مقهى الخريفات!
في الزاوية القصيّة من العالم، عند تخوم الوقت،
يوجد مقهى لا يظهر في خرائط المدينة، ولا تتعقبه إشعارات الهاتف…
اسمه لا يُنطق، إنما يُستشعر… كأنه ندى على جدار الزمن.
من اعتاد الحنين، يسميه "الخريفات"…
اسمٌ يشبه أوراق الخريف حين تتساقط دون أن تُحدث ضجيجًا.
ولأن كل شيء فيه يشبه الرحيل الجميل، لم يُعلَّق على بابه اسم،
لكنّه محفور في ذاكرة من جلسوا هناك،
كأن الهواء نفسه يهمس به…
اسمٌ لا تسمعه إلا مرةً واحدة في العمر، ثم لا يُنسى.
كأنّه وُلد من تنهيدة فنانٍ نسي كيف يُنهي مقطوعته،
أو من قصيدةٍ تاهت عن ديوانها،
فاستقرت على شكل بابٍ خشبيٍّ،
تتدلّى فوقه عنقودُ نبتةٍ خجولة،
لا تعرف متى تبدأ… ولا متى تنتهي فصولها.
في الداخل،
الأرائك ليست مجرد مقاعد، هي أحضانٌ قديمة، تنكمش حين تجلس، وتُربّت على كتفك دون أن تراك.
كل وسادة تحتفظ برائحة من بكى عليها،
ومن كتب رسائل وداعٍ لم تُرسل،
ومن استيقظ منتصف الليل يسأل عن جدوى الحبّ في زمنٍ يتآكل فيه الصدق.
القهوة هناك،
تُسكب في أكوابٍ ليست مصنوعة من خزف،
بل من كفوف أمهاتٍ انتظرن أبناءهنّ عند نوافذ لا تطلّ إلا على الغياب.
حين ترفعها لتشرب، تشعر أنّك تجرّب طعم الحنين لا البن،
وأن خيط البخار، وضباب الكأس، وأنفاس الدفء الصامتة هي رسائل خفية:
ثمة من تذكّرك الآن دون أن تنطق باسمك.
وتحت شجرة زيتونٍ قديمة،
شجرةٌ توقّفت عن الإزهار حين شعرت أن العالم لم يعد بحاجةٍ لثمارٍ جديدة،
لكنها ما زالت تُنصت، وتفهم، وتحفظ الأسرار في أغصانها،
كما يحفظ قلبٌ منسيّ نغمةَ اسمٍ لا ينطق به إلا في الحلم.
بعض الأماكن لا نزورها… لكننا نعود إليها لنلتقي بأنفسنا من جديد.
هناك، حيث تلتفّ الجذور حول الوقت كما يلتفُّ عاشقٌ حول عنق الذكرى،
أضع كتابي مفتوحًا على صفحةٍ لم تُكتب بعد، أنتظرُكِ.
لا لأنكِ ستأتين،
بل لأنّ الانتظار في هذا المكان فعلُ حياة،
وغيابكِ فيه ليس فراغًا، بل حضورٌ آخر، شفاف، يمرّ بي كما تمرّ أكمامُ فستانٍ معلّقٍ على بابِ ذاكرة منسيّة،
تتمايل في ريح المساء دون أن تطرق،
فتُعيد إليّ أغنيةً بعيدةً في حنجرة الوقت،
تتسلّل ولا تطلب إذنًا،
وتنعشني بلمسةٍ ناعمة على صفحةِ كتابٍ تُرك مفتوحًا منذ آخر وداع،
حتى تعود رائحة الخبز القديم من زقاق الطفولة…
لا أعرف إن كانت فرحًا أم وجعًا.
أكتب عنكِ، لا على الورق،
على البخار المتصاعد من كوب الشاي الأخضر أمامي.
ذلك الشاي الذي يُقال إنّه يعيدُ التوازن... لكنه هنا يربك كل شيء.
كل رشفة منه تُحرّك نغمة في قلبي كنت قد نسيت لحنها.
أشرب، فأراكِ تجلسين قبالتي، بكامل صورتكِ،
وبما تساقط من ملامحكِ في الذاكرة:
ظلّكِ على سطح الطاولة،
وخيطُ شعركِ على أزرار معطفي،
وضحكتكِ في صَدفةٍ معلّقة على سلسلة النادل الذي نسيه الزمن.
ثمّة مقاهٍ لا تُنسى،
لأنها تغيّرنا، وتهمس لنا بما كنّا عليه ذات حنين.
ربما نعود إليه لنلتقي بأحد ما،
أو لنتأكد أن أثرنا ما زال دافئًا على الأرائك.
في مقهى "الخريفات"، لا يتحدث الناس كثيرًا.
اللغة هناك ليست وسيلة،
بل وشاحٌ خفيف، يتدلّى من الكتفين دون حاجةٍ للتدفئة.
أما الحديث الحقيقي فيدور بين النظرات،
وبين الأصابع التي تلامس فنجانًا،
أو ترسم على زجاج الضباب كلمةً لا تُقرأ.
حتى الوقت نفسه، يتثاءب هناك،
ويتحول من ساعاتٍ إلى شعورٍ مطاطٍ يمكن مده كما تمدّ لحظة العناق قبل الفُقدان.
في هذا المقهى، الأرواح لا تفنى.
إنّها تنضج…
تتحوّل إلى عطرٍ في الذاكرة،
إلى نغمةٍ في الكرسيّ الخشبيّ حين يُسحب للخلف،
إلى أثر شفتين على حافة فنجانٍ ظلّ يحملُ وعدًا لم يُفرَغ بعد.
ربّما لهذا أعود إليه كل مرة،
كما يعود العابر إلى ركنٍ لم يُقَم عليه نصبٌ، أو شاهد،
لكنه يحمل أثرًا: أن لا يموت من يُحَب.
لأن الحبّ لا ينتهي،
بل يغيّر مكانه… ويجلس صامتًا هناك: في ركنٍ بعيد، ينتظرنا.
ومن يعرف هذا المقهى، لا يخرج منه تمامًا…
يترك شيئًا في الزاوية ذاتها، ويأخذه معه إلى الأبد.
***
إضاءة:
مقهى لا يفتح أبوابه… بل يفتح قلبك.
يذكّرك برائحة الخبز القديم، وبكل من رحل.
إن لم تكن تعرفه، فلست من زواره…
وإن عرفته، لن تنساه.
هو أغنية تهمس لك من بعيد، حيث يجلس الحنين.
تمرّ الأرواح فيه من دون أن تجلس،
وتترك أثرًا لا يُمحى.
جهاد غريب
أغسطس 2025