| ذاكرةٌ مثقوبةٌ |
|قصة قصيرة|
بحزنٍ يهزُّ القلبَ وينزعُ الروحَ تجاهَ الوطن ، كنتُ ألملمُ أشيائي وأودعها في حقائب باردةٍ ربما لنْ تحتمِلَها ، غير أنّي وعدتُها بأنها ستكونُ أكثرَ دِفئاً في خِزانَتي القديمةِ والتي كنتُ آملُ بأنها ماتزالُ شامخة تستنِدُ على جِدارِ غُرفتي الصغيرةِ فِي شقتنا التي أقفلناها منذُ سنينَ طويلةٍ على أملِ العودةِ حين انتهاءِ الحرب ، وانتهت الحربُ ولم نعد ، فقد غَرِقنَا في تِلك المدينةِ ولم نَجد طوقَ النجاةِ إلا مؤخراً ، بل لم أجد " أنا " ذلك الطوقَ سوى الآن حين أمطرتني السماءُ بقطعةٍ من قلبِها تُدعى "ميسون".
- سيدتي ، سيارة الأجرة في انتظارك بالأسفل.
- هل أنزلت جميع حقائبي؟
- نعم ووضعتُها في السيارة.
- تعلم أنني لن أعود, لربما نسيتَ شيئاً ؟
- أعلم, اطمئني لم أنس شيئاً.
ألقيتُ نظرةً أخيرةً نحوَ زوايا شقتي الباردةِ كبرودةِ باريس غيرَ نادمةٍ على الرحيلِ ، حيثُ الدفءُ يتدثّر في وطني وحيث لبنان ( قطعة من السما ) ، دلفتُ إلى سيارةِ الأجرةِ أحملُ حقيبةً صغيرةً تستوطنُ ذاكِرتُها بعضُ الأوراقِ وقلمٌ وديوانُ "نِزَار قبّاني" ( إلى بيروت الأنثى .. مع حبي ) ، ليتَ ذاكِرَتي كانَت أقل تكلفاً كحقيبتي ، لربّما كنتُ أكثر سعادةً ، وكأن الذاكرة تسترقُ السّمعَ لحديثي الداخلي وتستفزّني بأنْ تشرّعَ نافذَتها حيثُ الوطَنُ يسكن الغيومَ ، ويشاكسُ أشعةَ الشمسِ المغروسةَ بخاصرتها كسكّينٍ يثقبُ الذاكرةَ لتستنزفَ المطرَ وتنسلَّ الذكريات نحو الركنِ القصي من الروحِ , أغمِض عينيَّ كأنما أرتقها كيلا تفرّ رائحةُ البحرِ وأصوات المآذنِ و أجراسُ الكنائسِ ، وصورٌ قديمةٌ مهترئةٌ حفظتُها طِوالَ سنواتِ الغربةِ على الرفّ الأعلى من الذاكرةِ كيلا يلمحَهَا عثّ النسيانِ فيحيلها قصاصاتٍ صغيرةً جداً يصعبُ لصْقُها
- سيدتي لقد وصلنا الى المطار
جفلتُ وأُغلِقتِ النافذةَ فجأة في وجهي وتبقّت ابتسامة طرية ترطب شفتيَّ بالحنين ، أنهيت إجراءاتِ المغادرةِ بروتينها المعتادِ ودلفت إلى الطائرةِ أستحضرُ بعضاً من أنفاس بيروتَ لربّما نسيها راكبٌ قبلي ، جلستُ أقطعُ المللَ ببعضِ الكتاباتِ لأبياتٍ يتيمةٍ أو ربّما نصوص لن تكتمل ، أردت فقط أن أدس رائحة بيروت بين سطورها كي لا أشعر بالغربة حين تحط الطائرة على أرضها ، وكيف يشعرُ مواطنٌ بالغربةِ في وطنهِ ؟! سؤالٌ لطالما شاكستُ نفسي بِه بعدَ أن سكنتني الغربةُ حتى آخر عِرق ولم أعد أشعرُ بلذةِ وقعِ كلمةِ ( وطن ) ، لولا "ميسون" تلك النقيّة التي هزّتْ مهداً من الذكرياتِ في داخلي وتساقَطَ الكثيرُ منها وأنبتت حقولاً من ياسمين ، أدركتُ معها أنَّ الوطنَ ليس مجرد كلمةٍ بقدر ماهو انتماء ، تلك الصديقةُ التي أعادت رائحةَ أشجارِ الأرز بدلاً من رائحة فُنجانِ ( الاسبربيسو ) الصباحي .. أسبغت الذائقةَ بـ " فيروز " بدلاً من " سيلين ديون " ، حتّى لم أعد أقرأ قبلَ النومِ إلا على أنغامِ ( كيفك إنتَ ) و ( بحبّك يالبنان ) ، معها تذوّقتُ طعمَ (التبّولةِ والمتبّل) في مطعم " العم إلياس " البسيطِ والذي لم أعرفه قبلاً لولاها ، عشقتُ رواياتِ " غادة السمان " و قصائدَ " محمود درويش " و " نِزَار قبّاني" ومازلتُ أحتفظ بكل روايةٍ وديوانٍ أهدتني إياه وهاهو ديوانُ "نزار" يسكنُ حقيبتي الصغيرةَ ، "ميسون" يانعمةَ اللهِ ياصديقةَ الدراسةِ ، بكيتُ كثيراً حينَ الوداعِ ولم أشأ أن أودّعكِ في المطارِ رغمَ إصراركِ ، فلأول مرةٍ لا أستمعُ إليكِ ، فالوداع قاسٍ ، وإنْ كانَ اللقاءُ البعيدُ يلوّحُ لكلينا أنْ سنلتقي يوماً ما على بقاعِ بيروت ، التي لولاكِ لما نَفضَت الغبار وأدركت بوجودِها بينَ أرففِ الذاكرةِ المهملةِ ، أتذكرُ كيفَ صمتُ لأولِ مرةٍ في آخرِ ثلاثِ سنواتٍ معكِ ومعَ عائلتكِ حيثُ الحميميةُ تعبقُ في المكان ، لم أصُم قبلها أبداً ، فانصهاري بينَ أزقةِ باريس وحضارتها أفقدَني الكثيرَ مِن ملامِح عُروبتي ، خاصةً حينَ توفّى والداي في سنٍ مبكرةٍ , ورغمَ ذلكَ مازلتُ أتذكرُ بعضاً مِن ذِكريات طُفولتي في بيروت ، ومازلت أيضاً, أتذكر سهراتنا الرمضانيةِ الباريسيةِ الباردةِ حين نجتمعُ حول والدك لتندلق الحكاياتُ دافئةٌ تدثّرُ أرواحَنا وتتقافزُ أمامنا صورُ المقاهي ومدفعُ الافطار ووجهُ الحكواتي "أبو خضر" بسنواتِه الستين والذي أثرى بحكاياته عن الحبِ والحربِ والفنِ والشعرِ والأدباء المهاجرين, ذاكرةَ الملتفّين حولهُ على الكراسي الخشبية في ذلك المقهى العتيق في إحدى أزقة بيروت والذي اعتاد والدك التردد إليه كل مساء بعد الصلاة , وها هو يقصُّ علينا بعضاً من حكاياتِهِ الطرية والتي مازالت تسكنُ ذاكرتي وتثريها بالتفاصيلِ الشهية , انتابتني رغبةٌ في قراءةِ بعضاً من نصوصِ "نزار" , وحينَ فتحتُ حقيبَتي تذكرتُ شيئاً حين لمَحتُ ذلكَ الظرفَ الذي أعطتني إيّاه "ميسون" وجعَلَتني أعدُها ألا اقرأهُ إلا حينَ أكونُ في السماءِ بينَ أحضانِ الغيومِ كي أتَذَكّرَهَا في أعلى بقعةٍ قد أصلُ إليها يوماً حيثُ تَسمو أرواحُنا ، رغمَ أن الفضولَ تملكَني طِوالَ الليلةِ السابقةِ لمعرفةِ ماكُتبَ في تلكَ الأوراقِ والتي تحوي توثيقاً لرؤاها وبعضاً من ذكرياتها الرمضانيةِ اللذيذة أو ربّما قصةً تحملُ تفاصيلاً رمضانيةً حميمةً ، لم أعرف فقد تركتْ بابَ الاحتمالات موارباً
فضضت الظرف واندلقت الكلمات في كأسِ الروحِ.
وعقب الانتهاء من قراءةِ حروفها الفاتنةِ والتي أجّجت شوقي لبيروت ، أغمضتُ عينيْ وابتسمتُ بينما أجوب طرقات الذاكرةِ بصحبةِ "ميسون" حتى باغتتني غفوةٌ ، ولم أفق إلا على صوتِ المضيفةِ مُعلناً وصول الطائرةِ إلى مطارِ بيروتِ الدولي.
لملمتُ أوراقي وحملتُ حقيبتي ومضيتُ نحوَ الخارجِ وأنا أتنفسُ بعمقٍ أول نسمةٍ بيروتية
( نسم علينا الهوى من مفرق الوادي ،، ياهوى دخل الهوى خدني على بلادي )
بكيتُ فرحاً ، شوقاً ، ألماً ، حينها أدركتُ بأن حبّ الوطنِ مازال يسكنني
بعدها أخذَتني سيارةُ الأجرةِ نحو حارتنا التي ضمّت طُفولتي بينَ أصابِعها ، في ذلك الحي العتيقِ الذي ربما تغيرت ملامحهُ وارتدى رداءً من حداثة, ولكن أكثر ماكان يشغلني حينها أن أبحث عن الحكواتي " أبو خضر" لأستمع لحكاياتهِ الدافئةِ وكأنّ العمرَ سيتوقفُ عندَ عتبةِ سنواتِه الستينَ ، أو ربما هناكَ الكثيرين غيره ، فصورةُ بيروت العتيقةِ باللونينِ الأسود والأبيض مازالت معلّقةً على جِدارِ الذاكرةِ.
أدركتُ لاحقاً وأنا أحدّقُ في حارتنا التي لم تعد قديمةً ، بأنّ الصورةَ الجداريةَ أضحَت مختلفةً وملونةً ، واختفت من ملامحهَا وجوهٌ كثيرةٌ ، وأن الحكواتي كانَ ماضٍ واندثرَ بحكاياته الجميلة المختلطةِ برائحةِ (الأرجيلةِ) وألحان الرحابنةِ ونسيمِ الوادي ,وبأنّ البنايةَ التي كانت تضمُّ طفولتي بينَ أضلعِها لم تعد موجودةً ، جلستُ مشدوهةً , حزينةً على كرسيٍ في مقهىً باردٍ من الطرازِ الحديثِ ، ودونَ وعيٍ فتحت مدونتي وأمسكتُ بالقلمِ , وكتبتُ ، فقط لكِ يا ميسون سأكتبُ بعضاً من ذكرياتي لتدركي أن ذاكِرَتي مازالتْ تخبّئ بعضاً من رائحةِ (بيروت) ، لكن الحكواتي لم يكن احداها ولن يكون.
بقلمي/ لامار