.
على طَرف العَام ..
قِصَّة مُورَّدة بِ الجوري والأقحوان
على لِسان د: أمير
هاحكي موقف عن شهامة و رقي الفنان الجميل (مدحت صالح) اللي هتعرفوا من خلاله إن جبر الخواطر بيقدر يرفع للسما فعلياً و كسره بيكسرك كليا خليني أرجع بالذاكرة لعام 1993 وقتها كنت طالب في أحد المدارس الحكومية في أحد أحياء القاهرة ،الطلاب أغلب أهاليهم من الطبقة الكادحة و يشغلهم البحث عن لقمة العيش ، كان معانا وقتها طالب اسمه (شريف) كان طالب مهندم ويتعامل و كأنه شاب في ال30 من عمره رغم أننا كلنا لم نتجاوز وقتها سن الرابعة عشر، و كعادة المدرسين في هذا الوقت كانوا يهتموا بعمل حصة تعارف في بداية العام كل طالب يقف يقول اسمه و سنه و وظيفة والده أو والدته. وفي يوم زارنا مدرس اللغة العربية وقتها أ/(طُلبة) وجلس على مقعده بنوع من الانشكاح المبالغ فيه ، وطلب منا إن كل طالب يقف يقول اسمه و وظيفة والده.. كل طالب أصابه الدور وقف وذكر اسمه، ووظيفة والده واللي كان والده متوفي كان بيقول الرد بنوع من الأسى و الخجل المفرط.. إلى أن
أتى الدور على زميلنا "شريف" اللي وقف بثبات شديد و جاوب على سؤال المدرس فقال: - اسمي شريف... والدي شغال عازف ترومبيت في فرقة "مدحت صالح" الأستاذ طُلبة رمق صاحبنا شريف بنظرة تحمل اندهاش كبير.. وسرت همهمة في الفصل متبوعة بضحكات ساخرة من التلاميذ.. نظر المستر طُلبة لشريف و سأله: ترومبيت!! ايه دى يعنى معلش؟ "شريف" حس أنه هيقع في فخ السخرية لأن لهجة المدرس لم تنبئ أبدا عن خير قادم.. وبنفس الثبات رد شريف على أ/طُلبة: ترومبيت يعنى "زمارة" كبيرة يا استاذ. و هنا ضج الفصل كله بالضحك و شارك مستر "طُلبة" الفصل فى القهقهة الغربية و العجيبة و كأنه غزا عكا مثلا؛ لمحت عيون" شريف" و هى بتدمع..و لكنه ظل واقفاً بنفس ثباته، و كأن عمل والده كعازف ترومبيت هو مدعاة للسخرية ، الأغرب من ذلك أن المُدرس يعاود ذبح شريف باسئلة سخيفة من عينة: و أبوك لما بيكون في البيت بيزمر لكم و لا بيسيبكم تزمروا انتوا! حسيت وقتها أن السخافة دى لازم تنتهي بأي شكل. مرت اللحظات ثقيلة بمعنى الكلمة ، و صديقنا مازال واقفاً بنفس ثباته إلى أن طلب منه المدرس أن يجلس.. أتذكر وقتها أن مدحت صالح كان بيغنى في تيڤولى هليوبوليس اللي فى الماظه بمصر الجديدة و كان فعلا منطلق بأقصى طاقة نحو الشهرة..انتهت الحصة بعد كدة. وخرجنا للفسحة.. شريف كان فى حالة إنهيار صامت.. ماحدش اهتم يطيب خاطره أو يطبطب عليه بعد ما الكل سخر من وظيفة والده، جلست بجواره أحاول أهون عليه و لكن كان صعب التئام الجرح وقتها تانى يوم لاحظت أن شريف غاب.. تالت يوم شريف غاب.. عاشر يوم شريف كان غايب.. قلقنا عليه و لم يكن متوافر وقتها موبايل او واتس آب عشان نقدر نطمن عليه..و وضعنا -بعض الزملاء و أنا- خطة لمحاولة الوصول لعنوانه و انتوينا زيارته قطعا، و لكن مع انتصاف النهار و قرب نهاية الحصة الخامسه طرق باب الفصل أحدهم.. ولما فُتح الباب كان الطارق هو " مدحت صالح.. و معه شريف و والده" المشهد كان درامياً. لم نكن مصدقين أن مدحت صالح بشخصه أتى لمدرستنا.. ومعه صديقنا الغالى و والده ..ناظر المدرسة كان بيسير خلفهم ولما افسحوا له المجال وقف بشموخ و قال: لن أسمح أبدا لأى مدرس أنه يهين اي طالب في مدرستي و زيارة الأستاذ مدحت صالح بنفسه بتقول لنا أنه موجود معانا عشان خاطر شريف تبع ذلك تصفيق حاد من نفس الطلبة اللى كانت بتسخر من وظيفة والد شريف و أما الفنان مدحت صالح فقال كلام بسيط مازلت أتذكره.. (لما نحب بعض مش هنتريق على بعض..كل مهنة لها احترامها طالما هى مهنة شريفة و مش بتضر الغير، لازم نراعى مشاعر غيرنا و نحب غيرنا زى ما هو..حبك لاخوك هو حبك لنفسك).
شريف دخل الفصل و قعد فى مكانه و راح له الأستاذ مدحت صالح بنفسه لحد الديسك بتاعه و حضنه بقوة وطبطب عليه و حضن والد شريف قدامنا و قدمه لنا و قال: ده الأستاذ (....) أفضل عازف في الفرقة..إنسان مجتهد و فنان و لو غاب عن الشغل في يوم فإحنا بنفقد أعظم و اهم جزء مننا.. شريف كان بيبكى.. وتأثر جدا بتكريم والده من فنان عظيم زي مدحت صالح. ومن وقتها تعلمنا أن السخرية مش وسيلة حتمية للتعبير عن الجهل و عدم الدراية و إن غيرك ممكن يكون أفضل و أحسن طالما إن عمله لم يكن سبب فى أي أذى لك.. كانت زيارة وكلمات مدحت صالح لها طيب الأثر في إنها تعيد الثقة لشريف في نفسه وفي والده الإنسان الخلوق المحترم ،و تدور السنين بسرعه و يصادفني " شريف" داخل أحد أروقة وزارة التعليم العالي وعلمت أنه أحد خبراء التطوير في مجال الفيزياء الحيوية فرحت جدا اني شوفته مرة تانية و تذكرت كل شيء وكأنه الأمس القريب تحية من القلب لمدحت صالح الإنسان الخلوق و بحق.
تمت.