:
:: الفصل الثالث ::
غرفة بيضاء.. ورائحة الموت في محيطها.. سقفها ممزوج بجدرانها!
وصوت مزعج لجهاز ما متصل بها... أفاقت.. نعم أفاقت من غيبوبتها التي استمرت 3 أسابيع بعد ذاك الصباح وقبضة الجزع التي مرت بها...!
تذكرت الهاتف والصوت القادم منه... كان صوت نبأ رحيله... بحادث فاجأه وهو في طريقه إليها..
أفاقت لتعي مرارة ما تبقى لها...
حياة يسكنها الموت وذاكرة سينهكها الوجع..
وأنفاس تشهق بالإختناق كل حين... يا لقسوة القدّر... كم توّد ان تعود لذاك الغياب.. التلاشي والسفر بعيداً .. بلا ذاكرة!
مابهذا اليوم... لما لا يغيب عن ذاكرتها؟
انه يشعل بها نيران تجعلها تحترق .. ويجعل كل خلاياها ترتجف..
كيف يمر الوقت هكذا وما زالت تتنفس؟
انها لا تصدق نفسها... لم يعد هنا.. لم تعد نظرته بواقعها.. ولا أنفاسه في هوائها..
ضحكاته.. مقالبه وحبه.. حبه النقي الذي أسكنها الغيم لتحط بعد رحيله في حضيض النحيب وجذور الفقد!
اليوم .. وهي في طريقها للمنزل.. شاردة الذهن وكأن الجليد في وقتها يابى الذوبان!
دق الهاتف.. أيقظها من سباتها.. الأصوات كأنها تأتي من زمن بعيد.. وذاتها تعكس اتجاهها عنه!
- نعم أمي انا في طريقي إليكم.. لا تقلقي لا زلتُ أتنفس..
مضى اليوم كخطوة تتراجع بها لتقترب من القبر... وكفنها موشوم بآيات الوجع.. الذي
سأم الإلتفاف حول روحها في انطلاقة الحياة حولها!
شاخت في كينونتها الأشياء..لا نبض ولا أنفاس.. بنظرة شاردة لـ اللاشيء أمامها..
أسندت نفسها للوراء وأطلقت تنهيدة متعثرة!
خففت من سرعتها حين بدأت أسوار منزلها تقترب والنخيل في السماء امامها كأنها أشباح عملاقة تفتح اجنحتها لتحتضن أنظارها المشتتة..
دخلت وكانت أمها تنتظرها وعلامات قلق على محياها.. وحيرة لم تعهدها تعلو وجهها..
-أمي مابك أرى أمراً ما يسكنكِ,هل أنتِ مجهدة؟
ردت بتلعثم وكانها تخشى شيئاً ما:
-لا يا صغيرتي أنا فقط..قلقة جداً عليكِ.
-لا تقلقي يا أماه..ها أنا بجانبك ولا شيء يدعو لقلقك..اطمئني.
رافقت ما قالت بابتسمامة لا لون لها..الأم تعرف جيداً أنها ليست بخير..
-أمي سأذهب لتغيير ملابسي وأسترح قليلاً,هل تأمريني بشيء.
-لا يا عزيزتي.. لا تتاخري كثيراً سننتظرك بعد نصف ساعة للغذاء.
-حسناً أمي..
في طريقها لغرفتها التي تقبع في الطابق العلوي..لمحت جدتها وهي رافعة كفيها تُسبح وتستغفر على سجادة الصلاة ..
يتضح من وضع جلوسها أنها انتتهت من تأديتها..فقررت أن تمرُ لتطبعُ قبلة على جبينها الطاهر وتستشعر دفء الإيمان لربما يتبدد هذا الاحساس بالفراغ من ملامحها.
-جدتي الغالية كيف أنتِ..اشتقتكِ كثيراً..
-أنا بخير حين تلفحني أنفاسكِ العطرة يا صغيرتي.. كيف أنتِ وكيف مضى يومكِ..
أخذت تجر تنهيدة ثقيلة من صدرها..كأن سؤال الجدة جاء ملامساً للوجع الذي يسكنها..سابراً أغوار نفسها ومستنطقاً ذاكرتها المرهقة..فقالت:
-آه يا جدتي أشعر بأن ممرات ذاكرتي تضج بالألم فهي تعج به في كل زواياها.. ذكراه سعادة موجعة يا جدتي ..موجعة كثيراً.
-صغيرتي هذا قضاء الله يجب أن ترضي به..ونعمة النسيان ستتكفل ببث الحياة بقلبك من جديد..
-لا أريد الحياة جدتي.. بل أريد الموت لجسدي كما روحي التي أسلمت أنفاسها منذ رحيله..
أريد أن أكون بقربه هناك..فربما الموت ينصفني بسعادة تجمعنا مادامت الحياة لم تفعل!
-آه يا صغيرتي ..هل تريدين أن ترحلي وتتركي قلوب أحبتك تتبعثر حزناً وألماً؟
نطقت بذلك الجدة وكانت ترافق كلماتها دمعة استقرت على وجنتها النقية رغم تجاعيد السنين المحفورة فيها..
آلمت (أمل) تلك الدمعة الغالية من عيون جدتها.. لطالما كانت الأقرب إليها من الجميع.. بل هي اكثر من شعر بآلامها ووقف بجانبها...
فشعور الفقد مرّت به حين رحيل الجد الذي كانت حياتها معه مليئة بالحب الذي تفتقر إليه زيجات اليوم..
احتضنت أمل جدتها ومسحت دمعتها..رفعت وجهها وابتسمت حتى تزيل الحزن من وجه جدتها..ومضت لغرفتها..
يتبع..
...!