ربّما كانت أغنية أو طفلةً تائهة أو رسالة , كتبتها على أجنحةِ غيمةٍ , حملت في فمها غصنَ زيتونٍ و ورقةً صغيرةَ , و أمنية :
 
 
إليك ..
 
أيّها الواقفُ هناك , بعيداً حيثُ كنتُ يوماً أركضُ باتّجاهِ الأملِ الضّائعِ المجهول , 
 
أيّها المارُّ بأنثى عابرةٍِ في صمتِ الجليد, في احتضاراتِ اللقاءاتِ الأولى و في سَكناتِ الجسدِ الواقفِ على شفا موتٍ محتّم .
 
أيّها الواقفُ بين حنجرتي و رئتي , ترقبُ صوتيَ المشدودَ بك , و تلامسُ شُعبي الهوائيةِ , كطفلةٍ حزينةٍ ضلّت طريقَها في يومٍ ماطرٍ , و استكانت إليك .
 
أيّها المتشكّل على هيئةِ أحلامي جميعاً , المُشرقُ على وجهي كصراخِ الفجر , كقطراتِ الخجلِ على جبينِ الأزمنةِ العذراء , كشراعِ النّورِ في رحيلِ الأصيل ..
 
هاكَ أنا , كشبحِ ورقةِ قصيدةٍ هاربة , كتبتَها للرّحيل و منحتَها أغصانَ الزّيتون و أفواهَ العشب .
 
التقطني هناكَ من فوقِ رمالِ ذاكَ السّجنِ الممتلئِ بأنفاسِ الخطيئةِ الأولى , يومَ كانَ الرّحيلُ آخر بوّاباتِ العبورِ إلى الوطن , ثمّ امنحني لخلايا الوقت , لارتعاشاتِ اللغة , لأرقِ الليالي الوحيدة , هبَني ضلعاً من صدرِ دميةٍ مكسورة , أو خيطاً من ستارة نافذةٍ قديمة , و اترك عنكَ ندمَ الطّفولةِ و تعبَ الحرفِ الأوّل و استغفارَ الأمطارِ الرّاحلة , و حزنكَ على رعشةِ القلمِ إذ يمارسُ عثراتهِ بينَ يدي .
 
دعني أمسكُ بأكمامِ معطفكَ و أتشبّثُ بأزرارِ صوتكَ , و ألثمُ ثغرَكَ ببراءةِ القُبلةِ الأولى و أجرّبُ أن ألامسَ جبهتكَ بأطرافِ وجهي , ثمّ ضعني هناكَ في جيبك , كقصاصةِ نصٍّ مقهورٍ ارتكبهُ قلمكَ ذاتَ وجع , أو اتركني على مكتبكَ كصورةٍ قديمةٍ أو كدفترٍ لا زالَ يلهجُ بأنفاسِ رغبتكَ الأولى , خبأني تحتَ قميصك , أو بالقربِ من وسادتك , لتمرّ الأزمنةُ على قلبي و نبضكَ يرقيني من تداعياتِ الألم .
 
 
لا تنسَ ان تقصّ على مقعدنا في الحديقةِ البعيدة , حكايةَ فرحنا القديم , و رغباتنا المبتورة , و غيابكَ عنّي مُذ تركتُ طفولتي على أرجوحتي , و تقمّصَّني بكاءُ الرّمالِ المتحرّكةِ تحتَ أقدامِ حلمي الأول .
 
لا تسأل نفسكَ أين كانت بدايتنا , نحنُ بدأنا على حافّةِ جبلٍ شاهقٍ و بدأنا نتسابقُ باكتشافِ مغاراتهِ السّرية و أنفاقه المجهولة , و كنتَ انت , ذاكَ الممسكُ بحبلِ الغياب , تشدّهُ إليكَ كلّما حانت فرصةُ لقائنا , و تقصُّ من أطرافهِ كلّ مرّةٍ فراقاً حتميّاً .
 
و إذا أتيتَ تسألني عن النّهاية , فسأردُّ عليكَ بصمتيَ الّذي تكرهه , بإشارةٍ مبلّلةٍ تشي لكَ بأنّ الغيمَ نالَ ذاتَ العقابِ الّذي نالتهُ الدّهشة , حينَ ارتطمّت بعمودِ الوفاءِ المكسور .
 
ربّما تدركُ أنّك منحتني الاغتراب و الوطن , ثمّ عالجتني ببعضِ أحلامٍِ لاجئة , و ملاجئَ حالمة بقطعةِ خبز !
 
أو ربّما تعلمُ أنّني حينَ انتهي من كتابةِ هذهِ الرّسالة , قد أكونُ اكتملتُ كحبلٍ وثيقٍ من الأرقِ و الجروحِ و الطعناتِ الباردة , و أنّني سأمضي إلى أمّي أدفنُ رأسي في صدرها و أقولُ بجهلِ الطّفولةِ الأوّل , سامحيني لأنّي قتلتُني .
 
ثمّ ألتفتُ إلى النّوارس الّتي تغطّي سماءَ قلبكَ و أتساءل :
 
ماذا يحدثُ لو اقتحمتُ الأميالَ الصّامتةَ بيننا و ارتكبتُ عن قصدٍ اثمَ استبدالِ الوطنِ برجلٍ , و اللجوءَ إلى صدرهِ كمنفى , ثمّ الرّحيلَ إلى عينيهِ , حتّى لو كانت ستودعُ آخرَ أمنياتي مثواها الأخير ؟
 
ماذا سيحدثُ لو أنّي تركتُ أنفاسي معلّقةً على أغصانِ صدفة , و استبدلتُ مسكّناتِ الألمِ الهشّة , برقصةٍ أخيرةٍ ستفهمها وحدك , و ستبتسمُ و أنتَ تراني سعيدةً و تبتلعَ غصّة فراقيَ الأخير ؟
 
لماذا أردّدُ الأخيرَ كلّما تذّكرتُ لقاءَنا الأوّل ؟
 
لماذا أقنعُ نفسي بأنّ شجاعةَ الرّحيلِ يجبُ أن تعادل شجاعةَ الحضورِ الأوّل ؟
 
و لماذا أقفُ على بوّابةِ المنفى و أمنحني عذاباً لا يُحتمل , لمجرّدّ أن أتابعَ كتابةَ أبجدّيّتي البدائيّة المكلومةَ بالفقد ؟
 
لا عليك ... الشّمسُ تقارعُ هضبةً ما , لتخرجَ من أعماقِ البحر .
و في منتصفِ النّهار تنتصبُ بشعاعٍ قاتلٍ لتُحرقَ كلّ قطراتِ الماء , الّتي قرّرت اعتزال سجون الغيم و الموتَ بسلام . 
و في المساء تعودُ بذاتِ الحنينِ الأوّل لتعانقَ الأرضَ و تبكي و تمنحني وجعَ الليالي المقفرة .
 
 
كنتُ دائماً ذاكَ الشيء الّذي يبقى و ترحل عنهُ الأشياءُ الأخرى , وحدي كنتُ هناك , أداوي جرحَ الطّرقِ المتآكلة و أقيمُ شعائرَ ولادةِ أوردةٍ جديدة , تقتفي أثرَ العابرين .
 
سأحبّكَ رغم ذلك .. رغمَ أنّ الحبّ لم يعد ممكنا 
 
رغمَ أن الأمنياتِ اختفت من أحلامِ الفقراء , و أنّ الأصدقاءَ تداولوا آخرَ عملاتِ الخيانة , و باركوا أنفسهم بها ..
 
سأحبّكَ , رغمَ أنّ اللغةَ كفرت بأيديهم و بأقلامهم , و بكلّ أبجديّةٍ استمرأت المغفرة .
 
سأحبكَ , رغمَ رئتي الصّدئة , و صوتيَ المخنوق , و أرقيَ المتنامي في عيني ..
 
سأحبّكَ و أنا معك , و لستُ معك , و أنتَ معي , و لستَ معك ..
 
 
و ....
 
/
 
 
آخرُ شيءٍ كنتُ أردّدهُ قبلَ الهذيانِ بصوتٍ و شهقتين ...
 
كنتُ يوماً , جريدتَك و معطفكَ و فنجان قهوتك .. و ذاكرتك !