غفت عقيق بعد ان تجددت وصلت الفجر ومن ثم تبعته بصلاة من ركعتين تطلب فيهما اشارة الفأل ودرب الخروج من خندق الحيرة التي تناوبتها واستنكرتها لإن النجيبة لم تذكر لها الاخ ولا قرنته بالمجنون ىلم تر في حياتها علامة واحدة تدل على كا يجمعهما ، انما تطابق باقي الأمر والخريطة والخاتم والنبع ثلاث اثافي تُركز المعنى وتشعل حس الإقدام لديها هي التي تعلمت كيف تطيع حدسها وتتبعه
في الغفوة زارتها السيدة ، ضمت راس عقيق الى صدرها وقرأت عليها (الم نشرح) ومسحت على رجليها ممرة المسك والصندل وخطت بماء الزعفران المحمر على كاحل قدمها اليمنى مثل خلخال يعانق الخطوة حروف تتجمع في صحن الكاف من الكمال والهاء من الهداية والياء من اليُمن والعين من علو والصاد من الصبر
وهمست في أذنها بصوتها المهيب ( لا تحزن فإن الله معنا)
فزت عقيق مضطربة ، لم يكن حلما هذا الذي كانت فيه ، كانما خطفتها يد الى عالم آخر له طقس لم تره من قبل ونور يضيء المكان من دواخل البشر فيه واصوات تترنم في دعةٍ وهدوء ، اتاها النبأ اذاً هذا ما فكرت فيه فزال ارتباكها، تحدثت الى انعكاسها في الماء وهي تنثره على وجهها المشرق ، ثم قالت بصوت مسموع فرح
يا خال اُذن لنا بالمسير في الدرب الذي اخترنا
لديها اليقين بأن رحيلها واجب يلزمها تحقيقه وانه الصحيح من الدروب ، تعرف ايضا انها اختارت الطريق الوعر البعيد المتعب ، هدفها حتى البارحة كان التحرر من عُرف القبيلة وحكم ابيها عليها بالزواج ممن لا تريد، لكنها الآن وقد انفتح لها الجدار وخرجت الى نور القمر الساعي الى اكتماله ، لا صحبة لها الا خال لم تعرف عنه الا ما قاله ، متفائلة بحلم او نبوءة اتتها بأنها ستصل الى ما تبتغيه ، لا مال ولا زاد عارية عن النسب الحامي والعزوة التي لم تتكيء عليها عندما بُذلت لها وتخلت عنها طواعية ، كل ثيابها ما ترتديه وكل متاعها خاتم فيروز وعباءة جدتها وعصا وضعها في يدها الخال في اول خطوة وقال لها عندذاك
( لسنا وحدنا، لن نكون ، هذه العصا لا تفارقيها ولن تفارقك، ان حدث لي شر من هوام الليل او وحوش النهار او جنس البشر لوحي بها ثلاثاً وستنجين معها بإذن اللطيف الخبير) ثم دخل الى صمت متلثما ً يهم امامها ولا يلتفت وهي تتبع خطوه
قبل ان ينتصف النهار ، وجدا واحة صغيرة ، استظلا تحت نخيلها وشربا من نبعها ووجدا قرب النبع قربتين من جلدٍ محروق ، منقوش على جوانبهما كلمة (الواهب) ، اخذهما الخال وتفرس فيهما حتى رأى ما اراد ، ثم عسلهما وملئهما بالماء ، وربطهما الى حزامه ، وبينما هي تراقبه لمحت رجلا يتقدم نحوهما فقفزت الى الوراء متوفزة، حتى اقترب فاستشعرت طمأنينة ، اندهشت لهدوء الخال حين وضع الغريب يده على كتفه وأدار جسده له ، كأنه ينتظره ، تعانق الرجلان بلا حديث وابتسما لبعضهما وأومأ لها الرجل يقرأها السلام ثم نادى بلغة غريبة وبلحن مختلف وهو يلتفت الى الوراء فاقترب ثلاثة من الرجال وجارية يمسكون بعنان ثلاثة احصنه طيعة ، تزودوا بالماء وبعض الرطب والنبق من نخيل الواحة وسدرتها وكان قد اتى العصر
اقتربت الجارية والذي عرفت عن نفسها بإسم (سلمى) من عقيق واستاذنتها ان تإخذ بيمناها ، تناولت اليد التي تتمسك بالعصا واركزتها في الرمل الحر الذهبي ثم اخذت تدور حولها وتُدير معها العصا وي بين اصابع عقيق ، ثم اوقفتها ورفعتها عن الإرض فوجدوا سهما يشير الى الشمال
ترأسهم الخال ووضع عقيق خلفه وسلمى خلفها والغريب في آخر الصف يمشون في الجهة التي عينتها العصا والرجال يمتطون الخيول ويدورون حول القافلة الصغيرة
استمروا في المسير حتى غابت الشمس ، جمعوا بعض الحطب واشعلوا نارا وجلسوا حولها في صمت ، كل غارق في افكاره حتى سمعوا صوت آدمي يصرخ ويستغيث
طلب الخال من رفيقه ان يتفقد الصوت ويغيث المستغيث ، أخذ الرفيق معه احد الرجال وذهبوا جهة الصوت ، غابوا بعضاً من الوقت ، عادوا ومعهم امرأة وولد صغير في سنينه الأولى محمولاً على ظهرها وشيخ كبير يسنده الرجلين ، اجلسوهم حول النار ودثروهم بما وجدوا ، اطعموهم بعض النبق المتبقي وقليل من الماء ولما استراحوا قليلا
قال لهم الخال (آنسوا ليلنا بحكايتكم وسر خروجكم الى الصحراء )
كانت لهم هيئة من عبر في حياة مترفة وهينة ، لم تنل الصحراء منهم بعد ، تنهد الشيخ ، صمت قليلاً ثم قال
( كنت شيخ قبيلة تسكن اطراف الجبل الخامس ، ورثت المشيخة كابر عن كابر ، ما اجتهدت لها ولا تغيرت فيها، وكنت اظن المجد خالد والسلطان مقيم فينا ، نزرع ونأكل ، ارضنا خصبة ولنا سيل يكفينا الظما ، وفي ارضنا عرق ذهب كريم يجود كلما عازنا المال ، وكنا عوائل محدودة العدد ، ارسلنا الشبيبة للتعلم في الجانب الآخر وعادوا بأنواع الحرف والعلوم فأزدهرنا وطاب عيشنا حتى آمنا ان حظنا وافر وبقاؤنا مضمون ، زاد فينا الترف وتمرغنا في نعمة الوفرة سبع سنوات حتى لم يتبق لنا ما نطمع فيه او نطمح اليه ، لي من الدنيا زوجة حبيبة استنجبتها هذه الإبنة التي تصاحبني وتوفاها الله ، زهدت في الزواج وعشت حياتي منقطعا لإبنتي ، سعيد بما حولي، يحبني اهل مشيختي واقيم بينهم في عدل ومحبة ، حتى زارني نخاس في العام المنصرم في وقت الحصاد، لديه ثلاث جواري ملاح وعرضهن علي ، دخلت في خاطري اقلهن جمالاً واكثرهن هدوءا ً واكبرهن سناً لأنني احسست بها مختلفة وكانت نظرتها لي تحمل مودة فائضة ، طلبت ان اتحدث اليها على انفراد فأخذت لبي بصوتها وجرسه وكلامها الذي سمعته بقلبي ، مختصر الحديث، اشتريتها بما طلب وجازيته فوقها ، وعشنا اربعين يوما لم تخطر لي على بال ، لم أكن لأتخيل انني في الارض ، اعتبرتها كائن ارسله لي المولى من ارض النعيم ، ثم عتقتها وتزوجتها رغم معارضة ابنتي وزوجها ومن حولي ، وبعد وقت قصير بدأت المصاعب في بلدتنا، اول الأمر اتتنا جيوش من الافاعي لا نعرف كيف ولا لماذا ، بدأت تقتل الناس وتقرصهم في نومهم ، لم يبق بيت الا واقام العزاء في حبيب او قريب، قالت لي حاشيتي، هذه المرأة شؤم ووبال، عارضتهم وامرتهم ان يجتهدوا في اعمالهم ويجدوا جحر الأفاعي ويدمرون بدلاً عن التمسك بخرافات واساطير لا تحل ولا تربط ، بعد ايام وجدو جحرا قد امتلأ ببيض الافاعي السامة ودمروه وحرقوه ىقتلوا الافعى الام الكبرى وارتاحت العامة قليلا حتى بدأ وباء آخر ، اصبحت الارض مسكونة بالآفات، وانتشر الفساد في الثمر كما النار في الهشيم وبدأ مخزوننا ينقص ، توافق ذلك وتاخر قوافلنا في الوصول بما نستورده من الجانب الآخر من الجبل ، ولم يعد من خرج من الفرسان للبحث عنها ، تضورنا من الجوع وانحسرت ايام الرخاء سريعا، تململ الناس وبدأوا بالثورة على الوضع وطالبوني بتطليق المرأة وحرقها واتهموها بالسحر وهي صامتة لا تجيب احدا ولا تتحدث حتى معي ، وبعد ان انتشر مرض غريب يبدأ بالحمى ثم يذهب بعقل الرجال واصاب زوج ابنتي ورئيس جيشي ، تجرأت وسألتها ، استمهلتني في الرد ودخلت الى غرفتها وعندما خرجت ، رأيت امرأة مختلفة لا تشبه من احببت واصطفيت ، توجهت لي وانا في الفجاءة وقالت،( سيأتون لسلبك كل شيء عاجلاً فان كنت تريد النجاة سأسمح لك بالخروج بما ترتدي انت وابنتك وحفيدك وسأكذب على سيدي واقول انني قتلتكم فإن لم ترد الموت حقا لا تعود ولا تربي حفيدك كوريث لما تظن انك تملك، تذكر انك ولدت بلا ميزة سوى ميراثك وانك ما تعبت فيه ولا له فتخلى عنه وفز بحياتك) لم افكر ، هرعت لابنتي الحزينة وولدها الذي امرضه فقد والده واخذتهما معي ومشينا كل الوقت حتى انتهى ما اختلسته من طعام وشراب وبدأ الطفل يغيب عن وعيه وآنسنا ناركم فصحنا نستعطي الله الغوث مما نحن فيه، هذي حكايتي فإن اردتم رافقناكم ، لن اعطلكم او اعيقكم، نطلب الصحبة للعزوة والأمان فإن اصبحنا عبئاً علينا تخلوا عنا في اقرب واحة ، فقط ارجوكم دعونا معكم نحتمي بكم من مجهول هذا الليل )
قالت عقيق لنفسها ( لم تعد تفاجئني هذه الحكايا ولا اريد فقد ايماني بقلوب الناس ايضاً لذا لا بد للخال ان يقبلهم بيننا وان تاخرنا بهم قليلا)
بادر الخال بالرد وقال( اهلا بكم بيننا ، سنصحبكم معنا بلا شرط ، ما يكفينا يكفيكم)
وهكذا غفت القافلة الصغيرة وتناوبوا على الحراسة حتى باغتهم الفجر وقاموا له وبدأوا في السير جهة الشمال يتتبعون خريطة تتغير قي ايديهم وترسل السهام يمينا ويساراً ووصلوا الى مشارف بلدة صغيرة بعد مسيرة نهار وقبل الغروب بقليل ووقفوا ببابها ينتظرون الاذن لهم بالدخول
يتبع