( 9 )
يتحدث الليل عن اليقين ،، لعله يظن أنه يعرفه كما يجب ،، ولكنه صادق صريح ومنذر بالمخاوف ،،
رغب عن الصمت ليتيح لنفسه فرصة للتأمل ،، كما يبتسم الظلام للطفل بتدليل مغرم لو ترك الأمر له لما تعلم السير خوفا عليه من التعثر ،،
والأرض في مخاض لا ينتهي ،، في كل رفة جفن تتمخض عن ألف ألف عجيبة ،، لتعود فتحبل بألف ألف عجيبة ،، مواليد لا حصر لها ولا عد ،، تشقى وتسعد إلى حين ،، وقد تميع جبالنا بهجة بقدومه وتضحك سماؤنا وتصفق شمسنا ،،
فتجوب الفراغ كنذير أو كنحنحة خطيب ،، عند ذاك يتمايل غصن أو تنحسر عباءة ،، وتندلع شرارات تخطف الأبصار وتكهرب القلوب ،، وتنهل أحلام المطر في هوس يضم الأرض السماء في عناق ندي ،، فتختلط عناصر الكون وتموج وتتلاطم كأنما يعاد الخلق من جديد ،،
شئ يحدثني بأن تلك الدراما إنما تحكي أسطورة مطمورة في القلب ،، وتخط طريقا ما زال غامض الهدف ،، أو تضرب موعدا في غمغمة لم تفهم بعد ،،
فهذه ليست مجرد صخور يا عزيزتي ،، حسبها أن الزمان ينام في تجاويفها وأن الفصول تتناوب العبادة في هياكلها على ترانيم أبي ،، وعلى وشوشة نسمات وتهاليل ريح ولعلعة بروق وأناشيد المياه الهابطة من السحاب أو المتراكضة على أشرعة الموج ،،
ولكن الصغير لا يعرفك إلا في جدة ،، وجدة كلها صيف ،، ما خلت غبطة الاستمتاع بحديث الجوارح ،، بلسان لعاب الشمس المائل للغروب والنسيم الثمل على الأجفان وغيمة اللقاء البيضاء التي نبتت بغتة في الجلد الأزرق وراحت تتهادى حتى ارتوت ،،
وقد اتفقتا عيناك أن تسبقا الشمس في الغد إلى أمسي ،، تضحك لكل قطرة دم تبتزها شوكة قاسية في طريق الورد حيث تخومك ،، وتكتسي بحمرة الشفق وتمضي أماليدها الطرية تستطيل وتمعن في الصعود ،، وفي اختلاجها تكشف مفاتنها لدغدغة النسيم ،،
أما خدينة الزهر وصانعة الشهد فإنها كما لو كانت من أغلى بركات النعيم ،، فبريق الإيمان لن يخبو والعزيمة أبدا في تجدد ،، لـ سيد الأرض والسماء ،، سيد الأرواح والأجساد ،، تبارك اسمه وتقدس ،،
لله ما أروعه منظرا ورائحة وملمسا ،، على شفا أنفاس ماردة تشرف على ملتقى نظرة وجلة خجول ،، وغبطة طفل يرهقه السكوت ،، يريد أن يغني ،، أن يرنم ،، أن يصلي ،، أن يبوح عاليا بذاته ،،
- وهل صوتك رخيم ؟! ،،
- قد تجفل منه أنت ،،
- صل ولا تحترق ،،
ينطلق خافتا ،، مترددا ،، حتى شق طريقه إلى السماء وبات يملأ الفضاء ،،
تنغيما يمعن في الصعود والنزول ،، في الامتداد والانكفاء ،، وفي التلوين بين لفحة الشوق وفرحة اللقاء ولذة العناق ونشوة الانعتاق ،،
أما الضراعة ،، وأما الانسحاق والانكسار فلم يكن لها في صوت الطفل من أثر ،،
ولم يسأل عن وقع تورد الجمان على الوجنات في نفسه ،،
ولا الهواء الذي يحمل أنفاس البحر إذا كانت أعماقه قد عظمت منها حتى فتنت أعوام الحكيم ،،
تناجيه بلسانه ،، ولكنها هي التي تحرك لسانه ،، وكأنه إذ يناجيها ،، يناجي الذات بذاته ،،
هكذا ،، يشعرني أن الوجود في وجوده أعمق الإحساس ،، ولولا ذلك لما ناجيتها ،،
- أيكون حسك حيث لا كلمة تذيب الصيف ؟! ،،
- لا ،، ولكن الحب كذلك ملهاة من ملاهي الزمان ،،
- أيكون زمان حيث لا حياة ؟! ،،
- ولا تكون حياة حيث لا زمان ،،
ولكنني في نشوتي نسيت الزمان ،، ولولا أنني أحببت لما ثملت بجمالك ،،
ولولا أنك أحببتني لما عرفت الجمال ،،