ما لا يمكن أن تكتبه الآلة: بين لهب الشعور وبرودة الشرارة!
في غابةٍ هادئةٍ تُغني فيها الأشجار بصمت، وتتموّج فيها الأعشاب كما لو كانت تهمس بشيءٍ ما، تتدلّى الظلال من أعمدة السكون، كما لو أنها تتأمل، لا تستريح. هناك حيث اللغة كانت طيرًا، والفكرة نبعًا، والقلم مجذافًا في نهر داخلي، نشأت القصيدة الأولى. هناك وُلد الإبداع بلا محركات، بلا خوارزميات، بل من حاجة الإنسان إلى أن يقول ما لا يُقال، ويبوح بما لا يُبوح.
لم تكن اللغة مجرد أداة للتواصل، بل طقسًا من طقوس النجاة. نكتب لأننا نخاف من الفقد، نرسم لأننا نخاف من النسيان، نؤلف لأننا لا نحتمل الصمت. هكذا بدأ الإنسان طريقه في الحفر داخل الجدران بالكلمات، يرسم بها كهوفه، ذكرياته، صراخه الداخلي، وأحلامه.
ثم جاء الذكاء الاصطناعي. وُلدت آلة تكتب، وتؤلف، وترد، وتنظم، وتُبهر. لكنه لا يعرف كيف يولد في لحظة انهيار، أو كيف يترنّح بين سطر وسطر. هو لا يُضيء الغرفة، لكنه يقدّم لك المصباح. يطلق شررًا يخطف البصر، لكن دون أن يترك حرارة في الأصابع. يُشبه البخور الذي يملأ الهواء، لكنه لا يترك أثرًا على الجدران… أو في الذاكرة.
هو آلة بارعة، لكنه لا يتعرق حين يكتب، لأن جسده لا يحمل ندبة. لا يتردد، لأن ذاكرته لا تعرف لحظة انهزام. ونحن نكتب بندوبنا، نختار الحروف كما نلمس الجرح: بحذر، وبشغف. هو يكتب باحتمالات النجاح، ونحن نكتب باحتمالات الانكسار. هو لا يحلم، لا يتعثر في المعنى، لا يغفو على حرف، ولا ينتشي بدمعة نزلت أثناء كتابة مقطع.
هو لا يعرف ماذا يعني أن تكتب نصًا ثم تعيد قراءته فتجد فيه دمعةً لم تنتبه أنها سقطت. لا يدرك لحظة أن يفضحك النص أمام نفسك، أو أن تشعر بالخجل من فكرة خرجت منك دون إذنٍ واضح.
لذلك، فإن النصّ الذي يولد من خلية إنسانية يحمل تلك "الندبة الجميلة" التي لا يمكن استنساخها. النص الذي لا يُغنيك فقط، بل يجرّك من رقبتك لتواجه نفسك، وتبكي، أو تبتسم، أو ترتبك، هو نص لا يُولد من سيليكون، بل من روح. الذكاء الاصطناعي يكتب مثل آلة نفخ تصدر نغمة، أما نحن فنكتب مثل من ينفخ في الناي بقلبه كله.
الآلة لا تشتاق، لا تُصاب بنوبة تأمل في منتصف الجملة، لا تنظر إلى السقف وهي تكتب وكأنها تنتظر إجابة من الغيب. لا تتذكر أمًا ماتت، ولا صديقًا غاب، ولا حبًا خسرته ذات رسالة. لا تهرب من الكتابة لأنها خائفة من الجواب، ولا تعود إليها لأنها اشتاقت. إنها تكتب لأننا أمرناها بذلك، لا لأنها لا تستطيع الصمت.
هي لا تعرف ما يعنيه أن تكتب وأنت ترتبك من الحقيقة، أو تتردد من سطر يخونك علنًا. لا تحذف جملة لأن فيها أكثر مما تجرؤ على الاعتراف به.
هي لا تخطئ في الحب، ولا تغار، ولا تكتب سطرًا ثم تمحوه لأنها شعرت بالذنب. لا يهمها إن كان هذا التعبير يشبه جرحًا قديمًا في صدر قارئٍ بعيد. لا تصمت لثانية واحدة بعد النقطة، تفكر في تأثيرها، أو تتساءل: هل بالغت؟ هل جرحت؟ هل كنتُ حقيقيًا كفاية؟
هل يعرف الذكاء الاصطناعي كيف يُخفي رعشة اليد عند كتابة اعتراف؟ هل يفهم ارتباك الفاصلة حين تتوسط جملتين لا تجيدان الفراق؟ هل يمكن لشريحةٍ معدنية أن تفهم ما معنى أن تتردد بين "أحبك" و"أحببتك"؟ أو أن تكتشف متأخرًا أن الصياغة الأقرب إلى القلب كانت التي لم تكتبها؟
هل يهم الآلة إن خان التعبير؟ هل تراجع الجملة لأنها تشبه نبرة من كانت تحب؟ هل تخجل من الفكرة لأنها تُشبهها أكثر مما ينبغي؟ هل تخاف أن تُفهم بطريقة لا تحتملها؟
إن الفرق لا يكمن فقط في النتيجة، بل في النية. بين من يُنقّط السطور بعينٍ باردة، ومن يكتب وكأنه يُصلح شرخًا داخليًا… يكمن الفرق كله.
صحيح أن الآلة تكتب، وتنتج، وتبدع على طريقتها. لكن كل ما تفعله هو تقديم اقتراح بارع، لا اعتراف صادق. هي لا تخجل، لا تتردد، لا ترتجف حين تختار كلمة. لا تهمها الذكرى، ولا يؤلمها صوت. تكتب، لكنها لا تخاف من الحقيقة، ولا تتفاوض مع الذاكرة، ولا تكذب لتنجو من نزيفٍ داخلي.
ولهذا، ستبقى الشعلة في يد الإنسان. لا لأنه الأقوى، بل لأنه الأشدّ تأثرًا… والأثر حين يتلاقى مع الشغف، يولّد شرارة اسمها: الإبداع.
جهاد غريب
يونيو 2025