السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ,,,
فرغ جدي من صلاة الليل .. وأخذ بأطرف الدعاء يتمتم ويلتقط أنفاسه بصوت متقطع مسموع صوته وهو يقرأ دعاء تلك الليلة .. يأخذ مسبحته .. وكلما وصل إلى مقطع ..هوى برأسه على السجدة .. التي تركت أثرها على جبينه النوراني .. وجبهته السمراء.. استوى رافعا يديه إلى السماء يرجو الله وهو يصل إلى " يا غياث المستغيثين " لفّ سبحته على سبابته ..
دار نصف دوره ولف عقبيه الملتصقين بالحصير ويداه على الأرض تسندان ظهره المنهك إلى جدار بيته الذي رسم وجه جدي في كل جنباته
بدا يسبح لا تسمع إلا صوت خرزات المسبحة .. وصوت " تكتكت" مروحة السقف .. غفا جدي وهو مستند على جدار غرفته التي هي حياته ووجوده كله .. رفع رأسه إلى السماء بعد أن طوى قدمه اليمنى ووضع يده
اليمنى على قدمه اليسرى والمسبحة في يده يسبح الله ويهلل الله ويصلي على محمد واله .. هدوء الليل وحفيف الشجر وصوت المؤذن يرتفع قبلها غفا جدي وأسند رأسه على الجدار والمسبحة في يده والتمتمات تخضر على شفتيه اليابسة وجروح قدميه المتشققة يلسعها البعوض وهو غير مبال بلسعاتها ..لكن ما أن وصل المؤذن إلى "حي على الصلاة " حتى انتبه جدي من غفوته ..يأخذ نفسا ويحوقل معها ويردد لا اله إلا الله يكح بصوته الجهوري الذي يملأ المكان .. يستنشق نسمات الهواء في ساحة البيت الريفي الذي رسم وجه جدي .. سعف النخل يلف البيت وأشجار الليمون تملأ بيته "وأغراش" الليمون المخزن فوق السطح تسمع صوتها كلما تحركت الرياح .. وفي مستودع جدي الصغير هناك أكياس التمر" الخلاص " الغني بمكوناته الطبيعية وقد امتلأ المستودع بالتمر الملتصق على الجدران وتحت الأرض والمختلط بسعف النخل والتمر يقطر منه الدبس المصفى الذي يسيل بفعل ضغط أكياس التمر عليه ..
يتفحص جدي كل جنبات بيته يذهب كي يتوضأ وضوء الصلاة يتناول "كروز" الماء والذي تشقق وانخرم بفعل الزمن لكنه عزيز عندي جدي
يقرأ مع كل رشفة ماء الدعاء الخاص بالوضوء فوجه جدي يشتاق له وضوء الماء فيطهر الماء بوجه هذا العابد المتنسك الراهب .. وفي صلاته يتبتل خائفاً مرتجفاً منتفضا ً حينما تراه تشعر انك أمام عاشق قتله هوى محبوبته فانتفض يناغي لهفة الحب وعشق الروح وسكر الهوى كأنه غصن ورق شجر تتلاعب به الريح يميناً وشمالاً .. عشق الحب الإلهي عند جدي ليس عشقاً غرامياً غزلياً .. وليس صوفياً .. ولكن يشعرك بهوى ونفس المحبين وسكرهم وتلاصقهم في الحب بعد أن يظهر القلب نوازعه الإنسانية نحو الآخر في الحب المتضخم والشعور الذي يراودك كما راودت عزيزة مصر فتاها وقالت هيت لك .. لكن شعور جدي هوى الحب للصلاة والعشق لله في محراب سجوده وفيض عشقه الإلهي.. يناغي صوته السماء الهي يا غياث المستغيثين .. يرتعد البيت من صوته فكأنه خالك أن هذا الجد قد هبط من السماء.. خرج للصلاة وكل من رآه يسلم عليه " السلام عليك أبا محمد " يجيب بعد أن يضع يده اليمنى على صدره منكساً رأسه احتراماً لهم وعليكم السلام أبا علي .. إلى أن يصل المسجد يأخذ حذاءه ويضعه تحت إبطه ويدخل ليضعه في مكان خاص له.. ومكانه في المسجد معروف في الصف الأول .. يتهلل وجه بالنور الإلهي " لله درك يا جداه " .!! يسلم على إمام الصلاة كل يوم وفي كل صلاة .. يفرغ من صلاته يذهب إلى " المخبز" بعد أن يأخذ معه ما يلف به الخبز وعند الخباز تشم رائحة الخبز ونار التنور والمخبز الذي اعتلا جنباته السواد والطحين المنثور على طاولة الخبز " صندوق النقود " الخشبي الذي ما أن تعطى قيمة الخبز حتى يرمي الخباز النقود فيه .. أخذ جدي خبز الحياة وهو يسير إذا بصوت عال يملأ المكان أبا محمد .. أبا محمد.. مات أبا علي الآن في بيته .. خر جدي على ركبتيه وسقط خبز الحياة متناثراً من يديه ..
فلقد مات اعز الناس وأقرب الناس .. أبو علي هذا جار جدي .. انه جارٌ وليس أخاً ولا ابن أخ .. ولكنه كان روح جدي التي بين جنبيه .. بكى بدمع العين منهمراًً على لحيته البيضاء .. أبا محمد .. جداه .. ألا تسمعني .. أسمعك يا قرة عيني يا ولدي .. مات الزمن في عيني يا ولدي .. قد رحلوا
رحلوا .. وفي يومِ أنا راحل يا قرة العين ..
وليــد