فِي مَمْلَكَةِ الْحِبْرِ وَالْغِيَابِ!
كُنْتُ أَسْمَعُ صَمْتَكِ قَبْلَ أَنْ أَقْرَأَ حُرُوفَكِ.
ذَبْذَبَاتٌ مِنْ نُورٍ تَسَرَّبَتْ عَبْرَ حُجُبِ الزَّمَانِ.
كَمَا لَوْ أَنَّ رُوحًا تُنَادِينِي
مِنْ وَرَاءِ بِحَارٍ مِنْ ظَلَامٍ.
لَمْ يَكُنْ جُنُونًا أَنْ أُحِبَّ ظِلًّا لَمْ أَرَهُ،
بَلْ يَقِينًا بِأَنَّ الْأَرْوَاحَ تَتَوَاطَأُ فِي الْغَيْبِ.
تَتَعَارَفُ كَمَا النُّجُومُ فِي سَمَاءٍ وَاحِدَةٍ،
وَإِنْ فَرَّقَتْهَا الْمَسَافَاتُ الَّتِي
لَا تَعْنِي شَيْئًا أَمَامَ نَبْضٍ يَتَذَكَّرُ نَبْضَهُ.
لَمْ نَلْمَسْ أَيْدِيَنَا،
لَكِنَّ حُرُوفَنَا تَزَوَّجَتْ فِي الْفَضَاءِ.
كُلُّ نُقْطَةٍ عَلَى السَّطْرِ
كَانَتْ نَجْمَةً تُضِيءُ طَرِيقًا إِلَى أَعْمَاقِكِ.
قُلْتِ لِي يَوْمًا: الْكَلِمَاتُ دَمِي.
فَصِرْتُ أَشْرَبُهَا
كَمَا يَشْرَبُ الْعَاشِقُ الْمَطَرَ فِي الصَّحْرَاءِ.
أَتَدْرِينَ؟
لَقَدْ بَنَيْنَا وَطَنًا مِنَ الْحِبْرِ.
نُقُوشٌ مِنَ الْأَمَلِ فَوْقَ جُدْرَانِ الْمَسَافَةِ،
جُسُورٌ مِنَ الْأَسْرَارِ امْتَدَّتْ بَيْنَ نَافِذَتِي وَنَافِذَتِكِ،
وَسَرِيرِي كَانَ يَحْلُمُ بِظِلِّكِ...
كَأَنَّ الرُّوحَيْنِ تَشَارَكَتَا وِسَادَةً مِنَ الضَّبَابِ.
نُقَلِّبُ أَيَّامَنَا كَصَفَحَاتٍ فِي كِتَابٍ مُقَدَّسٍ،
نَقْرَأُ صَمْتَنَا الْمُشْتَرَكَ كَأَنَّهُ إِصْحَاحٌ مِنَ الْأَسْرَارِ.
حَتَّى الْفَرَاغُ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ صَارَ مُوسِيقَى...
تُرَافِقُ أَنْفَاسَنَا.
تُعَدَّانِ اللَّيْلَ صَلَاةً،
وَتَسْتَيْقِظَانِ عَلَى الضَّوْءِ الَّذِي يَكْتُبُهُ الِاشْتِيَاقُ.
ثُمَّ جَاءَ الْفِرَاقُ...
لَا كَعَدُوٍّ، بَلْ كَرِيَاحٍ تَسْأَلُ:
هَلْ زَرَعْتُمَا حُبًّا جُذُورُهُ أَعْمَقُ مِنَ الْخَوْفِ؟
قُلْتِ: الْمَسَافَاتُ تَمْحُو.
وَأَنَا قُلْتُ:
الرِّيحُ لَا تَقْتَلِعُ إِلَّا مَنْ لَمْ يَعْرِفِ اسْمَ جُذُورِهِ.
فِي كُلِّ غِيَابٍ، كُنَّا نَتَقَشَّرُ مِنْ زَيْفِنَا.
وَكُلُّ يَوْمٍ كَانَ يَمُرُّ
كَسِكِّينٍ يُنَقِّي الذَّهَبَ مِنْ شَوَائِبِهِ.
كُنَّا نَسْكُبُ دُمُوعَنَا عَلَى نَارِ الْغِيَابِ،
لِتَتَحَوَّلَ إِلَى ضَوْءٍ،
إِلَى مَعْنًى،
إِلَى يَقِينٍ بِأَنَّ الشَّغَفَ لَا يَمُوتُ
إِنْ كَانَ مَوْلُودًا مِنْ بَصِيرَةٍ.
وَهَكَذَا، صَارَ الْحَنِينُ مَاءً مُقَدَّسًا.
لَا يُطْفِئُنَا، بَلْ يُنْبِتُ فِينَا احْتِمَالَاتٍ جَدِيدَةً لِلْوَفَاءِ.
كُنَّا نَكْتُبُ رَسَائِلَ مِنَ اللَّهَبِ،
فَتَنْقَلِبُ رَمَادًا...
ثُمَّ تُبْعَثُ فَرَاشَاتٍ تَحْمِلُ عِطْرَ الصَّبْرِ.
وَالْيَوْمَ...
وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى أُفُقٍ بِلَا حُدُودٍ،
أَسْمَعُ صَمْتَكِ يَتَرَدَّدُ فِي أَعْمَاقِي،
كَأَنَّهُ نَشِيدٌ كَوْنِيٌّ لَا يُشْبِهُ أَيَّ لَحْنٍ.
أَعْرِفُ أَنَّكِ مَا زِلْتِ هُنَا،
فِي كُلِّ حَرْفٍ أَكْتُبُهُ،
فِي كُلِّ نَجْمَةٍ تَلْمَعُ فِي سَمَاءٍ غَرِيبَةٍ،
فِي سُكُونِ اللَّيْلِ حِينَ يَنْتَبِهُ إِلَى نَفْسِهِ،
وَفِي ارْتِعَاشَةِ قَلْبِي كُلَّمَا خَطَرْتِ بِخِفَّةٍ...
كَأَنَّكِ فِكْرَةٌ نَقِيَّةٌ تَمْشِي عَلَى أَطْرَافِ الْكَلَامِ.
الْأَجْسَادُ قَدْ تَغِيبُ،
لَكِنَّ الْأَرْوَاحَ الَّتِي تَآلَفَتْ فِي مَمْلَكَةِ الْكَلَامِ،
لَا يَطْوِيهَا زَمَانٌ، وَلَا يَبْلَعُهَا مَكَانٌ.
الْفِرَاقُ لَمْ يَكُنْ إِلَّا مِرْآةً نُطِلُّ بِهَا
عَلَى وُجُوهِنَا الْحَقِيقِيَّةِ.
حِينَ تَسْقُطُ عَنْهَا أَقْنِعَةُ اللَّحْظَةِ،
وَنَرَى بِوُضُوحٍ مَنْ نَحْنُ...
نَحْنُ اثْنَانِ مِنَ الضَّوْءِ.
لَمْ تَكُنِ الشَّمْسُ بِحَاجَةٍ إِلَيْنَا لِنَلْتَقِي.
وَهَا نَحْنُ الْآنَ، أَكْثَرُ اكْتِمَالًا مِمَّا كُنَّا،
كَشَجَرَتَيْنِ نَمَتَا كُلٌّ فِي قَارَّةٍ،
لَكِنْ جُذُورُهُمَا تَتَشَابَكُ فِي أَعْمَاقِ الْأَرْضِ،
حَيْثُ لَا يَصِلُ صَوْتٌ، إِلَّا هَمْسُ الْأُصُولِ.
هُنَاكَ، تَحْتَ السُّكُونِ،
تُرَتِّلُ الرُّوحُ أَنَاشِيدَهَا السِّرِّيَّةَ،
وَتَحْمِلُ إِلَيَّ نَفَسَكِ...
كَأَنَّكِ تُهْمِسِينَ مِنْ رَحِمِ الْغَيْبِ:
الْحُبُّ لَا يُقَاسُ بِالْمَكَانِ،
بَلْ بِمَا يَظَلُّ حَيًّا رَغْمَ اخْتِفَاءِ الْجَسَدِ.
جهاد غريب
يوليو 2025