ميسون الرملاوي
02-17-2010, 08:53 PM
،
،
،
حين صافحت مخيلتي تلك الصور القديمة ، حاولت عبثا أن أتخلص منها ، حاولت أن أبعثرها عبر المدى وأرسل خلفها ضحكة لا مبالية .
حتى الابتسامة الحزينة التي خرجت رغما عني حاولت أن أعطيها مداها ، لتصبح تلك الصور وسيلة مسامرة عابثة ،
سرعان ما تذوب ليبقى " الآن " كما هو باسطاً ذراعيه على كل حياتي .
طريقة رفض لطيفة لا تفزع كوامن ذاتي الغارقة كما أتمنى في سباتها ، المعربدة كواقع الحال داخل كل كياني .
بعد قليل أُسقط في يدي ، وكمحاولة أخيرة قلت لا بأس ، فلأترك لتلك الصور البالية بعضاً من ذاكرتي ، وأمنحها مساحة من فكري تلعب وتتداعى كما ترغب ، فلن تلبث أن تلملم أشلاءها الباهتة وتمضي ، فليس في حاضري متسع لها ، يومي دائماً مليء ، وعقلي تزدحم فيه الأفكار التي تمكني من المواصلة .
قلت لنفسي لا بأس من بعض الذكريات اللحوحة ، فلن يضير أن ننظر للخلف للحظة قبل أن نمضي في طريقنا قدما ، فلا بد دائما من الاستمرار ، سنة البقاء التي لا فكاك منها ، أن نمضي ونظل نمضي دائما للأمام ، فلن ترجع عقارب الزمن مهما استغرقتنا الذكريات ، ستظل القاعدة أن يصبح الحاضر غداً جزءً من الماضي .
وانداحت الذكريات ، فتحت الباب بحذر خشية أن يقلب صريره ترتيب أحداثها ، على أطراف أصابعها ولجت ، لم تنس قبل أن تخطو بي خطوة واحدة للخلف ، أن تغلق الباب بحذر خلفها حتى لا يتنبه حاضري أني عنه غبت .
تقدمت خطوات متعثرة ، ثم وقفت قليلاً ، الخجل يشع في كل قسماتها ، والابتسامة المترددة تشق طريقها بصعوبة .
قلت لها لقد ألححت بشدة حتى سمحت لكِ أن تقتحمي حاضري ، كان يبدو أن لديك ما تودين قوله ، قوليه بسرعة فليس لديّ وقت أضيعه معك .
في الواقع كنت أريد أن أصرخ بها أن تمضي ، لكنها تقدمت خطوات أخرى ، ثم واجهتني ، جلست قبالتي تماماً ، رفعت وجهها نحوي بهدوء ، ثم سحبت نفساً قوياً ، وقالت : خيراً ماذا تريدين ؟؟
كدتُ أصيح دهشة من سؤالها ، وهممت أن أقول لها : أنتِ التي طلبتني ، وصممتُ أن ؟أوقف مهزلة بقائها بحزم شديد ، لكن شيءٌ ما في نظراتها الثابتة أوقفتني ، تلعثمتُ وأنا أنظر إليها ، ثم أُلقي بنظراتي الكليلة على الأرض الشفافة تحتها ، كانت تبدو كائناتٌ هلامية تتحرك بقلق ، تدق برفق سطح الأرض ، تدعوني أن أنتهي من كل شيء وبسرعة .
عدتُ أرفع رأسي نحوها ، كانت ابتسامة رقيقة قد شقت طريقها إليها ، لم تكن تحمل ابتسامتها ذلك الشيء الرقيق القديم فقط ، لكنها كانت تشع دفئاً ، دفئاً غريباً محسوساً ، أكاد ألمسه ، أراه ، خاصة عندما اتخذ شكل رداء من الحلم أخذ يلتف حولي ، يدثرني ، يزيل برودة حاضري من أطراف أصابعي ، ويبخر المشاغل من عقلي ، الواحدة تلو الأخرى أخذت تتسرب برفق ، كنت
ألمح تلك الكائنات التي تشكل حاضري وهي تطير ، تصعد برفق لأعلى ، تلتصق بالجدار ، عيون ترقبني ، توترني ، رفعت إليها ناظري وزفرتُ بضيق ، فأغمضت عيونها ، واتخذت لون الجدار ، أم كان لون العدم ؟؟
تململت الذكرى قليلاً ، فانتبهتُ لها .
قالت : من أين نبدأ ؟
قلت : لا معنى لسؤالكِ هذا ، وجودك كان البداية ، ولابد أنكِ تحملين ما تودين قوله ، فقولي ، قولي ، قولي ..
وكبندول الساعة الدؤوب أخذت كلمتي تسري في أرجاء الغرفة ، وكأن كلماتي حجر صغير ألقيته في بركة راكدة ، تتسع دوائرها حولي لتتخذ الكلمات المتكررة شكلاً وشكلاً وأشكال ، أعرفها كلها ، اسماً ورسماً ، حادثة وحديث ، واتخذ الماضي لبعيد شكل الحاضر ، لا ، بل إنه احتوى كل الحاضر ، صار هو الحاضر .
لا بأس ، إنني أراها الآن ، ممتلئة قليلاً كما كانت دائماً ، ابتسامتها الرائعة التي لم تكن تطلقها إلا في أندر الأوقات ، كانت مرتسمة على وجهها ، ابتسامة تضم فيها شفتيها ، فتتكسر الانحناءات من حولها ، وتلتمع عيناها البريئتان أبداً ، تحمل أملاً ، تحمل ثقة ، كلها كانت هدايا لي ، ولي أنا وحدي .
قالت وهي تشير إشارة بعيدة : أتذكرين ؟
أغمضتُ عيني لأجيب بالإيجاب : ويحي وهل يمكن أن أنساكِ أيتها الصديقة الغالية ، كل شيء أذكره ، جلساتنا الطويلة ، أحاديثنا المتشعبة ، حتى رائحة طعامك الذي كنتِ تعدينه خصيصاً لي ، لا تغادر ملكة الشم لديّ ، وأذكر .. أذكر أيضاً ، نعم بكل تأكيد أذكر قصة وفائك النادر ، وحبكِ الذي احتفظتي به في قلبكِ ثلث سنين عمركِ الغض ، وأذكر كذلك ..
وفتحتًُ عيني ، لأراها قد انسحبت الابتسامة الجميلة ، وتجهدت خطوط جبهتها ، ولم تقوى قدماها على حملها ، فجلست على الأرض ، تحمل عيناها دموع ، دموع كثيرة ، تدافعت وتدافعت ، لم أسمع صوت بكائها ، فقد كنتُ غائبة عندما بكت ، رغم أني كنتُ السبب وراء هذا البكاء ، أذكر أيتها العزيزة عندما بحتُ بسر حبك الدفين لمن لا يمكنه أن يصون هذا الكنز .
حاولتُ أن أنهض لأضمها ، وأهدهد قلبها ، وأخبرها أني قصدتُ خيراً حين آلمها ما فعلتُ ، هل كانت كلمة الألم كافية ؟ لا ، لم تكن صادقة ، لم تكن تعني شيئاً ، ففي زمن تحول فيه الحب إلى عملة نادرة ، يشترون بها الزيف ، لا يصبح للألم معنى الصراخ ، أو معنى الخيانة .
هززتُ رأسي ، فسقطت دمعتي ، ويحي يا غالية ، اغفري لي .
لكنها ظلت متشبثة بالأرض الشفافة حتى ابتلعتها ، فاختفت ، مخلفة وراءها دمعتين ، كانتا تنظران إليّ بتحفز ، فنظرتُ لتلك القابعة أمامي ، وصحتُ فيها : لا ، ليس هذا ما أردتُ ، لماذا دعوتها الآن للحضور ؟
قالت : لأعذب روحكِ قليلاً حتى تسمو ، وتسمو .
قلت : دعيني أرى شيئاً جميلاً .. قولي ، قولي ، قولي ..
وعاودت الكلمات تتسع حولي وتلتصق بالحائط ، لتشكل منظراً جديداً وشكلاً آخراً .
حلقة متسعة من الشباب ، بنات وبنين ، ثمة شيء ما يربط بينهم ، إنه آخر يوم في الاختبارات النهائية ، والضحكات تختلط بشعور غامض بالفراق المرتقب ، حتى تلك الأوراق المالية التي كتبنا على أطرافها أسماءنا ، وقطعناها ، ووزعناها بيننا ، لم تكن لتزيح شبح الفراق المرتقب ، ساعات قليلة وينتهي كل شيء .
وهذا الزميل ، بل هذا الأخ الشفوق ، وكلماته المتعثرة وهو يلتقط آخر أنفاس سيجارته ، لينفثها في الهواء تنين قلق يعتصره وهو يقول بصوت أراده حازماً ، فخرج مضحكاً : هل تنتظريني سنتين حتى أُنهي الجيش ، وأكوّن نفسي ، ثم نتزوج ؟
وضحكتُ وأنا أراني أنظر إليه بدهشة وارتباك ، ثم أصيح : لقد جننت بكل تأكيد .
نظرتُ بخجل إلى رفيقتي ، ومسامرة ليلتي ، فنظرت إليّ بتحدي من يقول : هل تكذبينني ؟
لكنها عاودت فوضعت ابتسامتها الشفوق وقالت : مازال في الجعبة الكثير .
ورأيته !!
كان يختال على فرسه الجموح ، يغوص به في قلب الريح وينظر إلى وجهي المشدوه ويسأل : هل تجربي ؟
ولمَ لا ؟
لقد ركبت حصانه ، لأول مرة أركب حصان ، وحين وكزته في خاصرته الضامرة ، ركض بي ، فأعلنت التحدي ، لكأنما أعلنت العصيان والثورة ، فتحطمت كل القلاع ، وبقي الفراغ ،
هل يمكن أن أنسى ؟
هيهات أن أنسى ..
وعاودت النظر إليها : ماذا عن أهلي هناك ؟
ها هي خالتي الصغيرة الجميلة ، حمالة الأسية ، مازالت تحمل جبال حزن لا تنتهي ، وتسير في دائرة مغلقة أيامها ، سجن كبير ارتضاه لها الجميع ، وكم أثار سخطي ، وكم حملت الليالي الباردة أصواتنا وهي تناقش حالها ، وتنتقد أوضاعها ، فيكون جوابها : قدري ، وهل أملك منه فكاك ؟
وجدتي العجوز ذات الضفيرتين القصيرتين ، اللتين تشعان بلون الفضة ، والضحكة الصافية من فم خلا إلا من سنتين متباعدتين ، تحمل في سنواتها الكثيرة العدد ، قصصاً لا حصر لها ، امتزجت امتزاجاً رائعاً بحكايات آخر الليل ، تحكيها لنا وهي تحمر رغيفاً فوق التنور الصغير ، ماذا فعل الشاطر حسن مع ست الحسن والدلال ؟ وماذا فعل الصياد مع بناته الثلاث ؟ وتدور وتدور وتدووووووور .
وأنظر إلى القابعة بتبسم : هل من مزيد ؟
وما كان منها إلا أن تنظر إليّ بقلق ، ثم تنهض ، وقد علت شفتاها مسحة غضب ، ما على هذا كان اتفاقنا .
نظرتُ إليها متسائلة ، خائفة ، ماذا تعنين ؟
قالت : أنتِ تراوغين .
هززتُ رأسي .
قالت : تلك الذكرى تفترش كل ماضيكِ ، لكنك تهربين منها ، تريدين أن تذهب ليلتي معكِ سُدى ؟
عاودتُ أهز رأسي بقوة : لا أفهم ماذا تعنين .
لكنها أمسكت بكتفيّ ، وأخذت تهزني بعنف ، لماذا تتخاذلين ؟ أفصحي عما تريدين ، وافرجي عن تلك السجينة في قاع قلبكِ وفكركِ ، سكتت قليلاً ثم قالت : أو أني سأمضي .
صرختُ : لا ، ابقي ، فالبرد بعدكِ سيقصف أصابعي ، أفكاري ، وكل كياني .
قالت : إذن تقولين ، هيا قولي ، قولي ، قولي ..
وكان عليّ أن أقول ، أن أفتح الباب الذي حاولتُ دوماً أن أغلقه ، أقول حاولت دوماً ، لكنني أكذب ، هذا واضح جداً ، فأنا لم أحاول أن أُغلق ذلك الباب ، بل أتعمد أن يظل مفتوحاً ، وأتعمد أن
أضيف إيه دوماً أشياءً وأشياء ، حتى تراكمت خلفه الأحداث ، فبات منفرجاً غير قادر على الانغلاق عليها .
وعادت تقول : قولي .
قلت وقد أُسقط في يدي : ومن أين أبدأ ؟
قالت : من ذلك اليوم البعيد ..
السيارة تشق طريقها وسط الظلام ، والسيارات تندفع حولنا مخلفة صوت عجلاتها الدائرة معلق في الهواء بعدها .
ويداه تعرف طريقها جيداً ، تتخذ مساراً متعرجاً لكنها تصل دائماً إلى يدي ، و... و.....
توقفت فجأة ، حاولت الذكرى الناعسة أن تحتلني ثانية ، فنظرتُ أستنجد بحاضري ، تلك العيون الملتصقة بالسقف ، تجاوبت معي ، فتحت ونظرت ، ثم تخلت عن مكانها وتقدمت بسرعة تحتل مكانها من رأسي ، مشاغل حاضري الكثيرة ، وغادرني دثار الدفء ، لملمته نظراتها المنكسرة ، نظرَت إليّ ، اهتزت غضباً ، ثم سارت بخطوات قوية نحو الباب الذي منه جاءت ، فتحته دون حذر ، وأغلقته خلفها بقوة .
كانت دمعتي الحائرة تغلف وجهي ، لكن إحساس ما لا يزال يلفني ، تلفتُ حولي بحثاً عن مصدر ذلك الإحساس الغامض ، إنه مزيج من دفء وإثارة ، له صوت مألوف ، ذو رنة موسيقية لا تخطأها الأذن .
لم يكن حولي ، كان قد سقط من تلك الغائبة سهواً ، واتخذ طريقه إلى قلبي فتربع فيه .
أغشيته الشفافة تبعث الدفء في أوصالي ، ودندنته الحزينة ترسل غشاء الدمع الرقيق إلى عيني ، دبيبه يسري في دمائي .
أغنية أو لحن شجي ما زال قابعاً ، متشبثاً ، لا يريد الفكاك ، مشاغل حاضري لم تخفه ، فبقي مفتوح العينين يرقب غفوتي ، ليعانق رؤيا ، ويبسط نفوذه في أحلامي .
وعندما أستيقظ ، يستيقظ معي ، إنه دائماً دائماً معي ، لا يفارقني ، لا يريد أن يفارقني .
وحين نظرتُ في مرآة وجداني عرفته ، عرفته ، عرفته .
إنه الحنين ، إنه الباقي دوماً في كياني ، والمتربع كأسطورة في أيامي ، إنه الحنين يجذب دمعتي نحو سنواتي الماضية ، ويحرك إشارتي نحو الأشياء الباقية .
إنه الحنين ، دوماً يغني على نبض بقائي وحياتي ، دوماً يخلط نفسه مع لقيماتي ، مع أنفاسي .
إنه الحنين ، الثوب الذي يرتديه كل شيء حولي ، فيشدني ويقهر دموعي ، ويغلبني ، ليصيح : إني باق ، رغم كل ما تدّعين باق .
من قال إني أريدك أن تمضي ، بل ابقى ، فأنا إنسان ما دام الحنين يرافقني ..
،
،
،
،
،
حين صافحت مخيلتي تلك الصور القديمة ، حاولت عبثا أن أتخلص منها ، حاولت أن أبعثرها عبر المدى وأرسل خلفها ضحكة لا مبالية .
حتى الابتسامة الحزينة التي خرجت رغما عني حاولت أن أعطيها مداها ، لتصبح تلك الصور وسيلة مسامرة عابثة ،
سرعان ما تذوب ليبقى " الآن " كما هو باسطاً ذراعيه على كل حياتي .
طريقة رفض لطيفة لا تفزع كوامن ذاتي الغارقة كما أتمنى في سباتها ، المعربدة كواقع الحال داخل كل كياني .
بعد قليل أُسقط في يدي ، وكمحاولة أخيرة قلت لا بأس ، فلأترك لتلك الصور البالية بعضاً من ذاكرتي ، وأمنحها مساحة من فكري تلعب وتتداعى كما ترغب ، فلن تلبث أن تلملم أشلاءها الباهتة وتمضي ، فليس في حاضري متسع لها ، يومي دائماً مليء ، وعقلي تزدحم فيه الأفكار التي تمكني من المواصلة .
قلت لنفسي لا بأس من بعض الذكريات اللحوحة ، فلن يضير أن ننظر للخلف للحظة قبل أن نمضي في طريقنا قدما ، فلا بد دائما من الاستمرار ، سنة البقاء التي لا فكاك منها ، أن نمضي ونظل نمضي دائما للأمام ، فلن ترجع عقارب الزمن مهما استغرقتنا الذكريات ، ستظل القاعدة أن يصبح الحاضر غداً جزءً من الماضي .
وانداحت الذكريات ، فتحت الباب بحذر خشية أن يقلب صريره ترتيب أحداثها ، على أطراف أصابعها ولجت ، لم تنس قبل أن تخطو بي خطوة واحدة للخلف ، أن تغلق الباب بحذر خلفها حتى لا يتنبه حاضري أني عنه غبت .
تقدمت خطوات متعثرة ، ثم وقفت قليلاً ، الخجل يشع في كل قسماتها ، والابتسامة المترددة تشق طريقها بصعوبة .
قلت لها لقد ألححت بشدة حتى سمحت لكِ أن تقتحمي حاضري ، كان يبدو أن لديك ما تودين قوله ، قوليه بسرعة فليس لديّ وقت أضيعه معك .
في الواقع كنت أريد أن أصرخ بها أن تمضي ، لكنها تقدمت خطوات أخرى ، ثم واجهتني ، جلست قبالتي تماماً ، رفعت وجهها نحوي بهدوء ، ثم سحبت نفساً قوياً ، وقالت : خيراً ماذا تريدين ؟؟
كدتُ أصيح دهشة من سؤالها ، وهممت أن أقول لها : أنتِ التي طلبتني ، وصممتُ أن ؟أوقف مهزلة بقائها بحزم شديد ، لكن شيءٌ ما في نظراتها الثابتة أوقفتني ، تلعثمتُ وأنا أنظر إليها ، ثم أُلقي بنظراتي الكليلة على الأرض الشفافة تحتها ، كانت تبدو كائناتٌ هلامية تتحرك بقلق ، تدق برفق سطح الأرض ، تدعوني أن أنتهي من كل شيء وبسرعة .
عدتُ أرفع رأسي نحوها ، كانت ابتسامة رقيقة قد شقت طريقها إليها ، لم تكن تحمل ابتسامتها ذلك الشيء الرقيق القديم فقط ، لكنها كانت تشع دفئاً ، دفئاً غريباً محسوساً ، أكاد ألمسه ، أراه ، خاصة عندما اتخذ شكل رداء من الحلم أخذ يلتف حولي ، يدثرني ، يزيل برودة حاضري من أطراف أصابعي ، ويبخر المشاغل من عقلي ، الواحدة تلو الأخرى أخذت تتسرب برفق ، كنت
ألمح تلك الكائنات التي تشكل حاضري وهي تطير ، تصعد برفق لأعلى ، تلتصق بالجدار ، عيون ترقبني ، توترني ، رفعت إليها ناظري وزفرتُ بضيق ، فأغمضت عيونها ، واتخذت لون الجدار ، أم كان لون العدم ؟؟
تململت الذكرى قليلاً ، فانتبهتُ لها .
قالت : من أين نبدأ ؟
قلت : لا معنى لسؤالكِ هذا ، وجودك كان البداية ، ولابد أنكِ تحملين ما تودين قوله ، فقولي ، قولي ، قولي ..
وكبندول الساعة الدؤوب أخذت كلمتي تسري في أرجاء الغرفة ، وكأن كلماتي حجر صغير ألقيته في بركة راكدة ، تتسع دوائرها حولي لتتخذ الكلمات المتكررة شكلاً وشكلاً وأشكال ، أعرفها كلها ، اسماً ورسماً ، حادثة وحديث ، واتخذ الماضي لبعيد شكل الحاضر ، لا ، بل إنه احتوى كل الحاضر ، صار هو الحاضر .
لا بأس ، إنني أراها الآن ، ممتلئة قليلاً كما كانت دائماً ، ابتسامتها الرائعة التي لم تكن تطلقها إلا في أندر الأوقات ، كانت مرتسمة على وجهها ، ابتسامة تضم فيها شفتيها ، فتتكسر الانحناءات من حولها ، وتلتمع عيناها البريئتان أبداً ، تحمل أملاً ، تحمل ثقة ، كلها كانت هدايا لي ، ولي أنا وحدي .
قالت وهي تشير إشارة بعيدة : أتذكرين ؟
أغمضتُ عيني لأجيب بالإيجاب : ويحي وهل يمكن أن أنساكِ أيتها الصديقة الغالية ، كل شيء أذكره ، جلساتنا الطويلة ، أحاديثنا المتشعبة ، حتى رائحة طعامك الذي كنتِ تعدينه خصيصاً لي ، لا تغادر ملكة الشم لديّ ، وأذكر .. أذكر أيضاً ، نعم بكل تأكيد أذكر قصة وفائك النادر ، وحبكِ الذي احتفظتي به في قلبكِ ثلث سنين عمركِ الغض ، وأذكر كذلك ..
وفتحتًُ عيني ، لأراها قد انسحبت الابتسامة الجميلة ، وتجهدت خطوط جبهتها ، ولم تقوى قدماها على حملها ، فجلست على الأرض ، تحمل عيناها دموع ، دموع كثيرة ، تدافعت وتدافعت ، لم أسمع صوت بكائها ، فقد كنتُ غائبة عندما بكت ، رغم أني كنتُ السبب وراء هذا البكاء ، أذكر أيتها العزيزة عندما بحتُ بسر حبك الدفين لمن لا يمكنه أن يصون هذا الكنز .
حاولتُ أن أنهض لأضمها ، وأهدهد قلبها ، وأخبرها أني قصدتُ خيراً حين آلمها ما فعلتُ ، هل كانت كلمة الألم كافية ؟ لا ، لم تكن صادقة ، لم تكن تعني شيئاً ، ففي زمن تحول فيه الحب إلى عملة نادرة ، يشترون بها الزيف ، لا يصبح للألم معنى الصراخ ، أو معنى الخيانة .
هززتُ رأسي ، فسقطت دمعتي ، ويحي يا غالية ، اغفري لي .
لكنها ظلت متشبثة بالأرض الشفافة حتى ابتلعتها ، فاختفت ، مخلفة وراءها دمعتين ، كانتا تنظران إليّ بتحفز ، فنظرتُ لتلك القابعة أمامي ، وصحتُ فيها : لا ، ليس هذا ما أردتُ ، لماذا دعوتها الآن للحضور ؟
قالت : لأعذب روحكِ قليلاً حتى تسمو ، وتسمو .
قلت : دعيني أرى شيئاً جميلاً .. قولي ، قولي ، قولي ..
وعاودت الكلمات تتسع حولي وتلتصق بالحائط ، لتشكل منظراً جديداً وشكلاً آخراً .
حلقة متسعة من الشباب ، بنات وبنين ، ثمة شيء ما يربط بينهم ، إنه آخر يوم في الاختبارات النهائية ، والضحكات تختلط بشعور غامض بالفراق المرتقب ، حتى تلك الأوراق المالية التي كتبنا على أطرافها أسماءنا ، وقطعناها ، ووزعناها بيننا ، لم تكن لتزيح شبح الفراق المرتقب ، ساعات قليلة وينتهي كل شيء .
وهذا الزميل ، بل هذا الأخ الشفوق ، وكلماته المتعثرة وهو يلتقط آخر أنفاس سيجارته ، لينفثها في الهواء تنين قلق يعتصره وهو يقول بصوت أراده حازماً ، فخرج مضحكاً : هل تنتظريني سنتين حتى أُنهي الجيش ، وأكوّن نفسي ، ثم نتزوج ؟
وضحكتُ وأنا أراني أنظر إليه بدهشة وارتباك ، ثم أصيح : لقد جننت بكل تأكيد .
نظرتُ بخجل إلى رفيقتي ، ومسامرة ليلتي ، فنظرت إليّ بتحدي من يقول : هل تكذبينني ؟
لكنها عاودت فوضعت ابتسامتها الشفوق وقالت : مازال في الجعبة الكثير .
ورأيته !!
كان يختال على فرسه الجموح ، يغوص به في قلب الريح وينظر إلى وجهي المشدوه ويسأل : هل تجربي ؟
ولمَ لا ؟
لقد ركبت حصانه ، لأول مرة أركب حصان ، وحين وكزته في خاصرته الضامرة ، ركض بي ، فأعلنت التحدي ، لكأنما أعلنت العصيان والثورة ، فتحطمت كل القلاع ، وبقي الفراغ ،
هل يمكن أن أنسى ؟
هيهات أن أنسى ..
وعاودت النظر إليها : ماذا عن أهلي هناك ؟
ها هي خالتي الصغيرة الجميلة ، حمالة الأسية ، مازالت تحمل جبال حزن لا تنتهي ، وتسير في دائرة مغلقة أيامها ، سجن كبير ارتضاه لها الجميع ، وكم أثار سخطي ، وكم حملت الليالي الباردة أصواتنا وهي تناقش حالها ، وتنتقد أوضاعها ، فيكون جوابها : قدري ، وهل أملك منه فكاك ؟
وجدتي العجوز ذات الضفيرتين القصيرتين ، اللتين تشعان بلون الفضة ، والضحكة الصافية من فم خلا إلا من سنتين متباعدتين ، تحمل في سنواتها الكثيرة العدد ، قصصاً لا حصر لها ، امتزجت امتزاجاً رائعاً بحكايات آخر الليل ، تحكيها لنا وهي تحمر رغيفاً فوق التنور الصغير ، ماذا فعل الشاطر حسن مع ست الحسن والدلال ؟ وماذا فعل الصياد مع بناته الثلاث ؟ وتدور وتدور وتدووووووور .
وأنظر إلى القابعة بتبسم : هل من مزيد ؟
وما كان منها إلا أن تنظر إليّ بقلق ، ثم تنهض ، وقد علت شفتاها مسحة غضب ، ما على هذا كان اتفاقنا .
نظرتُ إليها متسائلة ، خائفة ، ماذا تعنين ؟
قالت : أنتِ تراوغين .
هززتُ رأسي .
قالت : تلك الذكرى تفترش كل ماضيكِ ، لكنك تهربين منها ، تريدين أن تذهب ليلتي معكِ سُدى ؟
عاودتُ أهز رأسي بقوة : لا أفهم ماذا تعنين .
لكنها أمسكت بكتفيّ ، وأخذت تهزني بعنف ، لماذا تتخاذلين ؟ أفصحي عما تريدين ، وافرجي عن تلك السجينة في قاع قلبكِ وفكركِ ، سكتت قليلاً ثم قالت : أو أني سأمضي .
صرختُ : لا ، ابقي ، فالبرد بعدكِ سيقصف أصابعي ، أفكاري ، وكل كياني .
قالت : إذن تقولين ، هيا قولي ، قولي ، قولي ..
وكان عليّ أن أقول ، أن أفتح الباب الذي حاولتُ دوماً أن أغلقه ، أقول حاولت دوماً ، لكنني أكذب ، هذا واضح جداً ، فأنا لم أحاول أن أُغلق ذلك الباب ، بل أتعمد أن يظل مفتوحاً ، وأتعمد أن
أضيف إيه دوماً أشياءً وأشياء ، حتى تراكمت خلفه الأحداث ، فبات منفرجاً غير قادر على الانغلاق عليها .
وعادت تقول : قولي .
قلت وقد أُسقط في يدي : ومن أين أبدأ ؟
قالت : من ذلك اليوم البعيد ..
السيارة تشق طريقها وسط الظلام ، والسيارات تندفع حولنا مخلفة صوت عجلاتها الدائرة معلق في الهواء بعدها .
ويداه تعرف طريقها جيداً ، تتخذ مساراً متعرجاً لكنها تصل دائماً إلى يدي ، و... و.....
توقفت فجأة ، حاولت الذكرى الناعسة أن تحتلني ثانية ، فنظرتُ أستنجد بحاضري ، تلك العيون الملتصقة بالسقف ، تجاوبت معي ، فتحت ونظرت ، ثم تخلت عن مكانها وتقدمت بسرعة تحتل مكانها من رأسي ، مشاغل حاضري الكثيرة ، وغادرني دثار الدفء ، لملمته نظراتها المنكسرة ، نظرَت إليّ ، اهتزت غضباً ، ثم سارت بخطوات قوية نحو الباب الذي منه جاءت ، فتحته دون حذر ، وأغلقته خلفها بقوة .
كانت دمعتي الحائرة تغلف وجهي ، لكن إحساس ما لا يزال يلفني ، تلفتُ حولي بحثاً عن مصدر ذلك الإحساس الغامض ، إنه مزيج من دفء وإثارة ، له صوت مألوف ، ذو رنة موسيقية لا تخطأها الأذن .
لم يكن حولي ، كان قد سقط من تلك الغائبة سهواً ، واتخذ طريقه إلى قلبي فتربع فيه .
أغشيته الشفافة تبعث الدفء في أوصالي ، ودندنته الحزينة ترسل غشاء الدمع الرقيق إلى عيني ، دبيبه يسري في دمائي .
أغنية أو لحن شجي ما زال قابعاً ، متشبثاً ، لا يريد الفكاك ، مشاغل حاضري لم تخفه ، فبقي مفتوح العينين يرقب غفوتي ، ليعانق رؤيا ، ويبسط نفوذه في أحلامي .
وعندما أستيقظ ، يستيقظ معي ، إنه دائماً دائماً معي ، لا يفارقني ، لا يريد أن يفارقني .
وحين نظرتُ في مرآة وجداني عرفته ، عرفته ، عرفته .
إنه الحنين ، إنه الباقي دوماً في كياني ، والمتربع كأسطورة في أيامي ، إنه الحنين يجذب دمعتي نحو سنواتي الماضية ، ويحرك إشارتي نحو الأشياء الباقية .
إنه الحنين ، دوماً يغني على نبض بقائي وحياتي ، دوماً يخلط نفسه مع لقيماتي ، مع أنفاسي .
إنه الحنين ، الثوب الذي يرتديه كل شيء حولي ، فيشدني ويقهر دموعي ، ويغلبني ، ليصيح : إني باق ، رغم كل ما تدّعين باق .
من قال إني أريدك أن تمضي ، بل ابقى ، فأنا إنسان ما دام الحنين يرافقني ..
،
،
،