مع انطلاق فيلم كازينو رويال للعميل الانجليزي 007 في جهاز الاستخبارات البريطانية " جيمس بوند " تمنيت فعلا لو كان المنتج الراحل " آلبرت بروكلي" على قيد الحياة، ربما لكان مط شفتيه في استخفاف وابنته باربرا تختار الممثل الانجليزي " دانيال كريج " ليقود الشخصية، وتعفي الممثل " بيرس بروسان" . فهذه الخطوة كانت ستكون ناجحة فعلا لو تقدم لها شخص يناسب خطوط بوند العريضة التي وضعها الكاتب الراحل أيان فليمنج مبتكر الشخصية عام 1953 عندما جعل بوند شابا فارع الطول في غاية الوسامة ( وهذه لا تنطبق مع كريج إطلاقا)، تحبه النساء، ويعشق الخمر، يمزج بين البرود والتعليقات الساخرة التي يواجه فيها الموت دائما.
المبرر الوحيد الذي ساقته باربرا بروكلي في عزل بيرس بروسنان هو أنها ستقدم الرواية الأولى التي كتبها أيان فليمنج لذلك هي بحاجة إلى وجه جديد لم يعتاده الجمهور لكي يقدم بوند في بداية التحاقه بجهاز المخابرات وترقيته إلى رتبة العميل 007.
كل هذا جميل ورائع من ناحية المبدأ، ولكن وعلى عكس ما تقوم به السينما الغربية في المعتاد استخف الفيلم بعقول المشاهدين كثيرا، فبوند لا يجيد اتخاذ القرار الصح، وكل تصرفاته رعناء تسببت في إحراج حكومة صاحبة الجلالة وعمل فضيحة كبيرة بعد أن قرر تفجير إحدى السفارات في بداية الفيلم مما يجعلني حقا استغرب كيفية انضمامه إلى جهاز المخابرات أصلا ناهيك عن أنه طلب من زميل له في أول الفيلم ألا يقتل المشتبه به لأنه يريده حيا وأثناء المطاردة نكتشف أن بوند يلاحق المشتبه ببلدوزر ثم في موقع تحت الإنشاء حتى يصلون إلى السفارة لينتهي المطاف بأن يطلق رصاصة على رأس المشتبه دون حتى أن يسأله عن أية معلومة.
مما يجعل رئيسة المخابرات تقع في موقف محرج عندما يطالب الوزراء برأس بوند تداركا لهذه الفضيحة ( على فكره لماذا لم يغيروا رئيسة المخابرات، ما داموا قد غيروا بطل الفيلم ) فكلنا نعلم أن الممثلة جولي دينش قد أخذت هذا الدور على عاتقها بدخول بروسنان إلى الشخصية فكان أولى أن تتغير ويكون لدينا مدير استخبارات جديد هو الذي قام بتعيين العميل 007 في بداياته.
هذا في الإطار العام للشخصية، نعود إلى إطار السينما فنكتشف أن الفيلم يحوي العديد من الثغرات فبوند يتابع رسالة جوال عبر الأقمار الاصطناعية بعد أن يقتحم منزل مديرة الاستخبارات ولا تسألوني كيف عرف موقع منزلها وأسمها الصريح لأنه عندما أراد أن يخبرنا هددته مديرة الاستخبارات بالقتل ( المخرج عاوز كده ) .
ويطارد بوند الإشارة على الجوال ويصل إلى جزر الباهاما وإلى منتجع بعينه ويدخل إلى غرفة الأمن والسلامة بعد افتعال حادث صغير بسيارة فاخره ويبحث في الأشرطة بنفس توقيت وتاريخ الرسالة وعند كاميرا بعينها ليكتشف بأن المجرم قادم بسيارة من نوع ( أوستن مارتن) عتيقة الطراز أمام الباب الخاص بالمنتجع.
سبحان الله هذا المنتجع لا يوجد به إلا كاميرا واحدة أمام البوابة الرئيسية، والمجرم يقف أمام هذه الكاميرا ليرسل تلك الكاميرا، وهنا بوند لم يتعب أبدا في أن يخرج القرص المدمج الخاص بوقت إرسال الرسالة ويجد وجه المشتبه أمام الشاشة، وطبعاً بوند يتجه إلى طاولة القمار ليلاعبه وطبعا أيضا لابد أن يخسر المجرم أمام بوند وتتسع غنيمة بوند لتشمل السيارة ثم يزيد بيت مال الحكومة البريطانية بأن يضاجع بوند زوجة المجرم أيضا بطريقة لا تحمل أدنى قدر من العقلانية والمنطق.
وبوند طوال الفيلم يتبع حدسه، مما يجعلنا نفتقد الرونق المعتاد الذي يصاحبه عندما تقدم له المخابرات البريطانية الدعم والمعدات، وهذا أعطى الفيلم بعدا جيدا ولكن غير مكتمل، نظرا لأن أبعاد الشخصية كانت فعلاً أكبر من إمكانيات دانيال كريج الذي استطاع أن يعطي الإيحاء بتقديم شخصية مفتش إنجليزي أرعن، وليس عميل بريطاني من الدرجة الأولى.
حاول المخرج مارتن كامبل أن يدخلنا في أجواء اللغة البريطانية عبر حوار بين جيمس بوند وعميلة مؤسسة الخزينة، أثناء رحلتهما في القطار إلى جمهورية الجبل الأسود وهذا نجح فعلا في أن يعطينا إيحاء الشاي الإنجليزي الذي يحبه المفتش هيرلك هوارو في شخوص ( أجاتا كريستي)، وليس كما تعودنا مع تعابير أيان فلامنج التي تمزج النساء بصراعات بوند كما تمزج وتخفق الفودكا المارتيني في شرابه المفضل.
وطبعا بوند لا يحب ارتداء البدل الخاصة بالسهرات، وهذا أيضا غير منطقي فكل الانجليزي عن بكرة أبيهم مفتونين بالاناقه ويحبون ارتداء الزي الرسمي للزيارات الرسمية وسترات السهرة للسهرات الراقصة، وهكذا لذلك نرى أن اعتراض بوند على ارتداء سترة سهرة كانت يدعو أيضا للملل والرتابة وكأنه رشدي أباظة القادم من الصعيد عندما تريد شادية أن يرتدي زيا فاخرا فيعترض على تغيير جلبابه.!
وتتواصل الحلقات المغرفة في الفيلم فيتم التركيز على الهالة حول شخصية بوند دون التركيز الفعلي على محور الفيلم الأساسي وهو التمويل الغير معقول للمنظمات الإرهابية وهنا تتضح آلية تفعيل أحداث مستحدثه على الرواية الأصلية ليكون فيلم " كازينو رويال " مقبولا لدى جماهير القرن الحادي والعشرين.
أريد أن أخوض في جزئية معينه هنا وهي قصة الفيلم التي استبعدها المخرج الراحل البرت بروكلي من السلسلة لسبب بسيط وهو أنه تم تقديمها كفيلم هزلي ومسلسل كوميدي مما أفقدها الكثير من الصبغة الإستخباراتية التي عرفنا بها شخصية جيمس بوند.
هذا فيما يتعلق بالرواية التي أيضا بدت وكأنها حساء بدون توابل بعد أن أضيفت إليها أحداث هدفها الأساسي أن تتساقط الفتيات صرعى لعيني دانيال كريج بدلا من أن يقدم جيمس بوند الجديد بما هو عليه من لمعان وخطوط عريضة وضعها المؤلف الراحل فلامنج.
أعيب أيضا على الفيلم أنه طويل جدا بدون ضرورة وهذا عيب قاتل وفتاك عرفه وذاقه المنتج الراحل أيان فليمنج في عام 1966 عندما أصدر فيلم " من أجل الخدمة السرية لجلالة الملكة" من بطولة السير جورج ليزبي الذي اصطلحت جميع أراء النقاد والجماهير على أنه أسوأ من قدم شخصية بوند إضافة إلى ذلك سقط الفيلم أيضا بسبب آخر وهو وقوع بوند في الحب وزواجه وموت محبوبته فكنا في مسلسل مكسيكي وليس فيلما لجيمس بوند.
نوفمبر 2006 يتكرر نفس الخطأ إنما بيد باربرا بروكلي بتقديم وجه جديد لا يمت لمواصفات فلامنج بصلة وأيضاً يقع بوند في الحب وأيضا يجلس على حافة الركام في البندقية وهي ترقد جثة هامدة أمام عينيه وكأن باربرا بروكلي من أصول عربية ( لا تقرأ التاريخ ) فهذه المقومات دائما تقتل شخصية بوند.
بوند يرضي غرور جميع الرجال فهو لا يوفر فاتنة تمر بمغامراته، وحتى إن كانت غير فاتنة هو أيضا لا يوفرها وهذا استذكره معكم في فيلم ( عش ودعهم يموتون) عام 1973 مع النجم روجر مور، وهذه خصلة توجي بالكثير من وأهمها الرجولة فبوند محاربٌ أولاً غامضٌ دائما، وزير نساء في كل زمان ومكان وليس مثل توم كروز عاشقٌ ولهان يندب حبيبته في آخر الفيلم.
ربما هذا هو ما جعل بوند متميز طوال تلك السنوات منذ انطلاقته في 1962 وحتى هذا الوقت. ففي أفلام بوند نرى مشاهد من جميع دول العالم لأنه كالسندباد في ترحاله .. نسمع العديد من اللغات لأنه يتعامل مع العديد من الحضارات .. يقتل بدون إبداء الأسباب لأنه يحمل الكود 00 قبل رمزه وهذا شغف بحد ذاته تنطلق منه عوالم المغامرة والإثارة، بوند لا يموت في الأفلام وينتصر مهما كانت المخاطر محدقة وخطره وهذا عنصر تشويق فنحن نريد دائما أن نعرف كيف سيخرج بوند من هذا المأزق.
كل هذه الدوافع عندما نقيسها في الفيلم الأخير سنكتشف أن بوند صار وكأنه مواطن وقع في مأزق فتحول إلى بطل خارق من تلك الدعايات التي تروجها أميركا دائما في أن يكون أحد مواطنيها في دولة ما وهكذا بدون سابق إنذار يجد نفسه في صراع استخباراتي فيكون أو لا يكون، وطبعاً نكتشف أن هذا المواطن يجيد التعامل مع الأسلحة والذخائر وقيادة جميع أنوع السيارات بل ومن أجل أحبابه يجيد فنون القتال أيضا، كما نرى في أغلب أفلام الممثل هارسن فورد وبروس ويلس، وهذا لا يتناسب أبدا مع ضابط برتبة مقدم في الاستخبارات البحرية البريطانية.
بعد أن ناقشنا العوامل السلبية في الفيلم دعوني أبدي لكم النقاط المضيئة فيه بشكل عام، فجميع أحداث مسابقة القمار في كازينو رويال في جمهورية الجبل الأسود كانت ممتعة وشيقة وأجاد المخرج التعامل معها بشكل رائع واختيار الممثلين على نحو محترف.
دانيال كريج أجاد فعلا دور الرجل المسموم بكل ما تحمله الكلمة من معاني وهذا يحسب له كثيرا مع أنني لا أفهم كيف لحقت به زميلته وفهمت في لحظة طبيعة الجهاز الذي الصقه في صدره لمعاجلة التسمم، ثم كيف فهمت آلية تشغيل الجهاز في لحظة، إلا أن هذا لا يجعلنا نلغي الأداء الرائع لدانيال كريج في ذلك المشهد، أيضاً أخفق المخرج كثيراً بكثرة استعراض جسد دانيال كريج مفتول العضلات لأنه فيما يبدو ظن أن يقدم فيلم لأرنولد شوازنجر وليس للعميل السري 007 إلا أن هذا يمنع أنها كانت دعاية جيدة للفيلم.
شخصية فلكس لايتر كانت ثانوية جدا ولا تناسب التعارف الذي تم بينه وبين بوند في 1962 مما همش الكثير من الإثارة في عدد مصادر معارف بوند أثناء الأحداث.
الكثير من العرابين الذين قدموا روايات لجيمس بوند حققوا نجاحات رائعة جدا في أفلام كثيرة مثل أضواء النهار الحية لتيموثي دانتال وتصريح بالقتل عام 1989 والعين الذهبية 1995 مما يجعل الاستعانة بأول رواية لأيان فليمنج خصوصا بعد اقتباسها في العديد من الافلام الهزلية ومسلسل فكاهي يجعلنا نشدد العتب حقا على المنتجين فكثير من الكتاب لا يزالون شغوفين بأبعاد شخصية بوند مما يجعل مثابرين حتى الآن في طرح روايات متجددة لأحداث مبتكره تناسب هذه الشخصية الأسطورية إنما السينما أحيانا لها تطلعات تخالف أراء الجمهور خصوصا مع الدعاية الكبيرة التي رافقت فيلم كازينو رويال والتي ما أفلحت في إخفاء العيوب الغير متجانسة في الفيلم نفسه.
مؤخرا نجد أن باربرا بروكلي قررت الاستعانة بدانيال كريج مره أخرى في تقديم فيلم بوند القادم عام 2008 وهذا كفيلا بأن ندرك مدى تعنت هذه الشابة واختلافها الجذري عن والدها الراحل الذي لم يستمع إلى نصائح مايكل جي ويلسون شريكه بعد أن فشل اختياره للممثل السابق جورج ليزبي، فبوند يمتلك صبغة خاصة،إذا حافظنا عليها في الإطار الانجليزي الذي خرجت به سنكفل النجاح لكل ما نقدمه من أفلام لهذا العميل السري .
عبيد خلف العنزي
2/12/2006م
آخر المشاركات
06-14-2008, 12:58 AM
كازينو رويال .. صفر على الشمال
العرض العادي
