أخذتُ نفسا عميقا، محاولة أن أستعد لما سيقوله يوسف. !
كان قلبي يدق بسرعة، وكأنني في مواجهة مع مصير غير متوقع. ساد الصمت للحظة، ثم جاء صوته هادئا لكن محملا بثقل الأيام:
"ندى، أنا لم أختفِ من الجامعة فقط، بل اختفيت من حياتي كلها. كنتُ هاربا... ليس فقط من الواقع، بل من شيء أخفته عني عائلتي طيلة حياتي.
اكتشفت أن الرجل الذي كنتُ أظنه والدي لم يكن والدي الحقيقي. أمي أخفت عني هذا السر حتى كبرت، وعندما عرفتُ الحقيقة، شعرت بأنني فقدت جزءا من نفسي."
ابتلعتُ ريقي بصعوبة. لم أكن أتوقع هذا. كنت أظن أن يوسف سيتحدث عن مغامراته، عن أسفاره، عن الكتب التي قرأها، لكن ها هو يكشف لي عن سر قلب كيانه رأسا على عقب.
"لم أستطع تحمل ذلك، ندى. كنت بحاجة إلى الهروب، إلى البحث عن شيء يثبت لي من أنا. سافرت إلى أماكن لا يعرفني فيها أحد، عشت بأسماء مختلفة، اختبرت الحياة بكل جنونها، لكني لم أجد الجواب. !
كنت كلما اقتربت من الحقيقة، شعرتُ أنني أبتعد أكثر."
تنهد، وكأنه يستجمع شجاعته ليكمل:
"ندى، أنا لم أعد نفس الشخص الذي كنتِ تعرفينه. تغيرتُ كثيرًا. لكن هناك شيء لم يتغير... وهو إحساسي تجاهك. كنتِ دائمًا الصوت الذي يرافقني في وحدتي، وكنتُ أتمنى لو أنني شاركتك كل ما مررت به."
شعرتُ بصدري يضيق. هذه المكالمة تأخذ منحى لم أكن مستعدة له.
نظرتُ حولي، وجدتُني لا زلت واقفة وسط ساحة الفنا، لكنني شعرتُ وكأنني في عالم آخر. كيف يمكن لمكالمة واحدة أن تعيد إليّ كل هذه الذكريات والمشاعر المدفونة؟
لكن قبل أن أستطيع قول شيء، جاء صوت يوسف مجددا، هذه المرة كان صوته مختلفًا، وكأنه يواجه الحقيقة التي هرب منها طويلًا:
"ندى، أنا عدتُ الآن. وأريد أن أعرف... هل لا يزال لي مكان في حياتك؟"
تجمدتُ في مكاني. السؤال كان بسيطًا، لكنه يحمل ثقلا رهيبا. كنتُ أعلم أن الإجابة عليه تعني فتح أبواب الماضي، تعني مواجهة كل شيء دفنته لسنوات.
مرّت ثوانٍ من الصمت، شعرت فيها أنني أواجه نفسي أكثر من مواجهتي ليوسف. وأخيرا، ابتسمت، رغم أن قلبي كان مضطربا، وقلتُ بهدوء:
"يوسف، أنا أيضا تغيّرت. ربما لسنا الشخصين اللذين كنا عليهما في الجامعة، وربما بعض الأبواب التي تُغلق لا يجب أن تُفتح مجددًا. لكنني سعيدة لأنك وجدتَ طريقك... حتى وإن لم يكن طريقنا واحدًا بعد الآن."
ساد الصمت، ثم جاءني صوته هذه المرة بنبرة مختلفة، مزيج من الخيبة والراحة:
"كنتُ أعلم أن إجابتك ستكون ناضجة كما عهدتكِ دائمًا. شكرًا، ندى، لأنك كنت جزءا من رحلتي، حتى ولو انتهت محطتنا هنا."
أغلقتُ الهاتف وأنا أشعر بغرابة. !
كأنني ودعت جزءا من نفسي، لكنني لم أشعر بالحزن. على العكس، شعرتُ بأنني متحررة تماما من الماضي..
في ذلك المساء، جلستُ في شرفة رياض مغربي قديم في مراكش، وبدأتُ أكتب.
لأول مرة منذ مدة طويلة، لم تكن الكتابة مجرد محاولة للهرب، بل كانت إعلانا صادقا لبداية جديدة.
انتهى..