لا يستطيع أيّ أحد منا أن يجهل معنى هذه الكلمة .. " الأدب " .. فهي من الشيوع بمكان يجعل المراد منها واضحًا لكل متلقٍّ , سواء كان يعمل في هذا المجال أو لا يمتّ إليه بأيّ صلة . غير أن كلمة " الأدب " لم تكن معروفة بهذا المعنى المتداول فيما بيننا في العصر الجاهلي وعصر صدر الإسلام الأول . حيث اقترنت هذه الكلمة بـ " المأدبة " , المآدب " , والمأدبة هي وليمة الطعام , والمآدب جمع للمأدبة وهي الولائم التي تعدّ للضيوف ’, وأصحاب الولائم هم كرام الناس الداعين لتناول الطعام وخاصة في ليالي الشتاء وزمن القحط .
يقول الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد :
نحن في المشتاة ندعو الجَفَلى
لا ترى الآدبُ فينا ينتقرْ
وعندما جاء الإسلام , بدأ هذا المعنى يأخذ منحى آخر , وهو منحى نفسي سلوكي لا إجتماعي , إذ صار هذا المعنى ينحصر على التحلي بالأخلاق والتمسك بالطباع الحسنة والقيم النبيلة , وهو ما لخصه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ , بقوله : " أدبني ربي فأحسن تأديبي " . وعلى هذا الأساس صار المعنى يدور حول رياضة النفس وتهذيب الأخلاق والتحلي بالصفات الحميدة .
مع انتشار المد الإسلامي وبزوغ شمس الحضارة العربية الإسلامية على رقعة جغرافية شاسعة , بدا هذا المعنى يتحول من كونه رياضة نفسية أخلاقية إلى مهنة وظيفية , إذ صار يطلق على المعلمين الذين كانوا يعلمون أبناء السادة والخلفاء والوزراء , وأصبح يطلق على المعلم بـ " المؤدب " وعلى المعلمين بـ " المؤدبين " . وعرف بهذه التسمية علماء كبار وأدباء عظام كالإمام الشعبي والأديب اللغوي أبي العباس المبرّد صاحب كتاب الكامل الذي يعدّ من مصادر الأدب العربي , حتى قيل : " خُتِمَ تاريخ الأدباء بثعلب والمبرّد " وقد توفي كلا العالمين الجليلين في أواخر القرن الثالث الهجري . والمراد من " الأدباء " هنا " المؤدبون " , أيّ المعلمين . ونظرًا لتشابه عمل الاثنين ـ المعلم والمؤدب ـ فرق المسمون بين التسميتين , حيث أطلقوا على من يعلم أبناء الخواص من الخلفاء والوزراء والأمراء وعلية القوم بـ " المؤدبين " , أما من يعلم أبناء العامة أطلقوا عليهم " المعلمين " . ولأن الثقافة العربية ثقافة نخبوية , ولكون الأدب العربي أدب بلاط , لم يكتفوا بالتفريق بين التسميتين , بل وصفوا المعلمين بالحُمْق وقللوا من قبول شهادتهم في المحاكم , لترسيخ هذا الفهم النخبوي للأمور.
من خلال هذا العرض الوجيز والمختص ... يتضح لنا أن كلمة " الأدب " أو " الأدباء " لم تكن معروفة بهذا المعنى المتداول فيما بيننا هذه الأيام , إذ كانت مقرونة بالمؤدبين ـ وهم المعلمون ـ كما أوضحنا , إلى أن جاء العالم الجليل مؤسس علم العروض الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي حَرَف هذا المعني إلى معنى آخر كما يقول الثعالبي , حيث قال ناقلا عن الفراهيدي : " حرفة الأدب آفة الأدباء " , لأن المؤدبين كانوا يكتسبون بهذا العلم الذي كان في حوزتهم , فلا يعلمون إلا بأجر , وكذلك صار الشعراء .وهذا يمكن اختصاره فيما يأتي , لما خفّت النزاعات السياسية وذابت العصبيات القبلية بين العرب , وما تبع هذا الأمر من زوال لحكم بني أمية المتعصبين للعرب , وكانوا يغذون هذه العصبيات القبلية, وعندما آلت الأمور لبني العباس , قربوا الفرس الأعاجم وأبعدوا العرب عن مقاليد الأمور , صار الشعراء يتكسبون بشعرهم إذ تلاشت القضايا التي كانوا يكتبون الشعر من أجلها . عندما آل الشعراء إلى هذه الحالة المتردية انتقل هذا المفهوم كما حوره الخليل بن أحمد الفراهيدي .
ثم جاء ابن بسام الشاعر العباسي المتوفى في أوائل القرن الرابع الهجري ( 303 هـ ) الذي أخرج هذه الكلمة من معناها اللغوي وأكسبها معنى مجازيًّا غلب على حقيقتها , عندما رثى الخليفة العباسي ابن المعتز صاحب كتاب " البديع " وكتاب " طبقات الشعراء المُحْدثين " المقتول عام ( 296 هـ ) وكانت مدة خلافته يوم أو أقلّ من يوم .
قال ابن بسام :
لله درك من ميْتٍ بمضيعةٍ
ناهيك بالعلم والآداب والحسبِ
ما فيه لوٌّ ولا ليتٌ فتنقصه
لكنما أدْركتْهُ حرفة الأدبِ
وهكذا أصبحت هذه الكلمة واسعة المعنى , كثيرة الدلائل , تشمل في طياتها اللغويون والشعراء والنحويون وأصحاب علم العروض والاشتقاق والبلاغة وكل من يمتّ لعلوم اللغة العربية بصلة و كما قال ابن خلدون في مقدمته : " والأدب هو حفظ أشعار العرب والأخذ من كل علم بطرف " . غير أن هذه الكلمة ظلت من حيث الإطار العام ملازمة للشعراء دون سواهم إلى وقتنا هذا . فالروائي والقاص واللغوي أدباء , غير أن الأديب الحق هو الشاعر , وهي الكلمة الغالبة عليه سواء في مجالس العامة أو الخاصة .
في هذا السياق يجدر بنا ذكر هذين البيتين للشاعر العباسي أبي الحسين الجزار , والذي كان يعمل جزارًا قبل أن يمارس مهنة الأدب وقول الشعر , حيث ترك مهنة الجزارة وتحول لمدح السادة والزعماء في زمانه , وعندما يئس من جدوى الشعر والعمل فيه , قال هذين البيتين , وهما من بحر الخفيف , وسأضطر لعدم الفصل بينهما لأن كلا البيتين مدوّر
كيف لا أشكرُ الجزارةَ , ما عشتُ بخيرٍ , وأمْقُتُ الآدابا
وبها كانت الكلابُ ترجّيني , وبالشعر صرتُ أرجو الكلابا
لهذا يتضح لنا ان الذي انفرد بهذه الكلمة في آخر المطاف هم الشعراء , كما أوضحنا قبل قليل . ولِمَا للشعر من قابلية لدى النفوس , سيطر الشعر على عالم الأدب حيث يطلق عادة أو في الغالب على الشاعر مسمى الأديب , بينما ينفرد كل صاحب فن بفنه , كالروائي والقاص والناقد واللغوي والنحوي , وتبقى كلمة الأديب مقصورة على الشاعر
.