الرجلُ الذي رأى ظِلَّه يذوب...
عن رجلٍ لم يهرب من ظلّه،
بل تبِعه، حتى ذابَ فيه.
بين أضلاعه، انفتحت أبوابٌ لم يكن يعرفها.
رحلةٌ بلا حقائب، بلا خرائط، فقط ذلك الإيقاع الغامض،
الذي يطرق من أعماق العظام...
إيقاعٌ يشبهُ نبضَ كوكبٍ مجهول.
كلما توغّلَ في الصحراءِ الداخلية،
اكتشف أن ما يبحث عنه لم يكن مفقودًا،
بل مغطى بطبقاتٍ كثيفةٍ من الضجيجِ الذي كان يسميه حياته.
الفهمُ العميق للنفس،
طلَّ كشمسٍ سوداء.
أضاء كلَّ الزوايا،
لكن ضوءه لم يكن دافئًا.
رأى الأثاث الخفي في غرف روحه:
كرسي الوحدة المهترئ،
خزانة الأسرار المنسية،
ومرآة الاعتراف المُغَبَّرة.
رأى نفسه عاريًا أمام نفسه... فخارت قواه.
في لحظةٍ واحدة،
سقط جدارٌ من زجاج،
فاشتهى حضنًا رمزيًا...
نظرةً لا تسأل، ولا تُجيب...
صمتًا، يُوضَع على قلبه، كقطنٍ طبيٍّ فوق جرحٍ نازف.
لكن أيادي العالم بدت من بعيد...
وكأنها ظلالٌ تمشي على جدار ذاكرةٍ متشققة.
العزلة العاطفية...
سجنٌ بلا قضبان.
يرى الناس، يسمعهم،
لكن كلماتهم تصل إليه خالية من رحيقها،
كأصدافٍ جميلةٍ، لكن بلا نبض.
حاول أن يبوح،
لكن كلماته كانت تسقط كحجارةٍ في بئرٍ معلّقةٍ في العدم...
لا صدى لها سوى تكرار صوته هو...
مشوشًا... وحيدًا.
شمسٌ ذهبيةٌ كانت تذوبُ جدران العالم الخارجي،
بينما في داخله،
ضوءٌ باردٌ ينمو، يُلقي بظلالٍ متحرّكةٍ لأشياءَ لا اسم لها.
الشمسُ تضحك على الشواطئ،
وهو في قلعته الزجاجية،
يلمس برودة فهمه الجديد.
التواصل صار لغزًا:
كيف تلقي حبلَك في بحرٍ تجمَّد فجأة؟
كل محاولة للكلام،
كأنك ترمي حصاةً في بركةٍ انكمش فيها الزمن...
وصوتك لا يخترق السطح الأملس.
لكن الرحلة... كانت تنضج في صمت.
النضجُ لم يكن ثمرةً حلوة،
بل صلابةً جديدةً في عظام الروح.
رأى توازنًا هشًّا،
جميلًا كنسيج عنكبوت في الفجر.
الذات لم تعد قلعةً منعزلة،
ولا الآخر بحرًا مستحيلًا.
صار بينهما جسرٌ من ضباب...
يمرّ فيه ضوءُ الداخل، ويُدفَّأ بشيءٍ من دفء العالم.
تعلمَ أن يحمل حجرَ الاعتراف في جيبه، دون أن يثقله.
أن يسمع في صمت الآخرين... هُتافًا خفيًا.
ذابت الجدران الزجاجية...
وصار هو رقيقًا كالهواء، مرئيًا دون أن ينكسر.
وفي تلك الشفافية...
وجد أن الحضن الحقيقي،
ليس احتضان الأجساد،
بل أن تَسكُنَ مع الآخر،
في نفس الفضاء...
تحت نفس السماء...
التي تُذيب الجليد بلطف،
وتُبحِر فيها السفن الورقية للكلمات،
من جديد...
فوق بحرٍ رقّ سطحه، بعد تجمُّدٍ طويل.
جهاد غريب
يوليو 2025