من واقع الحياة! بقلم ندى يزوغ
في مقهى صغير يطل على المدينة العريقة بمكناس، خصوصا ساحة (الهديم) و (باب منصور العلج ) وفي زاوية هادئة اجتمعت إلهام أستاذة متقاعدة، حصلت على تقاعد نسبي قبل أن تبلغ سن التقاعد الرسمي نظرا لتأثير جو التدريس و التلقين و ضغوطات و إكراهات هذه المهنة المتعبة على نفسيتها و جسدها ، إذ أنها لم تعد تستطيع أن تسمع أصوات وضع التلاميذ لكتبهم و دفاتيرهم الخمسين على الطاولات و لا أن تسمع كلمة (متي) التي يختصرها التلاميذ عندما يطلبون منها الجواب على أسئلتهم التي أحيانا لا تخطر على بال، ربما ركزت على الأسوء في هذه المهنة لكي تعبر لضفة التقاعد النسبي و تجد لنفسها تأشيرة للخروج من هذا العالم المشحون دون إحساس بالذنب أو بالتقصير في أداء الرسالة التربوية التي كانت على عاتقها مذ سنوات خلت، و لم يشأ الله أن تكمل مشوارها كما مساطير وزارة التعليم ..
إلهام كانت شغوفة بدراسة الأدب في شبابها، لكنها تشعر الآن أنها أضاعت حياتها سدى، مرة تحمل نفسها مسؤولية هذا الإحساس بالضياع و الفشل و مرة ترجعها لظروف الحياة و إكراهاتها
أما هناء التي تعمل في التجارة الحرة، تبدو ناجحة من الخارج، لكنها تشعر بالوحدة والفراغ الداخلي.
و جلال رفيقهم الثالث كان شاعرا موهوبا في الجامعة،
دائما كنت تجده يجلجل بصوته الأجش وسط حلبات النقاش بخطبه التي كانت تدافع باستماتة عن الرفاق الماركسيين ضد كل تدخلات الإخوان المسلمين و التي غالبا ما كانت تنتهي بشجارات عنيفة، كان الحرس الجامعي يتدخل بقوة لإخراس الصراع الأرعن و وضع حد لشراسة الطرفين، لكن جلال الآن أصبح مترجما بائسا، بالكاد يكسب قوت يومه.
أما يوسف قائد المجموعة في أيام الجامعة فسيلتحق بهم فيما بعد .....
---
كانت الإضاءة خافتة، وجو المقهى هادئ.
إلهام تجلس وهي تقلب كوب القهوة أمامها، بينما هناء تنظر من النافذة بعينين شاردتين.
جلال ينفث دخان سيجارته بصمت.
بتنهيدة طويلة..
إلهام تخاطبهم: أتذكرون أيام الجامعة؟ كنت أؤمن أننا سنغير العالم...!
كنا نحلم كثيراً.
أليس كذلك !؟
أتتذكرون عندما كنا نتقمص أدوار الفلاسفة و المفكرين و الأدباء الذين كنا نحلم أن نصل إلى مربعات فكرهم و فطنتهم و شهرتهم؟
هل تتذكر يا جلال؟
نعم .. بالطبع أتذكر التفاصيل أيضا..
كان مقهى أدبيا (buvette)في وسط الجامعة في شمال المدرجات الجامعية ، يجلس فيه مجموعة من الطلبة المتقمصين لأدوار و شخصيات الأدباء والفلاسفة في دائرة دافئة..
سليمان كان هو من يتقمص (تشيخوف): و هكذا كان يحدق في فنجان الشاي، قائلا: (الحب، كما أراه، هو السخرية العميقة من النفس.
نحن نبحث عن السعادة في عيون الآخرين، ولكننا نعود في النهاية نكتشف أننا كنا نبحث في مرايا مكسورة.)
تتذكرين من كان كافكا إنه إلياس: كان دائما يردد بصوت فارغ: (الخذلان هو اللغة التي نتحدث بها مع أنفسنا.
نحن نمثل دور الشخص الذي يطرق الباب، لكن في النهاية، نكون غير مرئيين.
الحب، برأيي، هو قناع نرتديه لنخفي عزلتنا.)
تضيف هناء :ماركيز طبعا كان دوما من نصيب ماريا ربما لأن الحنين إلى أصولها الإسبانية كان يجعلها تتبنى أفكار هذا الشامخ قي نظرها : كانت تبتسم بخفة و تقول بقناعة: (لكن الحب، يا أصدقائي، يمكن أن يكون نوعا من السحر.
إنه يضفي لونا على الحياة، حتى عندما نواجه الخذلان. مثلما تتفتح الأزهار في موسم الجفاف، يمكن للحب أن يزهر حتى في أقسى الظروف.)
أتدرون أن للقدر دائما موعدا مع الإشارات و الأمارات..
الجميع: كيف ذلك يا جلال؟
أتتذكران من كانت تتقمص عملاق الروائيين الروس؟
إنها فايزة التي سافرت إلى روسيا بعد أن أحست أن الشهادة الجامعية المغربية خذلتها كما خذلت الملايين من الشباب مثلها و مثلنا..
( أنا دوستويفسكي يا سادة)
الجميع يضحكون و يرددون : لقد كانت تتحدث بعمق و تقول: (الحب والخذلان مرتبطان بعمق بقدر الألم والرغبة. نحن نحب، ونتعذب، ونتعلم من الألم.
الخذلان لا يعني الفشل، بل هو دعوة لنفهم أعماق الروح البشرية.
إنها طريقنا نحو الاكتمال.)
جميعهم يتبادلون نظرات تفهم عميقة، بينما تتلاشى الأضواء في المقهى، تاركة خلفها صدى ذكرياتهم عن آرائهم في الحب والخذلان، فرغم الاختلاف، فقد كانت خيوط مشتركة تلون مشاعرهم وتجاربهم.
هناء بسخرية مريرة :صراحة العالم لا يغيره الشعراء والحالمون؟
كنتِ يا إلهام تؤمنين بالكلمات، وأنا بالعمل الجاد، وجلال كان يؤمن بالأحلام... والنتيجة؟ خيبات بألوان مختلفة.
ضرب جلال على الطاولة بخفةو أردف يقول : لا تتحدثي عن الأحلام كأنها شيء سخيف.
على الأقل الأحلام لم تخذلني كما فعل الواقع.
تدخلت إلهام بابتسامة حزينة:آه على الأحلام؟ كانت أحلامي أن أكتب رواية عظيمة...!
الآن لا أكتب إلا مذكرات حزني.
أعدكم سأبدأ بمتابعة الدراما الكورية لألين مشاعري ،(تقول إحدى الصحف أن المسلسلات الكورية تحمل حلولا لمشاكل عدة لأنها تجد الحل في إقصاء تبلد المشاعر و العواطف)
تابعت هناء متحسرة : وأنا؟!
كل ما أملك هو مال لا يسعدني. !
في النهاية، حتى النجاحات تصبح ثقيلة حين لا تجدين من يشاركك إياها.
ابتسم جلال بتعب..
آه يا
رفيقاتي: حسناً، ربما أسوؤنا حالاً هو يوسف. أين هو؟ لقد تأخر ..!
لقد أخبرني أنه سيلتحق بموعدنا..
صراحة لقد كان يوسف دائماً الأكثر تفاؤلاً بيننا.
يدخل يوسف إلى المقهى ببطء، رأسه حليق، وعيناه تلمعان ببريق خافت.
كان يوسف يبتسم بصعوبة:
أ كنتم تتحدثون عني؟ لا أريد أن أصبح موضوع خيباتكم.
تنتفض إلهام واقفة يوسف! ما الذي حدث لك؟
جلس يوسف بهدوء، يتأملهم إنه السرطان اللعين يا أصدقائي....
صراع مرير لا يشبه تلك النقاشات التي كنا نخوضها عن الشعر و الحب و التاريخ و السياسة والفلسفة.
تضع هناء يدها على فمها، مذهولة: منذ متى؟ و كيف؟
(بهدوء مريب) منذ سنة تقريباً.
سأبدأ غداً رحلة أخرى مع العلاج الكيماوي... لكن لا بأس.
تنظر إلهام إليه بصدمة لا بأس؟ كيف تقول هذا؟
يبتسم يوسف بتعب لأنني عشت.! لأننا جميعاً عشنا.! خيباتكم، أحزانكم، حتى وحدتكم... كل ذلك حياة. أما أنا، الآن أفكر فقط في الوقت الذي يهرب مني.
لحظة صمت ثقيلة. الجميع ينظر إلى يوسف وكأنهم يرون حياتهم من منظور جديد.
و الدموع تنهمر من عينيها محاولة حجبها أردفت هناء مشجعة الجميع بما فيهم يوسف : علينا أن ننظر إلى ما لدينا بدلاً من التحسر على ما فقدناه.
أمسكت هناء بيد يوسف سنكون معك، مهما حدث.
ينظر يوسف إليهم بعينين واهنتين: هذا كل ما أحتاجه الآن. أن أكون معكم... أصدقائي، أسرتي الصغيرة.
يتلاشى الكلام و ينطق الصمت، بينما الموسيقى بالمقهى تصدح بمقطوعة بها روح التفاؤل.كأنها تتضامن مع يوسف لتعبر به إلى ضفة لا تحتاج الحزن و الإحباط و اليأس..