\
أخي الكبير خالد: دعني معك نتنحى قليلاً عن طريق (المقال) ونفتح زاوية أخرى ليس مكانها ببعيد (عنه) أي عن مكان المقال. أذكر أنني صادفت شخصاً كان يتمنى الالتقاء يوماً بي، ليس لأنني أعجوبة الزمان أو أبولو الفكر في زمن تشويه الأبجدية، ولكنه ـ جزاه الله خيراً ـ كان متعجباً من أمرٍ ما، وكتب العهد في قرارة نفسه على ألا تزول غمامة التعجب تلك قبل أن يجمعه بي القدر.
اجتمعنا بالفعل، وجاءني مرتبكاً، وكأنّ لسانه قد تحول لمضمار انتصار التأتأة على شجاعة الكلام السائل!.. قلت له: هدئ من روعك يا بني آدم، أتراني جريراً أم الفرزدق وتخشى أن أهجوكـ نهاية هذا اللقاء؟!
مضى الوقت بيننا، واطمأنت نفسه، فقال لي باستغراب: يا أخي.. لم أنت لست مثلهم؟! قلت: ومن هم هؤلاء الذين خالفتهم في رأيك؟ قال: الشعراء!. قلت له: هل لي أن أفهم سرّ هذا التعب والجهد المضني الذي كلفك الوصول إليّ؟ وهل لك أن تفتح ما في صندوق صدرك من غزاة وغنائم ومعارك؟ هيا يا أخي فقد واشكت كبدي على الإنفجار!
ما أراده المسكين كان مضحكاً ومخجلاً في الوقت نفسه. تخيل يا خالد بأنه اعتاد الجلوس إلى جوار صديق له في مقهى الإنترنت، هو صديقه الشاعر والكاتب، الأديب، المدقق، المنظر، المفسر، المبهرج، والمهرج والمسيطر.. والمعروف عنه أنه الوحيد الذي لا شريك له في الإبداع داخل ذلك المنتدى، وقد كنت أنا أحد أعضاء المنتدى ذاته. يقول لي أخينا (عافاه الله) بأن صاحبه (الشاعر المشهور) كان مرتاحاً قبل اشتراكي، وما أن جئت يا جمال إلا وقرر أن يتصدى لكل مشاركاتك. تعجبت فعلاً، وقلت لأخينا في الله: ما معنى التصدي إليّ؟ هل كنت في صفوف الفتح جهة غرناطة دون أن أشعر؟! أم أنني كنت قد اشتركت في زراعة الألغام على أبواب الفلوجة؟! ما هذا الهراء..!
قال: لا هذي ولا ذيك، لقد كان مغتاضاً كونك تحظى بردود كثيرة حول نصوصك على الرغم من أنك لا تردّ إلا على قليل القليل من مشاركات الأعضاء، وما أغاضه منك أكثر أنك لا تعره أدنى اهتمام، فقرر وقتها التصدي إليك!
وجه الغرابة يا خالد يبدأ من هنا:
قال لي هذا المسكين: تخيل يا جمال، في كل يوم أذهب معه إلى مقهى الإنترنت، ونمتطي جهازاً من بعد الظهر حتى أبواب الفجر (كون الإثنان بلا وظائف، وصاحب المقهى جار الشاعر)!.. نحمل كتباً ومراجع ودواوين ودراسات ونظريات، ولم يكن هذا الحمل مشاعاً قبل اشتراكك أنت في المنتدى، لقد أجبرته على أن يفعل مثلك، وأن يتكئ على الفكر والمرجعية الصرفة كي يضمن الحصانة لرده عليك، ويفعل مثل ما تفعل أنت، لأنك (كما هو يعلم عنك ومتأكد منك) لا تضع رداً إلا وجاء متمخضاً عن اقتباساتك المباشرة من بين دفتي الكتب التي تضعها فوق طاولة الجهاز!!.. قلت: ومن قال لك بأنني (فاضي وما عندي شغله عشان أتحول لبعير أو قافلة بدو رحل شايله كل هالحموله)؟!! يا أخي جزاك الله خيراً على وصولك إليّ، وأنا أثمن مجيّك، وبإمكانك أن تمضي الآن (الله يستر عليك وعلى صاحبك).
أصر على البقاء والإكمال!! فقال لي: أقسم لك بأنه بفعل ذلك، ولا يمكن له الإتيان بجملة واحدة داخل ذلك المنتدى من غير هذه الأحمال من الكتب! قلت: وهل الكتب تلك مخصصة للمقهى وللرد على المشاركات، أم أنه يقرأها في ما بعد؟! فأقسم هذا الرجل (والعهدة على الراوي) بأن صديقه الشاعر لا يقرأ بتاتاً، إنما تلك الكتب ما هي إلا سلاحاً يشهره في وجه ردودي أو مشاركاتي!.. إلى هنا واعتقدت بأنني سأستعيد كبدي قبل لحظة الإنفجار، ولكن (صاحبنا المصون) لم يشأ إلا ويباغتني بسؤال: هل تفعل مثله يا جمال؟! أرحني فقط، فهذا ما جئت إليه تحديداً، وردّك وحده من يزيل عن رأسي هذه الغمة!
يا خالد: صاحبنا (المريض) ذاك ليس ببعيد عن أصحاب (المقال) المعنيين في هذا الموضوع، فهم كثرة بكثرة الكتب والمراجع، ومن السهل أن تفتح ـ على سبيل المثال ـ كتاباً اسمه (معجم الأفكار والأعلام) للمفكر الرائع هِتشِنسون، وتجني من سلاله الوفيرة ما يعجبك من مصطلحات ومعلومات كافية لكتابة مجلدٍ كامل من المقالات اليومية، مع وجود عامل رئيسٍ يجعلك أحد (رواد المقال).. ذلك أنك في وطنٍ عربي يقطنه ما نسبته 87% أو أكثر من البشر المخمور بالغناء والرقص والفضائيات وكتابة الشعر النبطي!
يا خالد.. إني أورد هذه القصة كـ مثالٍ على أن الشاعر، والشاعر النبطي على وجه التحديد ـ أياً كان كنهه وكانت طاقته الإبداعية ـ أصبح قادراً على كتابة المقال بحرفنة يشار إليها بالبنان (بل بالجسد كله)!..، وتمكن من أن يؤلف الرواية، ويترجم رينيه تشار الذي استعصت نصوصه على أعرق المترجمين في العالم. إنه الـ (حيص بيص) يا خالد، فلا تستغرب أن يكتب شاعر نصاً مسرفاً في السوريالية البديعة، ويجرك إلى معالم ميتافيزيقة وما وراء الميتافيزيقيا، وحين تأتي لتصفق له مبتهجاً بولادة شاعرٍ يرتكب التجريب الجاد، إلا وتنصدم به حين يرد عليك قائلاً:
(مشكور أخوي خالد، والله اني رقيت سنود بردك)!!
في ذمتك يا خالد.. ما تموت غم من فرط هالبلا؟!
أذكر أنني قرأت قبل سنين من الآن جملة فلسفية لهيجل استحضرها المفكر والفيلسوف الألماني يورغن هابرماس في كتابه الرائع (المعرفة والمصلحة).. راجياً أن تكون هذه الجملة صالحة متماشية مع فكر هذا الموضوع النيّر الفارع للباسق خالد صالح الحربي، يقول هيجل:
"التعرف يتم تصوره كأداة. قبل أن يذهب الإنسان باتجاه الحقيقة عليه أن يتعرف على طبيعة ونوع أداته إنها فاعلة. وعلى المرء أن يرى فيما إذا كانت قادرة على إنجاز ما هو مطلوب منها، أي الإحاطة بالموضوع، والمسألة تبدو وكأن المرء يتجه صوب الحقيقة مسلحاً بالأسياخ والحصى".
نهايةً.. ليكن قلبك الكبير مسامحاً يا خالد، فقد عرجت على نقاط عمومية ولم أتدخل في ترقيمك وتجزيئك الواعي داخل الموضوع، بل وكتبت على عجالة من أمري ذلك أنني لم أعتد الكتابة نهاراً، بل أعجز في كثير من الأحيان عن النطق دون (عقب سيجارة).. فالوقت الآن يسبق أذان المغرب، ونحن في رمضان.
كل عام وأنت بألف خير أيها الحق الدامغ.. خالد صالح الحربي.
ملحوظة:
اكتشفت أنني أجيب على الجزئية رقم [2] لا شعورياً، مع أنني قد أكدت على عدم تداخلي الصرف مع حثيثات التجزئة داخل هذا الموضوع، والتي هي ثيمة الفكرة.. فهل يعني ذلك أنني كاذب ـ والعياذ بالله ـ يا خالد؟! وما مصير صيامي لهذا اليوم يا ترى؟!!
\