ركوة حرف (2) الصلاة الأخيرة للملك
( آيات على وجه النار ) ( هاني جبر )
مولودٌ شاهق وصلاة أخيرة ، الوصف المناسب لديوان الشاعر هاني جبر ( الصلاة الأخيرة للملك ) . . .
(يقع الديوان في 119 صفحة ، دار فضاءات للنشر والتوزيع 2013 ـ تصميم الغلاف نضال جمهور) .
(ويشتمل الديوان على العديد من النصوص الفلسفية المعنى الصوفية الإدراك ، وفيه يسلك الشاعر بعدًا إنسانيًا في إظهار تجليات وصفية لِمشاهد تعمق الشاعر في نثرها للقارىء ،
وسط إلمامٍ معرفي يدل على وضوح رؤيته العميقة في ذاته ، كما ويبرز الجانب الثري للمخزون الثقافي المتعدد للشاعر ، وتمكنه من توظيف اللغة للوصول لهندسة نصوص مسكوبة بعناية ،
ويضم الديوان تجليات صوفية واضحة المعالم كما في نصوص ( آياتٌ علة وجه النار ، الخفي في الجلي ،الصلاة الأخيرة للملك ) وغيرها ، ويتبين مدى استحضار الشاعر للتراث في نصوصه مما أضفى جوًا من الرقي والتمكن في بيان لغته الخاصة به )
وقد اخترت من الديوان للقراءة النص الأول . . . وأعملت الفكر في تذوق وقراءة ستة مقاطع من مقاطعها التسعة . . .وأما المتبقي فهو قطعة صوفية تحتاج لجوٍ آخر من القراءة . . .
**(وكان أثناء تكوين السماء على عتبات القيامة)**
ويبدأ الشاعر قصيدته بحرف العطف الواو ، وكأنه يعلم بأن البداية ليست هي بداية الحدث بل هو بداية الوصف ،
وقد ألحق الشاعر حرف العطف بفعل ناسخ (كان) ،وهنا أتوقف عند هذا الفعل ، هل قصد الماضي أم شيئًا آخر أراد أن يقره ؟
وهنا يأتي التماثل في الحالة - من وجهة نظري- بين ( وكان) و(كنتم) التي جاءت في قوله تعالى ( كنتم خير أمة للناس ..) ،
فـ (كنتم) ليس معناها في فعل الماضي ، بل هي إقرار بالخيرية بين الأمم ، وقصد (أنتم) ، لكن الإعجاز القرآني والبلاغة تفوح من رائحة لغتنا العربية .
وكما الحال في مفردة (وكان) هنا إقرار واضح وبداية سرد لحكاية مفادها وليس استذكارا لماضٍ حدث ! وهذا تجلٍ واضح في بدء التركيبة البدائية للنص ، يختلف تماما عن حالة عدم وضع الواو في أول الجملة!
**(أثناء تكوين السماء)**
، وهنا يقر الشاعر بحقيقة يقينية تمر أمامنا ، القرب الزماني بين الخلق التكويني وبين الاقتراب من نهاية الحياة الأزلية للتكوين !
ويأتي الخبر اللاحق دون استمالة، بإقرار آخر بتكوين تابع للتكوين الأول وهو تكوين السماء لكني أتساءل عن وظيفة ظرف المكان (على) ، لكن ما ألبث أن أعمل الفكر وأقول بأن الأصل التاريخي للعلاقة بين التكوين والقيامة ،
هو الاختبار الرباني للإنسانية ، فجذور ما أعتقده أن تكوين السماء كان تابعا لأمر الله تعالى لآدم وحواء ( اهبطا) وما كانت الفترة الزمنية التي يعلمنا بها الظرف (على)إنما هو تبيان خفي ونتيجة لمخالفة آدم عليه السلام لقصة الشجرة ،
وكأننا أمام تجل في العقلية التفحصية أن مابين تكون السماء والقيامة هو تكفير عن مخالفة الأمر الإلهي ، فمن ينجح فسيعاد إلى منبعه الأول ( الجنة) ومن يسقط في اختبار الرجوع فلا مكان له ولا عودة هكذا يجب أن تتذوق الحروف
**( تكوينٌ آخر لتجلي الخليقة ميعاد الغياب )**
يختص الشاعر التكوين الآخر بتفرد المفردة لتجلي الخليقة ، فهل هناك تجلٍ للخليقة !
ونحن نعلم أن التجلي يأتي للخالق لا للمخلوق ، إلا إذا كان القصد هو كينونة الخلق نفسه .
إلا أن الصور الجمالية هنا تتفاعل مع صنعة الخالق لخليقته التي تحترف إبداعًا ما ، لا نعلمه ، وأحسب أن الشاعر هنا ، أراد التكوين الإبداعي للخالق للكون بأكمله ، من تجانسٍ عجيب وخارق للتجلي .
وتأتي مفردة ( ميعاد الغياب) ، بتضادٍ تصادم بين الميعاد (الذي يكون معلومًا ) ، وبين الغياب ( الذي يأتي دون موعد وفي فجاءة)!
فهل قصد الشاعر بهذا اللفظ أن الكون في حالة غياب وقتي مؤقت عن الموعد الحقيقي الذي يقترب من عتبات القيامة !
مقطعٌ خطير يكشف مجهودًا فكريًا لصباغة الجملة الشعرية !
**( لضفاف الشرقِ على تضاريس الريح )**
وتتلاحق التكوينات ، والتي يرمز الشاعر بحرف ( اللام) ، وقد وُفق توفيقًا حسنًا في اختصار التكوينات ، حيث لا يستساغ كقيمة جمالية تكرار مفردة (تكوين) ،وإلا لأصبح النص متخمًا وغير منطقي التركيب ، وتلك نقطة تحسب للشاعر .
ثم يستخدم الشاعر مفردة ( الشرق) ، لتأخذنا إلى إبعاد أخرى ،
فهل أراد الشاعر بالشرق الجهة المكانية ، أم حال ( أمة العرب ) ، بالمفهوم المتداول ، آخذًا بنا إلى رحلة فكرية بمفردة ( تضاريس الريح ) ، مفسرًا ( الشرق ) ، فهو إقرار لحال أمةٍ كوتَّها العصور ، وتقاذفتها الريح بعنفٍ ، لِما آل إليه الحال ، من هزَّات وأحوال متقلبة بين المد والجزر !
**( للساكنين تحت انكسار الحديد)**
ويبدأ تكوين ٌ آخر ، وهو تكوين السكون ، وتتبادر إلى الذهن احتمالات مفتوحة ، فهل يقصد الشاعر حالة السكون والخضوع ويلصقها بحالٍ لجماعة ما ، منقادة .
أم أنه يقصد حالتهم بمكوثهم الدائم .
ونلاحظ هنا ظرف المكان ( تحت) ، فهو ظرفٌ مكاني يعني القهر وسطوة المتمكن من جهة أخرى .
وما تلبث أن تنكشف الصورة المؤلمة في ( انكسار الحديد) ، صورة فظيعة للخنوع التام ، تحت وطأة الإذلال بل الغلو في الصورة التي تنقل المشهد ، على أي حال فالخضوع هو السمة المشتركة للاحتمالين .
**( والنائمين من شبقِ السراب إلى السرابْ)**
وهنا تجلٍ غريب نوعًا ما ، فهل للنائم تجلٍ!
هل رمز الشاعر للموت بالنوم الذي نعرفه ، كما يقال ( النائم ميت) ، أم أنه قصد النوم بمعنى الغفلة .
ويمكن أن تكون الجملة كالتالي ( والغافلين من شبق السراب إلى السراب ) ، والغافل عما يدور حوله هو حال تيهٍ وضياع وعمىً ، لا مكان له إلا في حال الاستهتار والعشوائية ،
ونحن نعلم أن الاستهتار سمة اللاوعي والعبثية ، وهنا يمكن أن يتسق هذا مع مفردة ( السراب ) ، ويحضرني القول القرآني (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) ، ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث) ،
ولا عجب أن يكون التيه المستهتر إدمانٌ بدرجة الوله به ، وهنا استخدم الشاعر صيغة المبالغة ( الشبق) ، وهو التلذذ الشديد ، التلذذ باللاوعي إلى اللاوعي . . .
ونتساءل لِم انخفض سقف الشبق ( التلذذ) ، لدى النائم ! أحسب أن النائم قد يتململ وقد يستيقظ ، لكنه ما يلبث أن يعود لنومه ،
لكنها لن تكون كاللذة الأولى في الاستغراق الأول ، ولذا خفض الشاعر السقف من التلذذ الشديد إلى حالة التلذذ المعتاد .
مقطع غريب في تركيبه وصوره ، لكنه وجه استغراب بالتركيبة إعجابًا لا استنكارا .
**( كانت الآخرةُ مساءَ الثنائيةِ لطقوسِ البعث فينا)**
وهنا صيغت الجملة الشعرية بصياغة فلسفية عميقة ، هذا ما أستشفه من قراءتي ، وتأتي ( كانت الآخرة) لتعلمنا عن واقع حدث !
يبدو ظاهريًا ذلك ، فالفعل ( كان) يفيد الحدوث في الماضي ، أم مفردة الآخرة ، فليست كذلك ، فالآخرة اسم مستقبلي لحدث لم يقع بعد ، فكيف يخبرنا الشاعر بحدثٍ غيبي !
لكنني متيقن أن هذا المشهد هو تتابعٌ للمشهد الأول ،ألا وهو إرهاصات الآخرة ،
بدأت عند نزول سيدنا آدم عليه السلام ، فبمجرد نزوله من منبعه تبدأ تلك الإرهاصات ، وعبر عنها الشاعر لفظ (مساء) ، الذي يميل إلى نهاية اليوم في منظورنا البشري التي يتوقف عند حدٍ ما للتخيل والاحتمال العقلي .
وتأتي مفردة ( الثنائية) ، التي لم يحدد الشاعر فيها محتوى هذه الثنائية ، فهل قصد الشاعر من لفظ ( الثنائية ) ( الحياة والموت الأول ) أم ( الدنيا والآخرة ) أو ( الولادة وبداية النهاية في الإحياء الأول ) !
لكنه ما يلبث أن يتدارك عدم الوضوح في ( مساء الثنائية ) ، ويمنحنا فرصةً لفك لغز ( مساء الثنائية ) ، ببيان سردي لكنه فلسفي ،
هنا تأتي لام الخبرية ( لطقوس البعث فينا) . . ليتضح بعض التكشف للرمز ، لكننا أيضًا نُعاود تفسير الإخبار ( طقوس البعث ) ،
فالبعث لا يأتي إلا بعد انتهاء فترة من الخمول الوقتي ( الموت) ، وهنا يتضح قصد الشاعر في أنه أراد بــ ( مساء الثنائية ) هو ( الحياة والموت والإحياء الأخير ) ، ونستبعد بذلك فكرة الثنائية ( الدنيا والآخرة ) مبينًا ذلك في مفردة ( فينا ) .
**( حتى يقومَ ما تفتحَ من صلصالٍ تدثرَ بكفَّ الأرض)**
مشهدٌ من مشاهد الإحياء ، وكلمة الفصل في هذا المشهد ( حتى) ، التي استعاض بها الشاعر عن ( إلى أن ) ، التي تفيد الانتهاء ، ويبرز لنا الفعل ( يقوم ) ،
لبيان انتهاء المكوث في موضع السكون ،وهنا يكون القبر حاضرًا في هذا المشهد ، باعتباره الحاضنة الطبيعية لحالة الموت الأولي ،
لكننا هنا أمام تساؤل خطير ، لماذا لم يقل الشاعر ( حتى يقوم الصلصال المتدثر بكف الأرض) ؟ لماذا اختار ( ما تفتح) ؟ وهل هناك موتى لن يقوموا !
وربنا يقول في كتابه (ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) !
لكنني أستذكر نصًا قرآنيًا آخر بقوله تعالى (فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) ، فما هو الانسلال ؟ وهل هو وصفٌ لحال التفتح الذي يأتي في مسار الجملة النصية للشاعر ؟
ولا نطيل التساؤل ، فعند النظر إلى تفسير معنى (ينسلون) ،
يتبين أنه حال الإسراع في البعث !
ومن البديهي أن يتوقع القارئ أن تلحق (ما تفتح) بمفردة توافق حال التفتح ، كالأزهار أو نباتات ،
لكن الشاعر بمهارة ودراية بالنصوص القرآنية ، التي تبين عجينة خلق الإنسان بقوله تعالى (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون) ، إذن هو وصف بياني موفق يحسب للشاعر .
**(تدثر بِكف الأرض )**
تبرز الصورة الجمالية في بدايتها ( تدثر) ، فكأن الصلصال وهو العجينة الإنسانية ، تدثرت بكف الأرض . لكننا نتساءل كيف لحالة الموت أن تُدثر نفسها وهي فاقدة للحركة !
وهنا لا نريد إغلاق الوصف بالفعل ، فلربما عنى الشاعر الحالة العامة للموتى ، والتي تعني هنا خصوصية اللفظ ، لكنها تفيد عمومية الفعل الجمعي !
**( وصباح لم يكن كالعبثيةِ في ولادةِ الأزهارِ على وجهِ النار)**
مشهدٌ دائري رائع دالٌ على حرفية الشاعر ، فالوجه الأول كان المساء ، وبدوران يتحول للصباح ، وكان من الممكن أن يفشل التدوير بقول الشاعر مثلا ( وقيام ) ،لكننا نعي أننا أمام شاعر فلسفي ، فلا مجال لهفوة مبتدئ أو وصفٍ بدائيٍ في النص . . .
ونعلم تمامًا أن عدم وجود ( أل التعريف) في ( وصباح) هو شيء مقصود .
( لم يكن كالعبثية) ، إقرارٌ بأن كل شيء عنده بمقدار سبحانه ، فلا مجال للعشوائية أو الصدفة ،
ويأتي وصف عملية ولادة الأزهار بأنه لا يمكن أن تكون منظومة جمعية منتظمة الحركة ، لاختلاف عوامل متباينة ، كانتظام الري والتعرض للشمس ، ..الخ مما نعرفه من عوامل النمو.
لكننا نود أن نعرف ما الذي يقصده الشاعر باقتران ولادة الأزهار العبثية على وجه النار ! وما هي النار التي يقصدها ، وهل تولد الأزهار على وجه النار ! وهل أراد الشاعر بالنار الحركة المشتعلة من القيام والنهوض المتسارع للموتى وما يرافقها من مشهد مهيب !
وهنا تأتيني لمحة خاطفة ساقها لي إعمال العقل ،
هل أراد الشاعر انتفاء تأثير ذلك المخلوق من النار ( إبليس) !
وكأن هذا الصباح صباحٌ مختلف لا يحتمل تدخلاً من ذاك الرجيم ، ورمز للبشرية بالأزهار !
إن كان هذا القصد ، فهذا إبداعٌ مخيف ، يُحسب للشاعر ، وتُحسب كذلك اللمحة لي في قراءتي للنص .
**(في البَدءِ غطى الدخانُ وجهَ قيامتِنا)**
وهنا يبدأ رسم اللوحة الدرامية ، كأنه بداية افتتاح الستار للملحمة الأوبرالية للحدث العظيم .
يغطى المشهد بالدخان الكثيف ، الذي عرفنا حجمه من مفردة ( غطى) ،
والتغطية تعني انكفاء الحدث بكليته ، فالخطب جلل ، ولا مكان للقطات أقل قسوة !
وأحسب أن الشاعر لم يُرد بمفردة ( الدخان) الدخان بمفهومه المتداول ، بل هي تورية متقنة لمسار الحدث العظيم ، لكن لنُعمل الفكر قليلاً فيما يقصده الشاعر ،
هل يقصد من خلال ما يبثه لنا في هذا المشهد ، حالة الهرج والمرج المشبعة بالرعب من وقع الحدث .
وهنا أستذكر حديث الرسول الكريم لأم سلمة ( يحضر الناس يوم القيامة عراة حفاة، فقالت أم سلمة: فقلت: يا رسول الله، واسوأتاه ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: شغل الناس، قلت: ما شغلهم؟ قال: نشر الصحائف فيها مثاقيل الذر, ومثاقيل الخردل) .
أم أن هذا الدخان هو حالة اللون الحاصلة بعد الزلزلة الكبرى ، وهنا يتبادر للذهن في هذا المشهد سورة الزلزلة .
لكن الشاعر في نهاية التوضيح الأولي يبرز تخصيصًا له بقوله ( وجه قيامتنا) .
فلعله قصد حالة الهرج والمرج ، والتي خصصها لحالة البشرية . بالرغم من أن ذلك لا ينفصل عن حالة الكون التي كان من نتائجها الحالة المذكورة ( الرعب ) !
**( لفوضى الموت في انتزاع الروح من العدم)**
وهنا أتساءل هل للموت فوضى! حالة الموت حالة قدرية منتظمة وليست عبثية (كل نفس ذائقة الموت(
العبارة فلسفية تطاول التجلي العميق لفكرة البعث من العدم
. ويبدو أن الشاعر هنا عنى الفوضى هنا ب(الهلع) فتكون العبارة ظاهرة في مفردة (هلع الموت) ، لكن الفلسفة المركبة لثقافة الشاعر ، لا تستسيغ إلا التشبع بالجو الفلسفي المتقن لحالة البعث والجو العام له
. وتتداخل هنا صورة عميقة في الصراع الدراماتيكي المتشابك،فمفردة (انتزاع) تعلمنا بحدوث صراع بين (فوضى الموت) وبين فكرة البعث في ( انتزاع الروح من العدم) !
وهنا تأتيني لمحة خاطفة . . . هل كان الأجمل أن يستبدل الشاعر مفردة ( فوضى الموت) بقول ( لتفويض الموت في انتزاع الروح من العدم)، كانت الصورة الدرامية ستكون أقوى وأقسى في التفاعل مع الحدث العظيم
. لكننا نعلم أن الشاعر يُوظف أوصافه بالكيفية التي يريدها وليس لنا إلا استشفاف وتنقيب عن فحوى الصور الجمالية في النص. (انتزاع الروح من العدم)
وهنا أتساءل أيضًا هل قصد (العدم) بأنه الانتفاء العام للحياة أم أنه انتفاء للحركة فقط . وأحسب أن الشاعر قصد الحركة، وتأتينا لمحة مركزة لمعنى العدم. وهو الساكن الماكث دون حركة ،
ولنتذكر بان الإنسان في قبره يتآكل جسده بفعل العوامل البيولوجية للأرض،ولا يبقى من إلا العصعصة التي نعلمها من خلال التراث الإسلامي ، والتي أُثبتت علميًا لاحقًا ، ومنها تبدأ مرحلة النشور بعد إحياء هذه العصعصة للإحياء.
**( للعابرين فوقَ جلدِ النار)**
ما العبور الذي يقصده الشاعر هنا ؟ أهو العبور من المرحلة الانتقالية من الموت المؤقت في القبر إلى الإحياء ؟
(للعابرين فوقَ جلدِ النار) . . .
توقفت طويلاً عند هذا الوصف ، وتفكرت كثيرًا فيما يقصد الشاعر بــ ( جلد الماء ) !
وكنت آمل أن تُشكل مفردة ( جلد) ، أهي ( جَلدِ الماء ) أم ( جِلدِ الماء ) !
فإن أردنا التفحص على اعتبار أنها ( جَلد الماء ) ، والجَلد في اللغة (الصَّبْرَ ، القُوَّةَ ، الاسْتِمَاتَةَ) ، وتتضح الصورة بهذا المعنى في مفردة ( الماء) ، فالماء هو المكون الأساسي للحياة ، بقوله تعالى ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) ، فما نرى شيئًا تدب في الحياة إلا ويكون به ماء ، باختلاف النسب ، وإن لم نلحظه في حالته الظاهرية ، وكأن الصورة تقول ( للعابرين في التكوين المتجلي لبدء الخلق الجديد بعد الموت المؤقت ) !
وأما إن أرجعنا الوصف لــ ( جِلد الماء) ، فهل يقصد الشاعر الحالة الخفية التي تقاوم ذلك الدخان الذي يغطي المشهد والبشرية كي يكون التهيؤ للعبور .
ولنتذكر المقطع السابق ( وصباح لم يكون كالعبثية في ولادة الأزهار على وجه النار ) ،
لدي إيمان بأن الشاعر قد أتي بالتضاد ( وجه النار) ، ( جلد الماء ) ، ورمز لها بالحدث الكلي لصراع الضدين في المعنى وهو ( انتزاع الروح) !
خطير حدسي في استجلاب المقارنات . . .
أتوقف عند قراءة هذا المشهد !
**( للخالدِ الأبديّ في تابوتِ سكينتِنا)**
ما الخالد الذي أراده الشاعر ، ولماذا قرنه بــ ( تابوت سكينتنا ) ، هل هي النفس البشرية ؟ أم العمل الإنساني المثمر الذي هو حصيلة حياة سابقة ، والتابوت مكانٌ لانتفاء المشاعر فكيف تولد منه السكينة !
إلا إذا كان التابوت معلمًا استعاريًا لمكان المكوث ، فكانت السكينة هي مبعث الخلود الأبدي في ذلك .
والسكينة لا تكون إلا للنفس المطمئنة الثابتة الراسخة في التكوين المتجلي للإنسان . . .وأحسبها هي . . .
**( والصبحُ وراءَ الطورِ)**
لسنا هنا أمام صُبحٍ كصُبحنا ! ، فالصبح ليس إلا حالة لاقتراب الشمس من الظهور ، وليس حالة إشراق ، وهنا نتوقف عند ظرف المكان ( وراء ) ، فالمعلوم أن الصبح ليس كائنًا ملموسًا ، حتى يُحجب ! أو أن يكون وراءه شيء ما ! فما هو الشيء الذي يحجب الصبح !
وهل الطور كما نفهم ( جبل) أم أنه مفردة خفية ، قد نفهم معناها أو نفك طلاسمها من خلال التاريخ ، أو الأساطير القديمة !
أم قصد الشاعر الطَّور الذي هو الحالُ والهيئة !
**( يمضي إلى ما ليسَ يعرفُ)**
وهنا صورة جمالية أحسن الشاعر في بيانها ، فالصبح ظاهرة انتشار ، ونأخذ جانب الأرض كوننا نعيش عليها ، فهو ينتشر في بقاع الأرض كلها ، التي تتغير كل يوم ، فهناك جزرٌ تظهر ، وأبنية تُشيد ، وبقعٌ تختفي لتغرق وتغمرها البحار وهكذا .
وعندما تلتحم الصورة المجملة في المقطع (والصبحُ وراءَ الطورِ يمضي إلى ما ليسَ يعرفُ) . . .أي طور هذا ، وأي دلالات يريد أن يخبرنا الشاعر بها عن هذا (الطور) !
**( في مطلق الوحدة والوجع)**
استخدام مضاعفات الشعور المكثف ، في تصوير الحال ، محاولاً الوصول إلى السقف الأعلى بمفردة ( مطلق) هو توظيف ماهر ، بل لم يكتف الشاعر بذلك ، بل أرفق مفردتين خطيرتين إن تجمعتا في مكان واحد ( الوحدة والوجع ) .
ويبدو أن الشاعر أراد التأكيد على جمع هاتين المفردتين ، وعدم الاكتفاء بواحدةٍ دون الأخرى . فـ (الوحدة) لوحدها قد تكون حالة يبتغيها الحال ــــ انطوائية ــــ محمودةً بعيدًا عن المزعجات الحياتية ، وهنا أفصل المفردة بعيدًا عن النص ، وكذلك (الوجع) ، فقد يكون الوجع نابعًا من المخالطة والتعامل الحياتي ، لكنه ساق هاتين المفردتين ليدخلنا في جوٍ كئيب نازف ، قد بلغ مبلغه .
**( يتلو علينا بكاءه)**
يبدأ التجلي للمقطع الذي يُباشره الشاعر ، فكيف يتلو الصبح بكاءه !
والتلاوة مصطلح قرآني نعلمه ، ومن أبجديات عملية التجويد ، وقد يتبادر للذهن أن التلاوة تكون بصوت مسموع ، لكن الأصل في التلاوة هو الصوت المرتفع ، فللقارئ أن يتخيل المشهد من خلال تبيان ذلك !
ونحن هنا أمام مشهد مهيب ، فهذا الصبح الذي أقسم به الله ( والصبح إذا تنفس ) ، ولا يقسم الخالق بمخلوقٍ إلا لعظم شأن المخلوق !
فما الذي أعيى هذا الصبح العظيم ، كي يتلو بكاءه ! يتلو وجعه ، وكيف يكون حال البكاء ، وما السبب !
أيكون بكاؤه إيذانًا بانتهاء مرحلة خلقه ! أم انتهاء مرحلة ما قبل يوم القيامة أو أثنائها !
وهل كان انتهاء مرحلةٍ قد وُكل لها بتنفسه والذي يترافق مع الحياة الدنيوية ، وبالتالي نهاية دوره !
وهنا لمحة أتخطفها على عجلٍ مخافة أن تتفلت مني . . .
هل سيكون هذا الصبح في الحياة الآخرة ؟ أم سيكون هذا الصبح ليس كالصبح الدنيوي ، وهذه اللمحة جاءتني مستذكرًا حال الجنة ( ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر ) ! أيكون هذا سبب البكاء ؟ وما الفرق التعبيري في أن يكون ( يقرأ علينا بكاءه أو يخيم علينا بكاءه أو يمطر علينا بكاءه) .
**( يفتحُ الأبوابَ للعينِ الغارقة في ضَجيجِ رحلتنا)**
ويأتي هذا المقطع نتاجًا حتميًا لتلاوة البكاء ، ويبدو أن بكاء الصبح ، هو ولادة لحقيقة يريد الشاعر ألا نغفلها . وهو قطفٌ لما ينتج من خلال مفردة ( يفتح ) ، الذي تعلمنا بالغلق ! فلا ريب أن تنفتح الأبواب كتجلٍ أخير للصبح !
للعين الغارقة في ضجيج رحلتنا
دومًا تصنع ( أل التعريف ) معنىً آخر للمفردة ، فلم يقل الشاعر ( لعين نازفة ) ، لكنه هنا أراد تجلٍ آخر ، لفتح الأبواب ، لمصدر الرؤية ، أو المشهد العام المسيطر عليه ـــــ الهرج والمرج ــــ والذي استعار صفته ـــــ ضجيج رحلتنا ـــــ لرحلة النهاية ، لمن يرتحلون للمستقر .
**( تعبثُ فيما تهاوى من إيمانِ الخطايا العالقةَ في الطينِ الحرامِ)**
وما نعلم لمن مفردة ( تعبث) للأبواب أم للعين العالقة ؟
لكنني أستشف أنها للعين الغارقة ، التي تمارس لعبة الترقب والمتابعة والاصطياد.
وهل هناك اصطياد يتهاوى !
نعم . . .حيث نرى هذا المعنى في قول رسولنا الكريم (يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مَا يَزِنُ مِنْ الْخَيْرِ ذَرَّة ) . وهنا نعلم لِم اختار الشاعر مفردة (إيمان) بدل (الإيمان) ، فهو يعطي أملاً في بعثٍ يُغالب الخطايا العالقة ، الدالة على عدم التمكن من الإنسان ، ورمزَ إلى الإنسان المخطئ بــ (الطين الحرام) ، ذلك أن منشأه من الطين ، وأما صفة الحرام فهو صفة المغمس بالخطايا .
**( ويخيمُ على الأسوار ليلٌ سرمديٌّ)**
يستهل الشاعر هذا المقطع بــ (واو) العطف ، استمرارًا للمشهد الدرامي للمشهد الكلي ، وهو يتابع إبحاره بأسلوب مميز .
( ويُخيم) مفردة تفيد الفعل المضارع المستمر ، وما لاحظته هو مداومة الشاعر على استعمال الفعل المضارع ، وكأن المشهد حاضرٌ في التركيبة الفكرية للشاعر . . . فأي تجلٍ هذا !
( على الأسوار ) هو مشهد الحشر الذي يكون فيه المشهد الدرامي ، لكنه مشهد أخير قبل الملحمة الأخيرة !
( ليلٌ سرمدي) والليل حال العتمة ، لكني أحسب أن الشاعر لم يقصد المعنى المتعارف عليه ، إذ أنه يبحث عن استعارات يمكن للقارئ أن يستوعبها ، برغم قصده لشيء آخر .
ويختار هنا وصف ليله بصفة مفجعة ( سرمدي) دائم لا انقطاع فيه ! وكفهمٍ خاص بي أحسب أنه أراد الانتظار الذي يحسه المتواجدون ، فهو لهم ليلٌ يريدون الانعتاق منه .
**(للجاثين من تعب القيامةِ للقيامة حول الحوضِ)**
سردٌ للفئة التي يستهدفها هذا المشهد خاصة ، لكنه بالتأكيد يقصد الجمع الكلي .
وهنا يختار الشاعر مفردة دقيقة لتبيان حال أولئك الذين أرهقهم ما هم فيه ( للجاثين) وهي مفردة متوقعة في ظل هذا المشهد الرهيب .
( من بعض القيامة للقيامة) ، نقلة طردية للعلاقة بين بعث القيامة وما نتج عنها من قيامة صغرى ، عرف مستقرهم الرضي ، وما يكون الحوض ملاذًا لهم من الإرهاق الذي عانوه من هول الموقف .واقترابٌ من تماثل للآية الكريم (كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) .
الحوض هو استراحة هانئة لهم . . .
**( للساجدينَ على بساطِ اليقينِ في الغروبِ الأخيرِ)**
وهؤلاء بلا شك الذين رأوا مقعدهم في الجنة ، في الحياة البرزخية ، حين مكوثهم المؤقت ، ففي القبر يُفتح للميت مقعده من الجنة أو النار. وبذلك يكون حالهم هو الاطمئنان اليقيني ، الذي ينقلهم بهناءة في الغروب الأخير ، الذي تكون نتيجته الجنة التي لا نصبَ فيها ولا تعب .
إذن فهذا المشهد له خلفية عميقة في وجدان الشاعر . . .
**( من عبءِ الانتظار على بوابةِ الموتى)**
وكأن الشاعر هنا يختص هؤلاء المتيقنين بالنجاة والمقام الكريم ، بأنهم لا يريدون أن يظلوا كما الآخرين ، يريدون حياتهم التي رأوها ، وفرقٌ بينهم وبين الآخرين في الحال والوصف !
**( لتقمصِ النعيمِ في وجهِ وحدتِنا وجهَ النار)**
وهذا المقطع يرجح تمامًا ما فكرت به ، هنا يكشف الشاعر للقراءة بعض الرموز التي عانى المتلقي من تفاسير عديدة ، تختلف باختلاف الثقافة والإلمام بتفاصيل متميزة طريقة الكتابة العميقة المحيرة ، وكأنه يمنحنا بعض الراحة من عميق التفكير في التراكيب المشبعة في النص .
نتيجة مريحة للعقل . .
**( والآن لا شيءَ يجمعُنا سوى الصحراءِ)**
صورة تضاد واضحة في هذا المقطع ، فالجمع يكون في مكانٍ محصور لا فسحة فيه ، وإن كبرت المساحة ، والصحراء مكان للتيه والتشتت !
فلماذا قصد الشاعر التجمع في نقيضه !
وكعادة الشاعر في اختيار مفرداته ،هناك عمق في هندسة النص ، فهل كانت الصحراء هي حالة العراء لدواخل البشرية ؟ هل كانت حالة الانكشاف التام لأعمال العباد!
**( تحتَ صراطٍ تشكلَ في جُلِّ عتْمَتِنا)**
ويأتي ظرف المكان ( تحت) إعلامًا لحالة الانكفاء والخضوع ، لكننا نستوضح معنى الصراط هنا ، هل قصد ما نعلمه من تراثنا الإسلامي ( أدق أرفع من الشعرة واحد من السيف ...الخ)، وتشكله كالهلال ؟ ولماذا وظف الشاعر هذه المفردة ، مع وصفٍ يتنافى مع امتداد الصراط ، لماذا لم يختر شكلاً آخر من هيئات القمر ، أكثر إنارة في العتمة !
هل عنيَ الشاعر بهذه التركيبة ( الهلال) ، بأن الساقطين في جهنم كُثر ، وما جاءت هيئة الهلال إلا للدلالة على قلة الناجين من هذا المشهد المهيب !
أم أن تشكله هو أمثلُ لأولئك الساجدين الجاثين حول الحوض .
**( حتى تتوبَ الخيامُ من وأدِ الرجالِ)**
والمعلوم أن الخيام حالها للتغطية أو الإيواء أو الاستظلال بها ، فعن أيةِ خيامٍ آثمة يتحدث الشاعر لتستحق الإثم بقوله (تتوب) !
ولِم اختار الرجال دون النساء ! ، مع أن مفردة ( الوأد) تراثيًا ملتصقة بالإناث الصغيرات !
هل استعاض الشاعر الجنس البشري بنوعيه ، في هيئة المجموع لآدم عليه السلام ، فكان استخدام مفردة (الرجال ) ، وهل أراد بالخيام أبواب جهنم التي تحجب الماكثين فيها من أيةِ فرصة للنجاة منها !
تخيلات واحتمالات التفسير يفتحها الشاعر في هذا النص الكثيف بالصور التركيبية والتراكمية . . .
هذا النص الذي اكتفيت عند هذا الجزء منه ، غارقٌ في الملحمة الإنسانية الكبرى والتجلي للأحداث ، منذ أن وصلني ديوان الشاعر ، مررت عليه مرور المتفحص ، فوجدت فيه حالة نورانية ممزوجة بالهندسة المتقنة للنص ، وعمقًا لغويًا في انتقاء المفردات وتدويرها ، وملامح جمالية جمة . . .
شكرًا للشاعر هاني جبر هذا الإبداع . . .
تح يتي
القيصـــــــــــــر