* قصة الفلسفة اليونانية ..
لم تستمّد الفلسفة اليونانية أصوليتها مِنْ الأمم القديمة كغيرها ، لكنها خلقت الفلسفة خلقاً و أنشأتها إنشاء ، فهي وليدتهم ( اليونان ) و ربيبتهم، و لو تمعنّا بخطوات صقلهم للفلسفة لوجدناهم قد خطوا خطوات متناسقة خطوة بخطوة ـ لا في أرض اليونان فحسب ، بل بكل مستعمراتهم اليونانية التي كانت بأسيا الصغرى أو صقلية و جنوبي إيطالي و جزء من الشمال الأفريقي ـ فالقارئ منا لفلسفتهم لن يجد أن هنالك حلقة مفقودة أو غامضة .. و أنا هنا سأتعهّد لكم بالكتابة عن ثلاثة مدارس أثرت الفكر اليوناني قبل أن يصافحه فحول الفكر الثلاث : سقراط و تلميذه أفلاطون و أرسطو ..
1- فلاسفة يونيا ـ إقليم يوناني في آسيا الصغرى ـ و من يونيا انطلقت الفلسفة و في كنفها درجت و ترعرت ، و من هذا الإقليم اضاءت نار الفكر الفلسفي و ظلت خافتة محصورة في أول الأمر حتى شاء لها القدر أن يمتد نورها و تتوقد ألسنة نيرانها لتلهب العقل و تستفزه .. من هذا الإقليم بدأ الإنسان يحطم أغلال الضرورة التي كبلتّه دهراً و خصص شطراً من حياته للتفكير المجرّد من كل قيود .. فنظر للطبيعة من حوله و وجدها تزخر بالعديد من المتغيرات و اللا متشابهات ـ فكل شيء مهما عظم شأنه و ارتفعت مكانته ـ إلاّ أنه عرضة يوما لأن يكن كأن لم يوجد يوماً ..
أول ما استرعى من الإنسان اليوناني النظر و استدعى تأملاته هذا التغير الدائب بكل المحطيات به .. فهذا الشيء المحيط به هو عرضة للتغير و التبدل و أن يقصر و يطول ..أو ينطوي متلاشياً .. فأنّى جاء و إلى أين ذهب ؟
أنه لم يخلق من العدم و لم ينحدر إلى العدم ! بل تكوّن من مادة موجودة فعلاً في أشكال المادة التي لا تزال موجودة أيضاً ..؟ فكل هذه الأشياء لمختلفة و المتغيّرة و كلنا نحن البشر السود و البيض نرجع لمادة واحدة فماهي ..؟
هكذا صرخ الفكر اليوناني إبان تلك المرحلة ... جاءت إجابات المدرسة اليونية على أعلامها الثلاث المشاهير :
طاليس ، انكسمندر ، انكسمينس .. الأولى عزا المسألة للماء فقال أن الماء هو الأصل لهذا الوجود و قال بأن الأرض قرص صلب وسط مياه ! ، بينما انكر عليه تلميذه اكسمندر قائلاً أن الأصل شيء لا أصل و لا خصائص و حدود له
ليأتِ الثالث و ينادي بأن الهواء هو الأصل لهذا الوجود .. في الحقيقة لن نعيب عليهم هذه الإجابات الساذجة خصوصاً الفيلسوف الأول الذي عرفه العالم طاليس إذ يكفي أنه مرّن العقول لسلفه و أثار لديهم هذا السؤال ،،
فلن نطالبه بخطأ تعليله للكون فهو على الأقل أول من فسّر العالم فلسفياً بعيداً عن سطوة الأساطير و تعددية الآلهة التي كانت مستأصلة لدى عقول أسلافه ..
سأسهب في شرح وجهة نظر كل من فلاسفة اليونية الثلاث على حدة قبل أن أدخل في إعتقادات المدارس الأخرى من الفيثاغورية ، أو المدرسة الإيلية أو مدرسة جوهر الفرد أو المذهب الذري ..
- عن ماهية السؤال الذي طرحه الفكر اليوناني إبان تلك المرحلة و إلقاؤه على عاتق طاليس الفيلسوف اليوناني الأول ، فنجده قد وثّق لنا فكرة أنه أول من فكّر في المادة التي يتألف منها الوجود !
حسناً ، هذا سبق يحسب له خصوصاً في ظل تصوّر طبيعي منطقي يستبيحه العقل الذي لا يبصر التفكير العقلاني آنذاك بل أنه يعجز عنه تماماً .. فقد اعتقد طاليس " أب الفلسفة اليونانية الأول " أن هذه المادة التي تكوّن الوجود لابد أن تكون شديدة المرونة في قابليتها للتشكّل في صور و خصائص مختلفة لتتسع كل ما في هذا الوجود ... و انتهى بالأخير إلى أنَّ " الماء " هو قوام الموجودات بأسرها فلا فرق بين هذا الإنسن و تلك الشجرة و ذلك الحجر إلاّ بالإختلاف في كمية الماء في تركيب كل منهم ..
أليس الماء يتشكل في صور متنوعة فيصعد للفضاء على ماهية بخار ثم يعود فيسقط " سائل " مطر و يحدث أن يصيبه برد فيتجمد و يتحول لـ " صلب " ثلج ..و إذن فالماء هو الأصل لأنه حينا غاز و حينا سائلاً و حينا آخر جامداً صلباً .. و الموجدات في العالم لا تخرج عن هذه الحالات الثلاث للمادة ..
يرجح ارسطو " الذي تبع هؤلاء جميعاً زمنياً لا منهجياً " أن تعلّق طاليس بفكرة الماء يعود لإدراكه أن الماء قوام الحياة و بإنعدامه تنعدم الحياة ـ هنا إثبات لمبدأ ديني لدينا وثق في الكتاب المقدس في قوله تعالى " و جعلنا من الماء كل شيء حي " ..
طاليس كان فلكياً جغرافياً و ياضياً إن لم اخطئ و لم يثري الفلسفة التي لم توجد من قبله إلا بشذرتين :
- الكون يتكون من الماء
- الأرض عبارة عن قرص جامد يسبح فوق ماء ..
و رغم إنكارنا لهذه الفلسفة المائية الساذجة ، أكرر دوماً أن طاليس صاحب السبق الأول في محاولة تفسير الكون و الوجود به بعيدا عن خرافات الأساطير و الأديان الوضعية و تعددية الآلهة .. و هو الذي شجّع انكسمندر على البحث بعد أن انتهى هو لأن الماء الأصل ....
-انكسمندر هو تلميذ طاليس و خالفه فيما ذهب إليه و قال بأن الماء ذو صفات واحدة ويستحيل على الوجود أن يجمع خصائص واحدة و هو في تباين و إختلاف و ذكر بأن ثمة تناقض في الوجود للصفات التي يحملها الماء لذا لا يمكنك أن تدرك الصفة إلا إذا أدركت نقيضها ، و نادي بأن الأصل في هذا الكون يعود لمادة من اصل واحد و لا حدود لها و لا خصائص تلمّها و كل ذلك لتبرير الإختلاف و البتاين في الموجودات .. و نحن هنا ننكر عليه ذلك لأنه لا يمكن أن تنشأ كل هذه الموجودات من مادة لا شكل لها بينما أصلها واحد ! و لو وافقناه بذلك فما السبب في الإختلاف بين النحاس و الحديد و الخشب و .. و.. طالما هو يقول أنها من أصل واحد و لا شكل له ... ؟ و انكسمندر لم يوضح معنى واضحاً لتصوير العالم أو العوالم المتعددة كما ذكر ، بل أنه يعطينا معنى غامضاً و له شرح في بعض الرسائل الفلسفية التي سارت به لنهج يقربه من نظرية دارون في النشوء و الإرتقاء .. إذ أنه يقول أن الكون عبارة عن سائل أخذ يتجمد شيئاً فشيئاً و في خلال ذلك كانت تنصب على الأرض حرارة لافحة تصاعد من بخارها بخار و شكل طبقات الهواء و هذه الحرارة عندما ألتقت في البرودة كونّت الكائنات الحيّة التي كانت في أول أمرّها منحطّه ثم بعد ذلك تطورت شيئاً فشيئاً ..
- انكسمينس و إرجاؤه الأصل للهواء و أرجع الإختلافات للتكاثف و التخلخل و أوعز للهواء دورا كبيراً من حيث أنه يتغلغل كل المحطيات و ما الأرض إلا كرة عالقة في متسع هواء < --- عله ألمح لحقيقة فطن لها كوبرنيكوس بعد ذلك ..
هذا الأخير لا أعلم لِمَ لم استسغ ما جاء به ، وجدته خاوياً مفعلّا و خالطاً ما بين شمولية ماء طاليس و حدودية انكسمندر ..
ممكن يتبع
* اسم الكتاب الذي كان مرجعاً لـي و زودنّي بشيء مِن الجزميات ..
:1_49987: