العَطَشُ يأخُذُهُ إلى مكانِهِ القَصِيِّ, داخل حجرةٍ اعتاد اختيارها لخلوته ليلاً مع نفسه, وقد غفا أطفالُهُ, وأجَّلَتْ زوجتُهُ طلباتِها لِنَزَقٍ آخَر, فغَطَّتْ في تَعَبٍ عميق, أحَسَّ بهواءٍ بارِدٍ يتسلَّلُ داخل الحجرة ما لبث أن جعل ستارة النافذة تعلو وتهبطُ معلنةً عن ريحٍ ينتقلُ صَخَبُها من الخارج إلى الداخل.. قال يُسِرُّ كلماتِهِ إلى أشيائِهِ المصغيةِ إليه ـ هاتِفُهُ الجَوَّال, وروايةٌ مُلْقاةٌ أمامه انثناءُةٌ في غلافِها وصفحاتِها تَدُلُّ على أنَّها تَعِبَتْ من التصفّح, وكوبٌ من الشاي خَمَدَتْ أنفاسُهُ رغم برودة الجو ـ : "كأنها ستمطر".. قالها, وهو يتحرّك داخل لحافِهِ الذي اسْتَلَّهُ من سريره, يبحث عن دفء, ويقترف القراءَةَ, بعيدًا عن ضجرِها من بعض عاداتِه السيئَةِ, كما تقول.. استوقفه ليعود للوراءِ لَغَطُ الرِّيح, واستغاثةُ الستارة, وسياطُ البرق فوق جسد الحجرة, وبدء انفلات قطراتٍ من السُّحِبِ التي قهرت الشمس منذ الصباح, فرفع نظره المنهك, إلى ناحيةٍ من سماءِ الحجرةِ المُجَبَّسَةِ بأضوائها الخافتة الخائفة, فإذا به يرى سقف بيت طفولته, وقطراتٍ تتساقط لامعةً بصُّفْرَةٍ استلَّتْها من ضوءِ سراجٍ مُعَلَّقٍ بجدارٍ طيني, في مسمارٍ صَدِئٍ معقوف كهيئته في لحافِه.. القطراتُ تتخلَّلً جذوعَ نَخْلٍ لم تمنع رغبة سماءٍ في ملامسة بقعةٍ من الأرض أصبحت مكانه القَصِيِّ, وصَخَبُ رجال الحارة يملأ أذنيه بأصواتهم الخشنة, فيراهم وقد وضعوا أكياس الرز الفارغة فوق رؤوسهم بطريقةٍ يتَّقونَ بها المطر, وهم يشقُّونَ مجاريه في الطرقات.. يرى نفسه واقفًا على عتبة بيتهم كما أطفال الحارة وهم يرقبون من عتبات بيوتهم برغبة المشاركة, آباءَهم, لكنها تترك عتبة بيتهم لتلتصق به, وتضع ذراعها على كتفه, يرى النساء يصلحن للماء طريقه بالفؤوس من دهاليز بيوتهن المتربة العطشى, يسمع والدتها تناديها للمشاركة, فيترك لزوجته بملابس نومها التي لا تمنع بلل المطر, وقد أنساها الخوفُ من الرَّعْدِ الاقترابَ من عاداتهِ السيئة, أنْ تَنْدَسَّ في لحافِه.. ألْقَى نَظْرَةً باسِمَةً إلى أشيائِهِ المُصْغِيَةِ إليه, فأسَرَّها: "كأنَّها سَتُمْطِر".