المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد مهاوش الظفيري
ميسر الشمري وتأزم العلاقة بين الروح والمادة
[poem=font=",6,,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,5," type=2 line=0 align=center use=ex num="0,black""] جوعان لون الشمس في ناظري دم = والليل يشعل من يميني فتيله
للتضحية فيني برآكين من هم = وللأرض عمرٍ شردته الرذيله
سرقت صمت الأرض وأعطيتها فم = ويا للأسف خان التراب بنخيله
خرجت مثل النور من لعنة الكم = وتفردت فيني حروفٍ أصيله
عسفت خيل الصوت في شارع الصم = وسكبت صوتي في أذان القتيلة
صرخت لين الصمت مني تعلم = معنى الخروج عن إفتراض الفضيلة
ومثل إنعتاق الموج عن صهوة اليم = جاء إنعتاقي بانحسار القبيلة
تمددت روحي على بقعة السم = وصار انتمائي لانتمائي جديله
ملكت أمري لكن الأمر ما تم = ورجعت أرد الأسئلة بالفشيله
مات الجميع وناظري يحترق دم = والليل يشعل من لحمنا فتيله [/poem]
قبل القراءة :
أذكر أول مرة سمعت فيه صوت ميسر الشمري , كان ذلك في يوم شتوي بارد , في شريط كاسيت مع سليمان المانع وضامن عبيد . لا أذكر , هل كانت أمسية شعرية أقامها هؤلاء الشعراء الثلاثة ؟ أو لعلها اختيارات منتقاة لقصائد الشعراء ؟ . منذ أن سمعت هذا الصوت علق اسمه في مخيلتي , لكن دوامة الحياة جعلتني أنسى أشياء كثيرة .
قبل شهر لمع اسم ميسر الشمري في ذاكري كقدح الزناد , أو كلمعة برق خاطفة وراء الأفق البعيد . ففتحت الجهاز , وأدرت محرك البحث , لكي يتقصى ديار هذا الشاعر ومضاربه الشعرية في الشبكة العنكبوتية , وجدت عددًا من النصوص , لكن هذا النص استوقفني , فجلست أتأمله لفترة من الوقت , قبل أن يتدفق الشلال في عروقي للكتابة عن هذه القصيدة .
الشاعر , مثقف وفيلسوف :
هذا النص يتحرك ضمن محورين : المحور الأول هو : مفردة " جوعان " الدالة على صوت الشاعر في هذا النص . والمحور الثاني مفردة " شردته " الدالة على علاقة الشاعر بالأرض . حيث أن المفردة الأولى ارتبطت بالإنسان من حيث كونه كائنًا روحيًّا , بينما ارتبطت المفردة الثانية بالأرض , لاعتبار أنها السياق المادي في هذا الجانب داخل النص .
الجوع مرتبط بالإنسان , وهو جوع معنوي مجرد خارج عن نسق الأشياء , منغمس بعذابات الإنسان اليومية كشخص بسيط , أو كإنسان مثقف يريد الانعتاق من إشكالية الواقع المريرة , لهذا كانت الصرخة التي أطلقها الشاعر ميسر الشمري من أول بيت في هذا النص , لم تكن صرخة فحسب بقدر ما هي حالة إنسانية أخذت شكل الاستفزاز العاطفي , إذ جاءت لها تداعيات كثيرة تفرعت في هذا النص من خلال هذه الأمثلة
- لون الشمس في ناظري دم
- للتضحية فيني براكين من هم
- سرقت صمت الأرض وأعطيتها فم
- صرخت لين الصمت مني تعلم
- ومثل إنعتاق الموج عن صهوة اليم …. جاء إنعتاقي بانحسار القبيلة
وذلك أن الجوع يتعدى دوره البسيط المباشر المتصل بالمادة , لأنه يمزج الروح بالمادة , ويصيب الجائع بالصدمة التي تخلخل علاقته مع الواقع " لون الشمس في ناظري دم " , هذا من جانب , ومن جانب آخر يخلق لديه الرغبة في الاندماج بصخب الحياة لإنقاذ نفسه ولتحقيق التوازن الإجتماعي مع الحياة والناس " للتضحية فيني براكين من هم " لأن هذا الموقف يخلق من الإنسان الجائع إنسانًا آخر متطلعًا إلى تحقيق حياة أكثر سعادة , وذلك أن عامل التضحية محفز على خلق واقع أكثر نقاء وأكثر حيوية .
إن هذه الحالة التأزمية مع الجوع كان لها بالغ الأثر على سلوك الشاعر الظاهري الذي أوضحناه هنا , غير أن لهذا الجوع جانب آخر , وهو جانب نفسي على الرغم من وجود مؤشرات ظاهرية على هذا العامل النفسي
- سرقت صمت الأرض وأعطيتها فم
- صرخت لين الصمت مني تعلم
- ومثل إنعتاق الموج عن صهوة اليم … جاء إنعتاقي بانحسار القبيلة
وذلك أن الجوع يدفع صاحبه للسرقة والتخلي عن بعض مبادئه الروحية التي اعتاد عليها , ولأن الشاعر يتعامل مع جوع فلسفي ومعرفي وثقافي أكثر من كونه جوعًا ماديًّا بالدرجة الأولى , أو لعله جوع مادي , غير أن مقدرته الأسلوبية ولغته الشعرية مكنتاه من تغليف هذا الجوع بطابع الفلسفة والتأمل , لهذا كان استحضاره لموقف السرقة , وذلك من خلال قوله " سرقت " كمؤشر على هذا التلازم النفسي والمادي ضمن هذا السياق , لكنه جوع الأديب إلى الأدب , وتعطش الشاعر إلى الشعر , وتوق الفيلسوف إلى الفلسفة , لهذا قال : " سرقت صمت الأرض وأعطيتها فم " , لأن هذا الجوع جوع محرض على رفض الصمت والانعتاق من أي تردد , فهو جوع نبيل يحرض صاحبه على السرقة من أجل الإطعام , إنه جوع الصعاليك الذين نذروا أنفسهم للضعفاء , لأن الناس والمجتمع جبلوا على الجشع وامتصاص دماء بعضهم بعضًا , لهذا يعلن رفضه لرتابة الصمت والسكوت , رافضًا سياسة الإذعان " سرقت صمت الأرض – صرخت لين الصمت " لأن جهاده ونضاله كان ضد الخوف الكامن وراء الجوع , أو المسيطر على الإنسان الجائع .
وكما قلنا عن هذا التداعي الإنساني الصارخ في وجه المجتمع الجشع الذي ولّد آلاف الجائعين والمهزومين , ها هو الشاعر ميسر الشمري , يرفض هذا العقد الإجتماعي الظالم , الذي انقلبت لديه المفاهيم , وانزلقت وراءها القيم الإنسانية في مجاهل من اللاشعور بالآخر
ومثل إنعتاق الموج عن صهوة اليم
جاء إنعتاقي بانحسار القبيلة
فهذا الانحسار هو انحسار نفسي فلسفي , يتمركز في نقطة اللاوعي عند الشاعر , نابع من رفضه لهذا الخوف الذي عبّر عنه بالصمت , لأن الصمت تربة خصبة للجوع والإحساس بالتلاشي في صخب الحياة , والضياع فيما بعد , لهذا يعلن الشاعر رفضه لهذه النمطية الإجتماعية التي كرست ثقافة القمع الفكري والكبت النفسي والروحي , وأشعلت براكين من الغضب في وجدان الشاعر كمثقف وكفيلسوف , يعمل على منطقة الأشياء للتخلص من عبث الحياة .
الأرض والموقف من الرذيلة :
أما ما يختص بالأرض , والتي من الإمكان النظر إليها أنها المادة , والتي تقابل الروح , وهو الإنسان في هذا السياق . فهذا الرفض الذي حدث للإنسان أثناء تماسه مع الواقع , واكبه تشتت وضياع انعكس على علاقته بالأرض , فالجوع الذي حكم على الإنسان داخل الشاعر بالكبت والشعور بالقهر , والنفي الروحي وسط محيطه الإجتماعي , كان له بالغ الأثر في علاقته مع الأرض , التي عبّر عنها الشاعر " وللأرض عمرٍ شردته الرذيله" , وذلك أن التشريد واقع تحت تأثير الرذيلة , بمعنى أكثر إيضاحًا , الجوع الذي أحدث لدى الشاعر الرغبة بالتضحية والإحساس بالقهر والصمت , لأن هذه الجوانب مرتبطة بالإنسان , فإن ارتباط التشريد بالأرض له علاقة بالرذيلة , وذلك أنه التقى العنصران , وهما عنصر المادة بالمادة , أي أنه التقت الأرض كجسم مادي مباشر , بالرذيلة كمفهوم حسي مجرد دال على تهافت الإنسان على المادة . في الوقت الذي كان يمثل فيه الجوع القدرة على التحمل والبذل والصبر , فإن قول الشاعر " شردته " تمثل الموقف الدال على الضياع الحسي في هذا الطوفان المادي المتصاعد , ولأن الشاعر شخص رافض لذلك الجوع الجاثم على النفس , ها هو يرفض هذا التشريد الممزق للجسد , لذا يأتي بالعبارات الدالة على هذا التوظيف , لكن من زاوية الممانعة والرغبة في تمزيق هذه المادية الممتدة على الأرض
- خان التراب بنخيله
- خرجت مثل النور من لعنة الكم
- معنى الخروج عن إفتراض الفضيلة
إن هذا الحضور الواضح لهذه العبارات التي تدل على الرفض , وتلازم المسار الحسي مع المسار النفس في هذا السياق , مؤشر على تواجد الموقف الإنساني المتمسك بضرورة العيش بعيدًا عن هذا الرضوخ , فقوله " خان التراب بنخيله " عبارة جاءت كاتفاق على تأزم التشرد , رغم تأسف الشاعر على هذا الموقف " ويا للأسف " التي لم تكن إلا تعبيرًا عن هذا الشعور بالانكسار , لأنه أحس بتشظي العلاقة بين الفضيلة والرذيلة , باعتبار أن الفضيلة كانت افتراضًا , بينما كانت الرذيلة قوة فعلية قادرة على إحداث الخلل في علاقة الروح بالمادة .
هذا الوقوف الذي اتسم بطابع العنفوان , دفع الشاعر للخروج , وهو خروج من بوابة الضوء , لأن الرذيلة وجه آخر للظلام والإنكفاء على ملذات المادة " خرجت مثل النور من لعنة الكم " وفي هذا التوظيف استحضار غير مباشر لِمَا قاله في هذا النص
ومثل إنعتاق الموج عن صهوة اليم
جاء إنعتاقي بانحسار القبيلة
وذلك أن " لعنة الكم " توظيف يدل على مهارة شعرية وحس شاعري على مدلول القبيلة , التي شكلت لدى الشاعر كفيلسوف وكمفكر معولاً من معاول الهدم الحضاري , لأنها تجعل المجتمع يتشظى , ويعمل على تفتيت النسيج الإجتماعي , لأن القبيلة - وحسب هذا الفهم الواعي الذي استنبطناه من سياق هذا النص - وجه من وجوه التعصب والإنعزال داخل النسيج الجمعي للناس , لهذا أورد الشاعر " لعنة الكم " لتدعيم هذا التلازم المعرفي ضمن هذا النسق الشعري .
هذا الكلام قادنا إلى مسارين في هذا العمل الشعري
المسار الأول : مرتبط بقناعات الشاعر كإنسان خالق لهذا النص , وهو ما قمنا بالتقديم عنه من خلال تلك الرؤية الفكرية , والتي تشابكت وتباعدت كما تتشابك المشاعر وتتباعد
والمسار الآخر : هو قدرة الشاعر كإنسان على التغيير , وإحداث الخلخلة في هذا النسيج أو ذاك .
الإحساس بالفشل :
ليس من مهمات الشاعر الوصول للحقيقة , لأن الحقيقة قيمة إنسانية مطاطية قابلة للتمدد والاختزال , هذا من جانب , أما الجانب الآخر فهو مرتبط بماهية الشعر , من حيث كونه قيمة جمالية تعكس الموقف الذاتي للإنسان المبدع للنصوص الشعرية , وعلى هذا الأساس قد يصاب الشاعر بالإفلاس , أو الشعور بالخيبة , وهذا ما حدث في آخر النص
تمددت روحي على بقعة السم
وصار انتمائي لانتمائي جديله
ملكت أمري لكن الأمر ما تم
ورجعت أرد الأسئلة بالفشيله
مات الجميع وناظري يحترق دم
والليل يشعل من لحمنا فتيله
لقد حاول الشاعر طوال تلك الفترة على إيقاظ الضمير في ذات الإنسان , لأن الضمير يدفعنا للإحساس بالواجب , وفعل ما هو من الإمكان القيام به , غير أن الشاعر الذي بدأ متحمسًا ثائرًا في أول النص , إذ كان الجوع والتشرد محفزان قويان له , رغم بشاعة الحالتين أو الموقفين , وذلك أن الإحساس بالألم جزء من تصور حل المشكلة , إلا أنه في نهاية المطاف , بدأ بالانحسار والتراجع , وذلك من خلال هذا الواقع الذي صار شاخصًا أمام ناظريه
- تمددت روحي على بقعة السم
- ملكت أمري لكن الأمر ما تم
- ورجعت أرد الأسئلة بالفشيله
- مات الجميع وناظري يحترق دم
- والليل يشعل من لحمنا فتيله
فهذه المقاطع صورت لنا الشاعر بأنه شخص متراجع ومهزوم , حيث أن روحه لم تعد روحه , وفقد السيطرة على حاله , وعاد من مشواره يجرر أذيال الانكسار والهزيمة , بعد أن خسر الجميع , وفقد الإحساس بالطبيعة من حوله . لقد خفت في وجدانه صوت الإنسان المتطلع أمام سطوة الظلام الذي صار يقتات على الإنسان في داخله .
|