[IMG][/IMG]
كدأبه كل صبيحة،استفاق "إدريس" من رقاده ممنيا النفس بفرصة الحصول على عمل قد يكون من نصيبه أو لا يكون..تناول كالملهوف فطوره بعجالة وطبع قبلات حارة وديعة على جبيني طفليه..لا يدري كيف أطال النظر مليا لمحياهما لأول مرة ،ولا حتى كيف ارتسمت ابتسامة غير مألوفة على وجهه الموشوم بأسارير الزمن المقيت،وهو يلقي بتحية الإصباح على أم أولاده..
فك عقال دراجته الهوائية المربوطة بسلك إلى عمود خشبي مسند على بوابة البناية الطينية..كان عليه أن يسير ممتطيا إياها انطلاقا من مسكنه بمحاذاة الجبل عبر منحدر يصله إلى"الموقف" * بوسط المدينة..
على حين غرة توقف عن المسير،بعد أن توغل في تلك المسارات الحلزونية للجبل،عطب ما اعاق دراجته عن الحركة..انتابه قلق ممض..فكثيرا ما عاد أدراجه خاوي الوفاض لبعد المسافة،تحت وطأة أجواء خانقة.متطيرا بما حدث، بدا له أن فرصة الحصول على عمل في ذلك الزخم الهائل من الحشود الآدمية قد تضيع بفوات الأوان..
آوى إلى ظل شجرة دوح عتيقة لإصلاح ما يمكن إصلاحه..وفي غمرة انشغاله،لاح له بريق ما يتلألأ من بين ثنايا سيقان نباتات وأعشاب كثيفة داخل خميلة هناك ،تعكسه ضوء الشمس المتسلل عبر ثغرة ركام جلاميد صخر على بضع خطوات..استبد به فضول غير معهود..دنا من بوابة صخرية شبيهة بمغارة تلفها الصخور والأعشاب البرية الكثيفة من كل جانب،ولا يكاد يلحظها لاحظ.. بمجرد أن أزاح بضعة أحجار عن المدخل،غمرت سائر بدنه برودة..لفحت وجهه المحموم في غور المكان..تلمس بيديه التربة..الأرضية رطبة وهشة.. انتابه إحساس برهبة المكان..لم يسبق له أن زج بنفسه داخل أماكن عاتمة ضيقة مشابهة..لكن،بالرغم من ذلك سرى بصيص من تفاؤل في عروقه..شيء ما غير متوقع تحادثه به نفسه المهووسة التواقة إلى ما وراء الأشياء والذوات..هدوء تام يلف الأرجاء إلا من أزيز الحشرات وخشخشة الهوام ودكات أقدام الراجلين وحوافر الدواب على الطريق،كانت تترامى إلى مسمعه..
استرعى انتباهه ثلاث قطع معدنية فضية ..نفض عنها الأتربة وتأملها مبهورا ببريقها ..أخذ يقلبها من الواجهتين ..يبدو أنها عملة نقدية قديمة من اللجين الخالص الباهض الثمن.. أغلب الظن أن البقية ستأتي..هتف به هاتف من غور الذات:"على رسلك يا رجل.. كن سيد نفسك..شيء من التعقل والرزانة..لا تتسرع.. أبشر وقل وداعا للفقر..فقد آن الأوان لان تتخلص من ربقة مأواك الوضيع ذي الحيطان المتهالكة إلى فضاء فسيح يدثرك بشملة الطلقاء..قد دقت ساعة الخلاص لتنزع عنك هذه الأردية البالية المدنسة بأوحال أيام القهر الخوالي..ودراجتك الخردة تلك..ماعادت تجدي شيئا وأنت تمرح وتزهو بسيارتك الفارهة أينما حللت وارتحلت.هوذا الرزق الوفير قد جاءك محمولا على صهوة الحظ والنصيب..أنت الذي لا تفتأ تصدح ملء السمع والبصر أمام الأهل والأصحاب :المكتوب على الجبين لابد أن تراه العين..ألم يكن الفقر رأس كل بلاء كما كنت تقول ..؟ هاقد تبدد بلاؤك اليوم مندثرا تذروه الرياح.."
تخلص من شباك أحلامه المثيرة.. استعان بغصن شجرة وشرع في النبش في أحشاء التربة لوقت طويل وبتؤدة، درءا لفضول الأعين الرقيبة..ضيق المكان يعيق الحركة..يلهث بين حين وآخر..عرق غزير يتصبب من بدنه نتيجة الجهد العضلي المبذول..وفي وقت من الأوقات تعذر الحفر..بدا له أن الغصن قد اصطدم بشيء صلب..أزاح ماعلق به من تراب..هز حاجبيه وتمالكته دهشة واستبشار: إنه غطاء لآنية كبيرة مستديرة،لا يدري ماهيتها.وعلى مسافة شبر عثر على غطاء آخر،ثم آخر..لكن فاجأته قطع فضية أخرى تناثرت بين ثنايا أغطية ربما تكون لجرات دفينة من الفخار..عندئذ قرر التوقف عن مواصلة الحفر لصعوبة إتمام العملية..أهال التراب على المخزون وقرر أن يستعين بأداة للحفر وجلب أكياس من منزله تفي بالغرض المطلوب.
عاد إلى منزله مهرولا على جناح أحلامه الوردية..حمل معه خاشوقا صغيرا ومجرفة يدوية وأكياسا بلاستيكية ولم ينس أن يستعين بعربة يدوية ذات عجلتين،يستغلها أحيانا في حمل بضائع المتسوقين وأمتعة المسافرين كلما عاد فارغ اليدين من انتظاراته الطويلة بـ"الموقف"..
سلك طريقا آخر،بالرغم من وعورته، تجنبا لإثارة انتباه الرائحين والغادين المتلهفين لسبر اغوار كل صغيرة اوكبيرة..على حافة شعاب المنطقة،كان يشق المسلك الترابي مقتحما هول العقبات بعزم اكيد.. مظللة إياه أجنحة السكينة تحت قساوة قيظ لا يطاق..
بضعة أمتار تفصله عن الفرجة الصخرية،توقف برهة لالتقاط أنفاسه..على امتداد البصر،وفي كل الاتجاهات، ألقى بنظرات حالمة تظللها سحائب من أماله في الغد القريب : هناك ..خلف الأجبل الممتدة في الفراغ امتداد طموحاته الباسمة ستمتد مزرعته أميالا تسيجها أكاليل من كلإ أخضر شذب سطحه بإحكام ،تعلوه باقات من أزهار وورود تزين هامة المكان..وعلى المروج الشاسعة تسرح قطعان من أغنام وأبقار..والطيور الداجنة والخيل والبغال والحمير،رابضة تمرح في حظائر واسطبلات وخممة تنعم بالعيش الرغيد..
والخدم والحشم ؟..الكل في الخدمة وطوع البنان..والأسرة الصغيرة يا ترى ؟؟..ربة البيت؟..الطفلان؟..من المؤكد أن رياح البشريات والحظ السعيد ستنأى بالجميع إلى حياض الرفاه والعيش الكريم..من يدري؟ كل شيء بقضاء..
كان لهيب الأجواء في هذا الحيز المكاني المهجور قد اشتد لظاه إلى حد لا يحتمل..راوده إحساس غريب لا يدري ماهيته..تردد هنيهة..حاول التراجع..لكنه عاد ليوطد العزم على المضي إلى ماهو ماض إليه..فليس لديه ما يخسره إلا مايبدله اللحظة من جهد جهيد..
وفي غمرة انهماكه بإزاحة بعض أحجار مدخل التجويف الصخري من جديد،داهمه ما لم يحسب له حسابا..أفعى رقطاء..قابعة هنا في تخف متربصة بنماذج بشرية من الدخلاء منسوخة على شاكلته..هوت عليه بضربة قاضية وأنشبت نابها الكاسر بعمق في أوردة معصمه.. قضمت حسن بنانه ولم تدع له أدنى فرصة للنجاة ووضعت حدا للغارة الفجائية..نفثت سمها الزعاف في سائر أجزاء بدنه..تراءى له فجأة شبح أمه الضبابي مادة إليه ذراعيها تروم إلى ضمه في حضنها الوديع ..انطلقت من فيه صرخة مدوية وتهاوى على إثرها مكلوما إلى الأرض يتلوى من فرط الألم ..أصابه غثيان وقيء ودوار..ارتعدت فرائصه كريشة طائر مهيض الجناح جرفته أعاصير زمن التيه..فاض جبينه الملتهب عرقا..استحال جسده إلى قطعة من جليد في عز الظهيرة، غمر الهمود كيانه وشخص ببصره الجامد هناك إلى ما وراء سديم الأكوان البعيدة..انتفض انتفاضة أخيرة مجللة إياه بجلالها سكينة الأبد الكبير...
--------------------------------
* مكان يقف فيه الباحثون عن الشغل من الحرفيين واليد العاملة في انتظار فرصة عمل...