كان يروق لي اللعب في الشارع الضيق بين مبنى التعليم والحديقة المسورة ،، ومثل جميع الصغار كنت أرنو إلى أشجار السدر بالحديقة ،، أوراقها الصغيرة هي ينابيع الخضرة الوحيدة في حارتنا ،، وثمار النبق البنية مثار الأشواق والأحزان في قلوبنا الغضة ،، وها هي إدارة التعليم مثل قلعة صغيرة تحدق بها الحديقة ،، بوابتها مغلقة عابسة ،، في الليل دائما مغلقة ،، والنوافذ مغلقة فالمبنى كله يغرق في البعد والانطواء والعزلة ،، تمتد أيدينا إلى الأسوار كما تمتد إلى الشمس والقمر ،،
وأحيانا يلوح في الشارع الضيق ذو لحية مرسلة وثوب أسود فنهتف كلنا : عم صابر ،، عم صابر ،،
فيوقف عربته لنشتري منه بليلة أو بطاطا مقلية أو عصير مثلج كل في موعده الموسمي ،، كان يمر مرتان في الظهيرة لكي يدرك موعد خروج المدرسة الابتدائية وفي المساء وهو عائد لطريق بيته ،،
الجميع مولع بصابر ،، كل على رغائبة ،، فالصغار منا لما يقدمه من زيادة فيما نشتريه ،، والأكبر منا أصدقاء لابنه علي - يلقب بـ سملّكه - فكانوا يأخذون ما يشاءون برفقته ،، أما الأكبر منهم فكانوا مولعون ببناته ،، وعلى ذلك كان مجرد لفظ اسمه يحدد الأشقياء والضعفاء بين أبناء الحارة ،، فثمة من يناديه بالعم صابر ومنهم من يكتفي بصابر ،،
-لماذا نقف هنا كثيرا يا أخي ؟! ،،
-سنذهب بعد قليل ،،
ثم بنبرة ذات معنى :
-سأشتري لك آيسكريم من السوبر ماركت ،،
ولكن قلبي مولع بالشارع الضيق والنبق وحدهما ،،
وينهكني اللعب بتسلق الأسوار والأشجار ذات يوم فأجلس على الأرض لأستريح ،، فيصل إلي وقع أقدام وأصوات ميّزت من بينهم سملّكه وحامد ،، حامد من الحارة الأخرى الشرقية ،، معروف بنزقة وجموحة لدى الجميع ،، يتبعه عدد من الصغار ويعتد نفسه زعيما عليهم ،،
تبعت العصابة المكونة من " عشرون " فردا دون أن يشعروا ،، كانوا فيما يبدو يحضرون لمعركة مع حارتنا ،، فاحترت بين مواصلة متابعتهم أو العودة لتنبيه حارتي فاخترت ملاحقتهم ،،
مشيت ورائهم حتى وصلوا إلى ساحة الجفالي ،، فأخذ حامد يتحدث وهو يقرب سملّكة منه :
-أنتما الاثنان ستعبرون من منتصف حارتهم وكأنكم متجهون إلى الحديقة ليطمئنوا لعدم نيتنا مهاجمتهم ،، وسأذهب ومعي سملكة إلى بيتهم لكي نسرق الأكياس أما البقية فسينقسمون إلى قسمين ،، قسم في شرق الحارة وقسم في غربها حتى يحين موعد الهجوم ،،
كانت المعارك بين الحارتين قديمة تتوارثها الأجيال ،، من الخلافات في مباريات كرة القدم إلى المشاجرات الكبيرة الدامية ،، لم يعلم أحد من بدأها ولمن ستكون الغلبة فالحارتين كانتا على نفس القوة والشراسة ،، وفي تلك الليلة قرروا الهجوم - بما يناسب أعمارهم – باستخدام الأكياس البلاستيكية المملوءة بالماء ،، ولا فرق في مصدره إن كان من البحر أو من دورات مياه المسجد ،،
فكرت بوجوب العودة الآن ولكن من طريق آخر حتى لا يروني ،، سلكت طريق ملتو آمن يمر من الشارع العام ويتفرع عبر زقاق ضيق يصل مباشرة إلى الحديقة ،، ركضت إلى هناك فوجدت عربة صابر مركونة بينما هو يتحدث مع شخص آخر لم أتبينه :
-لقد صبرت عليك طويلا ،،
-،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
-في كل مرة تقول الشهر القادم ،،
-أعلم يا عم صابر ولكني لم أتصرف في البضاعة بعد ،،
-لديك مهلة حتى الأسبوع القادم ،،
انتظرت حتى غادر صابر خلف عربته وتابعت ركضي فوجدت المعركة قد بدأت والحارة غارقة بالصراخ والمياه ،،