-نظرة عامة
في هذا الجو المشبع بالفوضى المادية ، انهارت الحواجز النفسية بين الإنسان وأخيه الإنسان , وصارت المرأة تتعامل مع الآخر المقابل لها بالآدمية الإنسانية بإيحاء من غريزة الحب والكره ، فالحب صور لها المحبوب كأجمل مخلوق رأته في حياتها , ووقعت عليه عيونها , وغريزة الكره صورت لها نفس المحبوب في بعض أو كثير من الأحيان كأبشع ما يكون ، وكأنه مارد منزوعة منه الرحمة , ولا ضمير لديه ولا خير يُرجى منه . هذا الموقف التأزمي , سواء الجانح لأقصى اليمين أو المرتمي بأقصى اليسار ، سببه أن العاطفة الإنسانية عاطفة بسيطة غير متعمقة ، ليس لها جذور تحميها من الإهتزاز ، فالرجل إنسان له شعوره وأحاسيسه , بصرف النظر عما يتبادر منه من أخطاء , قد يقع بها هو, أو غيره من الطرف الآخر .
إن إنشغال العديد من الشاعرات بمسألة الحب أو توهم الحب ، جعلها كشاعرة تتشاغل عن قضاياها الإجتماعية أو الوطنية أو القومية أو الإنسانية الأخرى ، وهذا على العموم لا التخصيص ، وأنه ليس لديها أي استعداد لتحمل أي مسؤولية ذات طابع سلبي أو إيجابي , من خلال مواقف الرفض أو القبول , للمساهمة بالنتاج الفكري بشكل أوسع . فأكثر الشاعرات يحملن عاطفة حب بسيطة , أو غير متزنة عن طريق نظرة عابرة من رجل ، وهذا موجود لدى العديد من الشعراء كذلك ، لكنني سأركز على الجانب النسائي في هذا المجال ، أقول ، نظرة عابرة من رجل قد تحوله إلى أجمل الرجال وأصدقهم وأكثرهم وفاء , وخطأ غير مقصود يحوله إلى سفاح غادر وخائن لا تعرف الإنسانية إليه سبيلاً . أما الموقف الإنساني العاطفي الثابت المتشابك الأضلاع ، فيحاول أن يجعل لكل شيء مبرر ، ولا يتسرع صاحبه بإصدار الأحكام الجائرة ، ولا يحاول الجري وراء الملذات الآنية ، رغم أثرها الواضح في العملية العاطفية , من تأجيج للمشاعر وتفجير للطاقات الشعرية الكامنة في وجدان الشاعر أو الشاعرة .
إن الرغبة في الإرتماء بأحضان المحبوب ، ومن ثم الثورة عليه فيما بعد ، لا يعد مرضاً نفسياً ولا مرضاً عضوياً ، بل هو مزيج بين الإثنين , وهو المعروف علمياً بإنفصام الشخصية ، وهو ما يمكن وصفه بالإستنساد النسوي المشابه للشعراء المسترجلين ، و" الشعراء المسترجلون " مقالة نشرتها منذ فترة . لكن يمكننا تفسير هذه الإشكالية من خلال الإنتقال المفاجئ بين الزوايا دون الوقوف على أرضية وسطية ثابتة ، إلى المزاج الشرقي الحاد المتمرجح بين الإستسلام والثورة ، وبين الرضا والرفض , وبين الإيمان المطلق والكفر المعلن .
العقلية الذهنية التقليدية للحب ، لازالت موجودة في خيال الكثير من الناس ، ولاسيما بين عدد لا بأس به من الشاعرات ، فمن المعروف أن الحب يقوم على ثنائية قطبية ، قوامها الحبيب والمحبوب ، غير أن الذهنية التقليدية ترسم مثلثاً متساوي الأضلاع ، وهم الحبيب والمحبوب والعاذل ، الذي يفترضه دائماً الخيال التقليدي في أغلب الأحيان ، لكن من الإمكان فرضية إبقاء هذا الخيار موجوداً ، وذلك عن طريق تعديل هيكل المثلث والإستعاضة عن العاذل بعنصر جديد ، كالموت عند الهنوف بنت خالد أو الخوف والتردد كما عند بلقيس , أو بعنصر الغياب كما عند شمس نجد على سبيل المثال ، لكن بشيء من المهارة التي تقوي وتضعف في بعض الأحيان عند الشاعرات .
قد يتبادر للذهن أن هناك اختلاف في مستوى الأداء العاطفي بالنسبة للشاعرات ، بل لدى الشاعرة الواحدة ، وقد يكون هذا التباين يظهر في نفس القصيدة الواحدة لأي شاعرة من الشاعرات , وهذا شيء طبيعي ، لأنها تتحدث عن مشاعر ، والمشاعر تعلو وتهبط ، في محاولة من قبل الشاعرة هذه أو تلك , لرسم صورة فنية لعواطفها الإنسانية المتداخلة , والتداخل في المشاعر شيء جميل , بل يعكس طبيعتها النفسية الآدمية ، على أن يكون هذا التباين أو التنوع مرتبط بشيء من الإنضباطية وعدم الإنزلاق الحاد في الموقف العاطفي .
اختلاط المسار العاطفي بالجانب الإجتماعي في تجارب بعض الشاعرات له ملمحه واضح , فحينما ترى أو تسمع هذه الشاعرة أو تلك بأن حبيبها خانها مع امرأة أخرى , يتحول المشهد العاطفي لديها إلى إشكالية إجتماعية ، تعكس تأزم العلاقة الإنسانية بين أفراد المجتمع , كما عند العنود بنت ناصر بشكل جلي ومكشوف ، أو كما عند الهنوف بنت خالد واستقلال الزامل لكن بشيء من التحفظ والإستحياء .
هناك جانب لاحظته في شعر المرأة , لم أركز عليه حقيقة , لأنه لا يخدمني في هذه الدراسة , لكنني سأذكره كإضاءة على الموضوع وكإضافة فنية له ، وهو حنين عدد من الشاعرات للطفولة والرغبة بالظهور بمظهر البنت الصغيرة العابثة اللامسؤولة في تصرفاتها , وفي هذا المنحى إيماءة بتمني الشاعرة استمرارية فترة المراهقة أو ما قبل المراهقة التي تعيشها الشاعرة وتشعر بوجودها من أجل مزج الموقفين فيما بعد ببعضها البعض ، للخروج بوضع إنساني جديد , ينأى عن وضعها الواقعي المعاش .
إن الطفولة المخبوءة في وجدان المرأة الكاملة النضج , ما هي إلا صخب عاطفي متوثب يسعى للتمرد , بعيداً عن سياجات المجتمع المفروضة على الكبار . وهذا الموقف تتقاسمه المرأة والرجل على حد سواء . فالإنغماس بنكهة أجواء الطفولة من أجل التلذذ ، لا بفترة الطفولة الحالمة ، التي لا تحمل من أولويات الحياة إلا الحلوى والملابس الجديدة ، بل من أجل الإسترخاء في عوالم الأحلام الوردية ، وتمني عودة تلك السنوات الجميلة التي تمنح المرأة إمكانية التخيل العاطفي الحالم ، ومن ثم الإستمتاع بذلك التخيل بجوار عاشق يبادلها الغرام .
لهذا نستطيع القول بأن التلذذ الحقيقي للعاشقين يكمن بالسهر والإنتظار ومكابدة نوازع الشوق في قلوبهم . فأجمل النصوص الشعرية العاطفية خلوداً في الذاكرة ، تلك التي كتبها عاشقون لم يبلغوا المراد من حبيباتهم ، ولا اعني هنا المراد بالمراد الجنسي , وإنما أعني به المراد الإجتماعي المعروف بالزواج .
هذا الكلام يقودنا للحديث عن الحب ، فالحب هذه الأيام لم يعد هو ذلك الحب القائم على التواصل والسهر برفقة النجوم وبعث الرسل الحاملين مواعيد الغرام , وعبارات تبادل الإعجاب كما نسمع ونقرا في الكتب ، فحب هذه الأيام اختلف عن الحب القديم ، فقد يتعرف إثنان على بعضهما البعض في سوق أو في شارع أو في حانة ، ثم يمضيان سوياً لقضاء الغرض الإنساني ، وكل منهما قادر على التعبير عن هذه اللحظة العابرة أو وصفها بالطريقة الخاصة . ومن المعروف أن جمالية التعبير في النصوص الشعرية أفضل بكثير من جمود الوصف الحسي للأشياء , وهذا الكلام لا ينفي فرضية وجود النوع القديم ، فالقديم والجديد خطان يسيرا جنباً إلى جنب في هذه الحياة , وكل له خطه البياني الذي يتحرك من خلاله ، وقد تتشابك تلك الخطوط وتتداخل الوسائل بسبب تعقيدات الحياة المعاصرة ، وهذا ما نراه في مسألة الحديث عن الخيانة والتعرف على صديقة الشاعرة هذه أو تلك ، وكأن الإنسان المعاصر أصبح يمارس الحب بنفس السهولة التي يغير فيها ملابسه . لهذا انقلب الإنسان على نفسه وصار الحب لديه يأتي بلا موعد ويمضي بدون استئذان ، وتحول الحب من كائن أسطوري جميل إلى مخدر جنسي مؤقت .