لم تكن سُنة الحياة قائمة على المفارقة في كل شيء، و لا المفارقة بكل معنى، بل هي قائمة على أصل الجمع و أساس الالتئام، و الافتراق شيءٌ شاذ عن قاعدة الأصل، و الشاذ منبوذٌ و لو كان صحيحا. هذا الأصل الأصيل هو ما تتابع الناس عليه جيلا بعد جيل، و تناقلوه بينهم و ورثوه من بعدهم، فصار معروفاً مألوفاً. إلا أن هناك من لم يرتضِ ذلك، و لم يقُم لديه هذا الأصل مقاما كبيراً فبدأ بالحرث في الماء، ليهتك حُرمته، و يهدم سُوره، وما ناطح أحد سُنة الحياة إلا وهو مُؤْذِنٌ بخسارته.
تنبَّه لذلك كبار المصلحين للبشرية، و الساعين في نهضة المجتمعات، فنادوا على الناس بأصالة هذا الأصل، و كرروا المناداة بمجافاة المعاداة، مما يعني أن البلاءَ ليس إلا من الأتباع، لأنهم يأخذون أثراً من رسالة المُصلح فيُحوِّرونها في مصانع الأفهام الناقصة، فيقفون على ظل اللفظ و لا يخوضون إلى شمس المعنى، و هنا تتكوَّن المصائب التي تفري في المجتمعات، و تأتي على الناس بالويل.
في كل ملة، أناس يصنعون الافتراق بين أتباع الملل، كذلك الحال بين طوائف كل ملة، فالافتراقُ صناعة الأخرق من كل كمال، الأحمق في كل فعال، و ليست صناعة من يُدرك سُنن الوجود الربانية، و لا علل الخلق البشرية، فالخالق العظيم أوجد خلقه لعلل يُدركها الألباءُ العُقلاء، الذين يرومون بناء الوجود البشري على أكمل بُنيان، و أتقن صورة، تلك العلل كلها تقوم على مبدأ الجمع، و تنقضُ دخيلة الافتراق، فالعلتان: العمارة و العبادة، لا تتمان إلا بأن يكون الناسُ على سُنةِ " أمة واحدة" حيث يكونون " كالبنيان المرصوص" فيعرف الجميع و يتعارفون على ما هم عليه من سيرٍ إلى هدفٍ و غاية، قِوامها علتان مُحكمتان، وما علةُ الخلق الأخرى : الاختلاف، ناقضةً لتلك العلتين، بل هي أصلهما، حيث تزرع السعة الأفقية دينا و دنيا، فالاختلاف تعدديٌ، و التعدديُ نعمةٌ، أما التفرُّدُ فهو الشذوذ الصانع للافتراق. فكان من ذلك جعل الله الناس شعوبا و قبائل، ليكون التعارفُ و تتحقق المعرفة و ينتشر بذلك المعروف، وهنا جمعَ مُفردتين جمعتا أفرادا ليُحقق بذلك إثباتا للعلة الكبرى أن الجمع أصل. جميع أهل الملل و النحل، و الطوائف و المذاهب قائمة على أصل واحد، يسعون إليه بكل ما أوتوه من قوة، وهو أصل إثبات الحقِّ محصوراً فيما هم عليه. و حيث اعتُقِد أن الحق محصورٌ بكل تفاصيله و جزئياته في فئة أو طائفة فهذا نذيرٌ بأن هناك سيولاً من التفريق آتية. و التاريخ يُثبت ذلك يقينا، و التاريخ لا يكذب، كما أنه لا يرحم أحداً.
كل أولئك الذين سعوا بالإصلاح للناس، قاموا على أصل الجمع، فلم يدعوا الجزئيات، و لا صغيرات الأمور، و لا مُحقَّرات القضايا، تفتك فيهم تفريقا، أو تنقض أصل الوجود البشري، ابتداءً من الأنبياء، و مروراً بحكماء المصلحين من الفلاسفة، إلى أرباب الطوائف و المذاهب الدينية و الفكرية، نجد هذا شيئا ركيزا لديهم، ولذلك لو اجتمعوا كلهم في مجلس واحد، لم يكن ليكون بينهم شيئ من تلك المهاترات التفريقية.
حين يرتبط المصلح بحكمة السماء في علل خلق الناس سيكون لحركته أثرا كبيرا، و سيكون الجميع مؤيدا و شاكرا، و بقاء الصور من بقاء الحقائق، و ديمومة المباني من ديمومة المعاني، فكل ما ارتبط بباقٍ بقيَ، وكل ما ارتبط بفانٍ فنيَ. هنا نُدرك السر في بقاء كثير من الدعوات، على مناقضتها لشرائع السماء، و الباقي منها غالبُه مقبول، ولو من طرفٍ خفي، ذاك السر هو أنهم لم يسعوا لإثبات الذات، و لم يُقيموا دعواتهم على أصل التفريق، و إنما على قانون الجمع، و دستور الفكر، لذلك بقيَت و دامت، و لا زالت تتجدد على خللها.
إن من يُنادي بالإصلاح، و يدعو إلى تأسيس الفُرقة، ما هو إلا داعٍ إلى هوى، وقائم على ردى، و لا يمكن لدعوة مثل هذا أن تكون حقا، و لو عضدها بأدلة الوجود، حيث الحركات الإصلاحية، و الدعوات النهضوية لا بُد و أن تقوم على تحقيق أصل الإيجاد، و تحقيق غاية الخلق، و حين لا تكون كذلك فما هي إلا دعوة للذات بصورة الفكر، و كثير من الدعوات سقطت حيث كانت هكذا.
حينما ننظر إلى ما لدينا في دين الإسلام، و هو دين جامع يجمع، و ليس دين تفريق، و إن كان فيه تفريقٌ فهو تفريق في الأحكام لا في التعامل، وهو تفريقٌ يبني لا تفريقا يهدم، و أهله فهموا تفريقه على الهدم، وهو منهم بريء. ننظر إلى تصرفات كبار مصلحيه، و أنهم قاموا لتحقيق هذه الغاية الكبرى، و لكن من اتبعهم على سُنتهم و طريقتهم اتبعهم على عِوجِ الفهم و سوء السبيل، فكان ما كان من ويلات متتابعة، لا تكاد تنتهي ويلة إلا أتت أختها على أثرها. كثير من الأتباع يُنادي بلزوم جادة أولئك المصلحين، و المصلحون لم يُنادوا بذلك، و يعتقد التابع أن متبوعه هو الذي على الحق المبين، و أن غيرَه ليس كذلك، حتى و إن لم يُبْدِ ذلك، فلسان الحال أبلغ مقالا. لهذا تجده دائما ما يسرد فضائل متبوعه، و يتأوَّل نصوصاً دينية على أن المقصود بها هو، و ربما تجاوز بعضهم الحدَّ فأتى بأنه مذكور في زُبُرِ الأولين، و لا قدح بكبير، و لكن الصغار يُقبِّحون، لذلك رُفع عنهم قلم التكليف، فلا تشريف. و ينادي التابع إلى تمجيد أثرِ متبوعه متناسيا بذلك الوصل بالأصل، و حيثما كان القلبُ هائما، فالكل في الوجود أصل للوجود. وما أثر المُصلح و لا فكره إلا سبيل لائق بوقته، فليس متناسبا مع كل حال و لا في كل زمان ومكان، لأنه فهم، و الفهم لا استقرار له، لأنه عرَضُ فكرٍ، كسحابة صيف، لأجل هذا أخذ المصلحون الحذر، حيث واثقين من مغبَّة القدر، فأحالوا الأتباع إلى المعين الذي أخذوا منه، على أصل الفهم لا على ظِل اللفظ، فمن الأتباع من آمنَ و حقق المراد الكوني، ومنهم من كفرَ فنقض الأصل الوجودي.
لا عيبَ في الافتراق حينما يكون قائما على ما يوجبه بحق، و لكن العيب فيه أن يكون قائما على سفاسف الأمور، و حقيرات الأحوال، و لا تليق الأشياء إلا بأهلها، لذلك من وضع أصل الجمع وضع فصل الفُرقة، فلم يضعه فصلاً للجمعِ بما ليس بشيء، و إنما شيئا كبيرا، له وزنه في الفكر عند تمحيصه و تحقيقه. ولكن أيُدرك الأتباع ذلك؟!