أبو حيان التوحيدي..إنتفاضة الفقير العالم...

[المصطفى الكرمي]

أبــــو حــــيــــان الـــتوحـــيـــدي
..

انتفاضة الفقير العالم.

-----

ميزان من فضة لصديقي صائغ الذهب ،عمره -الميزان- 54 سنة.

المكان..،العراق -أب الدنيا-،بغداد.. قبل أن يغزوها التاتار..
الزمن القرن..القرن الرابع الهجري،
رمضان سنة 400 للهجرة..-1009ميلادي-منذ 1000 سنة وثلاثة عقود..

الرجل،علي بن مجمد بن العباس التوحيدي "أبو حيان"..
أبو حيان التوحيدي،إذن..
"إمتاع ومؤانسة"ن،"
حكاية الفقر،والتطرف وذوي العلل المزمنة...
عاش أبو حيان التوحيدي فقيرا ومعدما ومتسولا..

من أجل أهل عصره..وأشملهم علما.. وأدبا بالفعلي،والتجريبي.. وليس بالكتابي ..ليس كما أدباء اليوم كتاب أدب بالكتابي المكتبي فقط ..
ومع ذلك فقد عاش علامة الأدب العربي فقيرا ومتسولا على أبواب أصحاب الجاه،

وظل معدما في ظل الوشاية والكيد وسوء الحظ..

تجاهله المؤرخين لقرنين من الزمن،ولم يظهر له أثر حتى لاح في "معجم الأدباء" وما أدراكم بمعحم الأدباء..هل ما زلتم تذكرونه هل لديكم منه نسخة في بيتكم أو بيت أحد أقربائكم.. تتلون منه كل يوم صفحة لأبنائكم.. وصاحبه ياقوت الحموي سيرته في سيرة الأدباء قبل الأدب...يبحث فيهم كمن يبحث عن أصل الأغصان من الأشجار ليصل بذلك الغصن الذي من تلك الشجرة..
وقد اعتبر ياقوت الحموي أبو حيان التوحيدي وتمتعوا معي بما أحاطه من أوسمة كونية كم وسام ربحه ياقوت الحموي لأبي حيان التوحيدي:

شيخ الصوفية،يا سلام..
وفيلسوف الأدباء،يا سلام يا السلام
وأديب الفلاسفة،فأنا هنا أبيعكم السلام بأي ثمن إلا سلام أديب يعتلي عرش الفلاسفة
ومحقق الكلام..
ومتكلم المحققين
وإمام البلغاء..
لا أستطيع أن أضيف شيئا وشييئا وأقل منه وإن حاولتم ستفسدون كل الأمر..

جاري يا اللي واقف بداري

فارسي،..
إستوطن العراق،بغداد.. -ينسب إليها-
أتقن اللغة العربية..
وتعصب لها وتكفل بالرد على الشعوبية، التي كان هاجسها النيل من اللغة العربية وتلويث ثراتها بالمستحدث من لغة وأدب وحديث نبوي شريف..
ومع كل علمه ونبوغه..عاش أبو حيان حياة بئيسة..
فقر وحرمان كانا سببا في تعلقه بالتحصيل والسفر من أجل كسب الرزق بين دكاكين الوراقين، يشتغل بنسخ كتبهم،..ولم ينتفض إلا بعد بلوغه سن الأربعين.. كجل العظماء في التاريخ لا يستعجلون وقتهم..بقدر ما يستعحلون علمهم وتفقههم

ألقى بالورق،..
واندفع إلى الخارج..أندفاع عالم طاهر..وفقيه متعقل..

ونموذج للعالم المثقف المتسول الذي لم يغن عنه تسوله في حاضر زمانه، بقدر ما أغنى عنه علمه في كل الأزمنة اللاحقة..وهاهي روحه معنا اليوم في هذه الأيام المباركة من رمضان اليوم سبحان الله كيف كان بالأمس،
أمس الحضارة الإسلامية..
والروح من أسرار الدنيا لا تفنى..

لازمه الفقر ..
حرمه من الزواج..
والإستقرار،
حتى ذهب البعض بأن هذه الوضعية أدت به إلى إضرامه النار في كل كتبه..
وعكس ما زعمه البعض في أن الفقر والخرف هو الذي أدى بأبي حيان إلى حرق كتبه..فالرجل عالم وفقيه ذو تجربة كبيرة مع الشارع والتحصيل دون التسكع..كان متسولا لا يتسكع كما أبا نواس.. يحصل من دروس مكتوبة بلغة الفقر أكثر مما يحصل من دروس مكتوبة بأحرف ملغومة على ورق..

وهو من سوء حظه كلما تقرب منه أولياء الأمر بحثا عن الحكمة وروح "الإمتاع والمؤانسة.." كلما إجتمع عليه الوشاة يبعثرون بحسن نيته.. أو وافت المنية ولي أمره وكأنه من قال فيه الشاعر:

فزعت بالبين حتى ما يفزعني بالمصائب في أهلي وجيراني
لم يترك لي الدهر علقا أظن به إلا اصطفاه بموت أوبهجراني

مكتبي من خشب العرعار.. عمره من عمري.. وعمره بعمر جدي.. ضاع منه الكرسي من حيث لا أدري

لازمه الفقر بعد كل نعمة إلى أن توفي فقيرا مجهول الذكر..
ويعتقد البعض أنه أحرق كتبه لهوى في نفسه..أو زيغ انتاب فكره..أو لمجرد أنه استاء من فقره وجحود الأخرين..لكن الحقيقة الكامنة في كونه كان واحدا من أولئك الذين يسبقون عصرهم ببصيرتهم بالاف الأميال الضوئية ولم يرد أن يترك للجهلة المستأثرين بفهم للدين و الدنيا أثرا يشككون به في عقيدته وحسن علمه..

لقد ذهب إبن الجوزي -مرجع الإسلام- إلى حد اعتبار أبي حيان التوحيدي أحد الزنادقة الثلاث الكبار في الإسلام إلى جنب إبي العلاء المعري وأبي العتاهية..واعتبره أشر منهما لأنهما حسب قوله -الجوزي- صرحا بالزندقة،في حين أبا حيان التوحيدي لم يحد قط عن حبل لأمر الله..

ابو العلاء انتهي به الأمر إلى التزهد،مثلما الحال بالنسبة لأبي العتاهية.. أما أبا حيان كان محيطا بكل علوم عصره.. وقد قصر زمانه عن علمه..ومع ذلك لم يتردد جراد زمانه في اتهامه بالزندقة..

إنتفض أبو حيان التوحيدي على زمانه وأهل زمانه..وأضرم النار في كتبه..كان في نفسه حقد على أهل زمانه..
كان يصيبه ضيم من عدم بلوغه رغم علمه ما بلغه غيره من مدارك رغم جهله وفقره وغناهم وحظوتهم..وعثرة حظه..
كان في نفسه حز لا يعلمه غيره..
"أضرم أبو حيان النار في فلذات كبده.."
هكذا تلا صديقه القاضي أبو سهل علي بن محمد النبأ في مجلسه في شهر رمضان عام 400 للهجرة -سنة 1009 للميلاد وبعث إليه برسالة يعاتبه فيها على عمله.."لماذا يا أبا حيان حرقت كتبنا فلذات كبدك ..؟"

إشتريني بالإحسان

رد عليه أبو حيان التوحيدي برسالة كتب فيها لصديقه القاضي أنه ما إجترأ على إحراق كتبه حتى استخار له الله عز وجل فيه أياما وليالي أوحى له في المنام بذلك..ويضيف في رسالته إلى صديقه القاضي :

"ثم اعلم علمك الله الخير أن هذه الكتب حوت من أصناف العلم سره وعلنيته..فأما ما كان منها سرا فلم أجد له من يتحلى بحقيقته راغبا..أما ما كان علنية فلم أصب من يحرص عليه طالبا فشق علي أن أدعها لقوم يتلاعبون بها و يدنسون عرضي إذا نظروا فيها ويشمتون بسهوي وغلطي إذا تصفحوها.."

ومع كل علمه وفظاعة فقره لم يرضخ أبو حيان لسخرة ذوي الجاه والمال..
فقد كتب رسالة أخرى بطعم اخر لصديقه المهندس أبو الوقاء أحد المهندسين الكبار في عصره يكت يكتب:

خلصني من التكفف،
أنقذني ن لبس الفقر،
إشتريني بالإحسان،
أكفيني مؤونة الغذاء والعشاء،
إلى متى الكسيرة اليابسة والقميص المرقع..؟
إلى متى التأدم بالخبز والزيتون..؟
قد أذلني السفر من بلد إلى بلد..
وخذلني الوقوف من باب إلى باب..
ومكرني العارف بي
وتباعد القريب مني
والله ما يكفيني ما يصل إلي كل شهر،من هذا الرزق المقتل،مع هذه المؤونة الغليظة والسفر الشاق والأبواب المحتجبة والوجوه المقطبة،
والايدي المسمرة
والنفوس الضيقة
والأخلاق الدنيئة..

بعد إذن أستاذي المحترم شكري البكري.
برنامج "حدائق الثراث العربي"
الحلقة الرابعة
محطة راديو البحر الأبيض المتوسط.
"ميدي أن - MEDI 1-

ولتحيا انتفاضة البسطاء

تصبحون على صوم
المصطفى الكرمي
فجر اليوم السادس من رمضان 1431
الموافق 16 غشت اب 2010