا ما لا نجده عند المنفلوطي ، اذ تتفق معظم الآراء النقدية على كونه كان غارقا في نظرته المكتئبة للعالم، ولا يرى شيئا جميلا فيه و لا يؤمن إلا بالحزن كعامل أدبي مؤثر حتى في اختياره لنصوص يشتغل على ترجمتها.
لقد ظل اذن هذا الأديب يسكن بيت الأسلوب الواقعي الحيادي في نصوصه وترجماته، و يعيش في عتمة اللا أمل طوال حياته دون أن يستطيع فانوس ايمانه أن يضيء له طريق الفرح، ولعل هذا ما جعله يغادر مبكرا في الاربعين من عمره ليخسر الأدب العربي أحد اهم المترجمين في تاريخه ، و لأخسر أنا رهان تغيير نظرته للعالم !
مع ذلك لن أيأس و سأحاول أن أشرب فنجان شاي معه تحت ظلال الزيزفون لأقنعه ليس فقط بأن يحب زملائي الأطباء قليلا – فقد كان يكره الاطباء – إنما أيضا لأقنعه أنه رغم كل القبح في هذا العالم تبقى هناك مساحة للجمال في داخلنا، وأن الله أكرم مما يمكن له أن يتصوره، وبأن منتهى القوة أن تبتسم وفي عينيك ألف دمعة.
حنين
حنين عمر
06-01-2009, 12:15 AM
فنجان شاي مع نازك الملائكة
لـ حنين عمر
صحيفة الفجر 31-5-2009
بصمت تام غادرت نازك الملائكة العالم ذات منفىً ، غادرته كما تغادر العصافير أعشاش الصيف حينما يهاجم الخريف بكل بؤسه حدائق الحياة، غادرت بهدوء مبالغ فيه لا يشبهه سوى هدوء الملائكة الخاشعين، لا يشبهه سوى ذبول أخر زهرة تفاح على غصن الحلم.
ما يزعجني في كل القصة، هو أن هناك تاء تأنيث تسقط دائما سهوا أو عمدا من كل إنجاز أدبي كبير، كما سقطت ظلال اللامبالاة التامة على اسم نازك في خريطتنا العربية، مع أنها هي صاحبة الإنجاز الكبير في تجديد شكل الشعر العربي وفي منحه بعدا مختلفا فتح أمامه أفاق أوسع وغيّر كل رتابته الكلاسيكية.
ما يزعجني في كل القصة، أن نازك الملائكة لم تحظ بالتقدير الكافي، ولا بالتهليل الكبير الذي يحظى به بعض الشعراء المجددين الذين لم تتعد اختراعاتهم "جملة مختلفة" أو "نظرية كرتونية"، لم تحظ بذلك الذي نسميه "الامتنان" ...امتنان تسعة وتسعين بالمئة من الشعراء العرب الذي امتهنوا قصيدة التفعيلة.
ومع أن نازك لم تكن تحتاج إلى امتنانهم الذي تتعدى فيه غالبا نسبة النفاق تسعة وتسعين بالمئة، إلا أنه لابد من القول أننا مازلنا نعيش عصر العنصرية الأدبية، مازلنا نتفه الانجازات المؤنثة، و نضعها في خانة ذلك المسمى الذي يثير الاشمئزاز "الأدب النسوي"، متعاملين معها بالكثير من الإتكيت وسياسة الرفق بالحيوان.
ولن أدافع من جهة أخرى عن المرأة الكاتبة، لأنها متواطئة في الغالب بشكل أو بآخر، متواطئة بصمتها أكثر من اللازم، أو بصراخها أكثر من اللازم، متواطئة لأنها لا تسعى الى فك اشكاليتها الأبدية، وإلى إجبار الرجل على احترامها واحترام ثقافتها وفكرها واعتبارها كائنا مفكرا من الدرجة الأولى يمكن أن يبدع وينجز و يجادل في كل القضايا الفلسفية والدينية والأدبية والإجتماعية. وليس أن يجادل فحسب...بل أن يكون ذا فائدة و ذا شخصية وذا أهمية.لن أدافع عنها لأنه عليها أن تدافع عن نفسها، عليها أن تفرق بين حرية الرأي وانحرافه، بين معنى الصحيح والخطأ، وبين كيانها كامرأة شرقية وبين كيان المرأة الغربية.
وبعيدا عن كل هذا، أعود لطاولة نازك الملائكة، التي تميزت كتابتها بروح خاصة تغوص في لعبة العتمة والضوء التي أتقنتها، ووظفتها في شعرها بشكل مناسب جعل منها رائدة في مجال صنع الصورة الشعرية اللا شعورية.
إن المتأمل لشعر نازك الملائكة، لا تخفى عليه تلك الروح المتمردة التي سكنتها منذ طفولتها، لكنه تمرد هاديء و مميز وبناءٌ و غارق في تحليل العالم، هذا التحليل الذي جعلها تتفرد بصناعة اللفظة / الدهشة التي تنقل القاريء من حالة إلى أخرى و تتحكم في إيقاع القصيدة تحكما تاما، كان بلا شك يؤهلها للمضي أبعد في تجربتها الشعرية. و أقصد بكلمة " أبعد" الذهاب إلى أقصى مراتب الإبداع الشعري وخلق مدرسة جديدة و مواصلة التجديد إلى آخرحدوده، لكن للأسف لا أعرف لماذا أشعر بأن هذه التجربة على تميّزها وابتكارها وانجازها كان يمكن أن تمنحنا أكثر مما منحته من الناحية الصورية والتركيبة اللغوية، كان يمكن أن تمزق كل حدود العادي و تصل إلى مناطق أخرى في تشكيل المعنى. غير أن هناك دائما غلطة في سيناريو الحياة تجعل من الأشياء هكذا...لأنها هكذا.
ولكن مع هذه " الهكذا" تبقى نازك الملائكة سيدة المساحات الأخرى و صاحبة إنجاز شعري في شكل القصيدة العربية لن يستطيع كل الشعراء تجاوزه مهما حاولوا، وحتى إن نجحوا، فستبقى أول من كسر القاعدة، ومن منحهم جواز المرور الى تحقيق انجازاتهم كلها.
وبانتظار كل ما سيحدث في الخمسين عاما القادمة، أعود لطاولتي لأشرب فنجان شاي محلى زيادة مع نازك الملائكة على ضفاف نهر دجلة، و لأخبرها أن أفضل أغنية في العالم هي أغنية ناظم الغزالي " فوق النخل"، وأن أفضل إنجاز في العالم هو إنجاز يفتح باب الحرية لعصافير الابداع القادمة من بعيد.
حنين
vBulletin® v3.8.7, Copyright ©2000-2025,