هل يساوي الشعر كل هذا الألم الذي نعيشه؟
المهزوم دائماً لا يبدع بل ينشغل بما هو غير مهم.
ما نحن فيه يستوجب أن نعترف أننا في حالة تستدعي اليأس وأحياناً حتى الرثاء.
حاوره: أحمد رشاد
الشاعر السوري إبراهيم الجرادي ابن الرقة النائمة على كتف الحلم والتاريخ وخط المطر جاء من هناك من أول الشمال حيث بندر خان موسوعة الذكريات وزرع السنين الأولى تجد سرته موزعة على تلال الوقت, يخطفك حين تقترب منه و يصفعك بقوة إن وقفت على باب حضوره , ويدهشك أكثر إن قرأته, ويسحرك عندما تجالسه ويدفع بك نحو عوالم متنوعة غزيرة المناهل ويرمي بك في موجه لتبحث عن المفقود منّا حيناً من الدهر, فيفتح باب قلبه ويتركك مأسوراً عند عتبة الروح.
هنا شعر وهناك شعر وما بينهما جنائنٌ قَطْفُها أدبٌ ومعرفةٌ وتنوعٌ ثقافيٌ وبسمةٌ دائمةٌ وتواضعٌ أصيل الطبع. الجرادي يجعلك تصر على الحياة رغم ارتهانك للرحيل.
هذا الذي هجر قريته جسداً مرغماً على فعل الانتقال عبر المكان والزمان تحت ضغط البحث عن المفقود في القرية الغافية في سهلها أو على كتف جبلها أو هناك في عميق واديها تختفي حياءً. وبقي روحاً معلقة بالشخوص والأماكن وسرب القطا والذكريات والحبل السري لما ينقطع بعد.
يقف الجرادي قامة شعرية في مهرجان الشعر العربي السادس مرة أخرىبعد أن كُرِّمَ في المهرجان الرابع وعبر صفحات سيريا بوست كان لنا معه حوار دافئ حميم .
حين نقول شعر نعني أننا نأتي بما هو مغاير للمألوف هكذا يرى بعضهم الشعر فكيف هو عند الجرادي؟
د. إبراهيم الجرادي: هذه صفة, إحدى الصفات, لا يكفي الشعر أن يقوم على المغايرة لأن هناك حالة من التواصل في الذائقة مابين الحديث والقديم والقائم حالياً, المغايرة صفة ولكن مقدار الإضافة لا تأتي دائماً من المغايرة, تصبح هدفاً, التميزبالابتعاد عن الآخرين إذا كان هدفاً يخلق نوعاً من التصنع أو من الصنعة أو الإصرار على ما لا يلتقي مع الآخرين , الذين أضافوا إلى الشعر نعم مغايرين بشكل أو بأخر ولكن في الوقت نفسه يستندون إلى ثروة متوارثة ومكتسبة, الشعر في الحقيقة والذائقة الشعرية تقوم التوريث والاكتساب, الاكتساب ما هو لك والتوريث ما هو ناظم ما بين الجميع. قد تكون مرت علي فترة سعيت إلى المغايرة ووقعت في نوع من التصنيعأو القصديّة في أن لا أشبه الآخرين وإذا كانت هذه الصفة تستهويني بشكلٍ عام يجب أن لا تكون هدفاً بحد ذاته.
_ ألا توافقني أنّ ما اسميته تصنعاً أو قصدية جعل لإبراهيم اسماً متميزاً؟
ربما, الناس يبحثون عن المغاير هذا أكيد, التشابه والتناسخ والتآخي والتجاور صفات ليست جيدة في الشعر. بما أن الفلسفة تقول كل إنسان شخصية مستقلة لا يشبه الآخر بمعنى آخر, إذاً يجب أن تكون للشعر أيضاً تلك الخصوصية التي تميزه عن سواه, ولكن أقول يجب أن لا تكون هدفاً, أحياناً كنّا نستفز أو نبتعد عن العام بعنوان فكانت لي عناوين هي التي تثير أي أنني لا أشبه الآخرين مثل رجل يستحم بامرأة. كتاب أثار عنوانه ضجةوثم نسي الناس المتن مع أن فيه جهد حقيقي وجهد لغوي وجهد في موضوعاته وهذه إحدى هذه الصفات , قد يكون قدم شيئاً, ولكن على العموم هناك نواظم مشتركة مابين الشعراء والناس.
هل يعني أن الدكتور الجرادي عاد إلى البدايات بينما بعضنااستسلم لواقعه الراهن المختلف على تصنيفه فراح كل منا يركن ما في حوزته من معرفة على قارعة أحزانه أو أفراحه وترك القول والفعل بانتظار المنقذ واختلفنا في تحديد هويته. فمن هو المنقذ عند الشاعر؟
د. إبراهيم الجرادي:فيه شيء من ذلك. ربما نعم, قد يستسلم الإنسان إلى ما هو قائم وهذا أمر وارد لأسباب كثيرة ربما بسبب التعب, أو ربما بسبب عدم اليقين. أنا أحياناً أقول هل يساوي الشعر كل هذا الألم الذي نعيشه؟ هل هنالك لغة في العالم تساوي ما نحن فيه؟ حتى أنني أحياناً أتساءل عن جدوى الشعر كظاهرة إبداعية, لأنه لا يمكن للشعر أن يساوي أو الإحساس بالفقد أو الإحساس بالهامشية, لا هذا مستحيل ولذلك نعوض بهذا الاستسلام ونعيد البدايات, وهذا سؤال مهم, و تأسيس وتأصيل. كل شاعر أو كل إنسان يحب أن يتحول الجديد في حياته إلى نوع من التأصيل, بمعنى إلى قواعد ناظمة لهذه الأمور أمّا المنقذ فأنا رجلٌ في الفترة الأخيرة أجد في اليأس خلاصاً وأعمالي الأخيرة مملوءة باليأس بدءً من مدح اليأس واليأس صديق واليأس كما يقول أبو حيان التوحيدي إحدى الراحتين, الراحة الأولى ربما يكون الموت ربما لم يشرحها التوحيدي والراحة الثانية هو اليأس بحد ذاته إذ يجعلك توقف الصراع بين الأشياء فترتاح أكثر واليأس عندي لا يعني طبعاً الاستسلام, فأنا يائس فعلاً ولكني لست مستسلماً لهذا اليأس, كل وأشكال وبواعث ودوافع اليأس على الصعيد الشخصي وعلى الصعيد العام أنا أقاومها وأسفهها واستخف بأصحابها. أكافح ضد هذه الظواهر,ولكن أسميها بأسمائها, لأن ما نحن فيه يستوجب أن نعترف أننا في حالة تستدعي اليأس وأحياناً حتى الرثاء.
هل هو هدوء الشيخوخة؟
د. إبراهيم الجرادي: ممكن ..(مششيخوخة .الكلمة هذه فيه شي – لا تخيف – ولكن ليست... أحياناً.... طبعاً - طبعاً لا طبعاً ) يتعب الإنسان في السعي عندما لا يصل. عندما يضع هدفاً مدة ثلاثين عاماً ليصل إليه ولا يصل ويكون السعي هدفاً بحد ذاته- نعم. أنت تقول ذلك- تشيخ الأشياء, تشيخ الأفكار, يشيخ الجسد, وهذه الوقدة سوف تخف شئنا أم أبينا- هنالك شيء من ذلك, ولكن ليس بمعنى الاستسلام والقدرية. يختلف ابن الثلاثين المدفوع برغبة تحقيق الذات عن الذي يقترب من الستين ولم يحقق ذاك الذي سعى إليه منذ ثلاثين عاماً أو جزءً منه, وأنا لا أتحدث على الصعيد الفردي , فأنا أجد حلولاً للقضايا الفردية بالتأكيد ولكن أتحدث كإنسان عربي وكإنسان سوري وكإنسان في محيط معين يتطلب هذا العناد.
هل بقي للشعر مكانة في مجالس أهوائنا وهل من متسع لما هو روحي ؟
يبقى بطبيعة الحال, تضيق المساحة لكنها لا تختفي بالتأكيد هناك مزاحم. الشعر متعة وهناك وسائل أخرى أكثر حسية, نحن ناس حسيون. وسوف تخف قيمة الشعر. وسنسعى لحصولنا على المتعة الأخرى المادية. لدينا رغبة الاستحواذ في هذه المجتمعات التي لم تحقق شروط وجودها الإنساني في وجود حب الاستحواذ. ولنكن واضحين ... من المقولات الكاذبة أن الشعر ديوان العرب ولم يكن كذلك في يوم من الأيام. العرب لا يحبون الشعر لأنه مجرد وغير حسي. عندما نتحدث عن الشعر فإننا نقول أنه مهم ولكن السعي إليه غير موجود. وهناك وسائل أخرى فالوسائل السمعية البصرية قلبت الذائقة رأساً على عقب. الشعر سيبقى ولكن حالة سهولة الطباعة وكثرة الرغبات في تأكيد الذات والسعي نحو إيجاد مساحة أو ثقل للذات البشرية أوجدت التزاحم على الشعر وجعلت منه حالة تستدعي السعي من أجلها وتذكر الناس فيه وهذا أمر طبيعي وسيكون مفصل من مفاصل الإحساس بالجمال وليس أساساً والآن هنالك وسائل تزاحم الشعر على مكانته وعلى مساحته.
على ما يبدو أن هذه الوسائل لم تزاحم الشعر فقط ففي فترة الأربعينيات الخمسينيات والستينيات وحتى أوائل السبعينيات كان لدينا أعلام في كافة المجالات من شعر وأدب وفن وسياسة, فهل عجزنا الآن عن إنتاج مبدع وعلم أم أننا غيرنا نوعية أبطالنا؟
د. إبراهيم الجرادي:هذا كلام صحيح, لم يعد لدى العرب الشعور بالثقة بالنفس ولم يعد لديهم استقرار لأنهم مهزومون. والمهزوم دائماً لا يبدع بل ينشغل بما هو غير مهم. لا يوجد لدينا حالة فترة نهوض ولم يعد هنالك انعطافات ولم تعد الحالة العامة للعرب تسمح بذلك , قل لي فعندما لا تتحدث عن القضايا الكبرى – عندما تقول لا أريد أن أحرر فلسطين ولا تقول سأحقق العدالة الاجتماعيةفماذا ستقول للناس وما هو المهم الذي ستقوله لهم؟ أكيد عند ذلك ستخف الوسيلة. تم استبدال البطل والعلم بحالة إعلامية معينة أقل قيمة. عدم اليقين أو غيابه من حياة الإنسان العربي و فكرة الاستحواذ وأضف إلى ذلك نحن نستهلك- قيمنا مصطلحنا الأدبي مصطلحنا الثقافي أساليب حياتنا كلها تعتمد على ما أنجزه الآخر وهذا يؤدي إلى مرحلة استهلاك عامة, فلماذا يكون هنالك ارتفاع في قيمة الفن وبقية مفاصل الحياة في هبوط, نعود إلى هذا ا((لمسكين المنسي ماركس - النهوض الأدبي يتطلب نهوضاً عاماً)) وسقوط الثقافة يشير إلى انحدار عام, لا يمكن إلا أن يكونهناك نسيج واحد في حالة الارتفاع وفي حالة الهبوط والشيء الأساسي هو السياسة. العربي ليس له وجود حي, ليس حراً ويدّعي الحرية , ليس غنياً, بل فقيراً ويدّعي الغنى وهذا الواقع يؤدي إلى انفصام الشخصية التي تشغل نفسها أحياناُ بالمكاسب الصغيرة وهكذا لم يعد شعاراً وبالتالي لم تعد هناك أسماءٌ كبيرة.
كنت في المهرجان الرابع مكرماً, فماذا ترك التكريم عند إبراهيم الجرادي؟
لقد ترك الكثير بالنسبة لي- صراحة أنا لا أحب المهرجانات ولا أسعى إليها وأدعي كثيراً ولا أستجيب رغم أني لست اسماً صارخاً ولكن هذا التكريم كان مهماً لأن هؤلاء أهلي وناسي وهم يلتفتون إلي وهذه كانت مهمة كثيراً, و لا أقصد التكريم بمعنى أن يضعك في مكانة بل يلتفت إليك ويشعرك أنك موجود في حياته وكنت سعيداً جداً لأنني موجود بين ناسك في المجال الذي يريحك, أنا شيخ قبيلة ولست تاجراً كبيراً, أنا رجل ثقافة وهذا هو المكان الذي عليه أنيهتم بي وليس بي فقط بل وبأمثالي لأن الثقافة مردود غير مادي وغير ملموس, فإذا أعترف لك الناس أنك تقدم لهم شيئاً هماً وهو غير ملموس وهذا شيء إيجابي كثيراً.
أشعرتنا وكأنك في سنوات الحطب.
د. إبراهيم الجرادي: ونحن كذلك من قال لك لا.
أهلاً بك ولك الشكر.
د. إبراهيم الجرادي: أدامك الله شكراً لك
ranimrashad65@hotmail.com
آخر المشاركات
04-23-2010, 10:51 AM
د.إبراهيم الجرادي: من المقولات الكاذبة أن الشعر ديوان العرب
العرض العادي
