:
كان يسمى بالمجنون، لأنه لا يصدق الصور.
فيرفض كل ما يراه على الشاشات والمجلات واللوحات والملصقات.
ويقول إنها كلها كذب وتزوير وتلاعب.
كان يحب أن يسمع الأصوات التي تأتي من ردهات المستشفى،
كان لا يحب أن يسمع ما يقوله الأطباء عن حالته الرديئة وعن العالم.
كان يتمنى أن يسلم لهم بالبوح بكل ما في رأسه،
حتى لو كان ذلك يجعلهم يضحكون عليه أو يعاقبونه أو يحقنونه.
:
كان يسمى بالمغامر، لأنه لا يبحر في الألوان.
كان يرفض كل ما يلونه الناس بالفرحة والحياة والجمال.
ويقول إنها كلها وهم وخداع وتضييع.
كان يحب..
أن يغوص في الظلام والسواد والرماد.
وأن يصل إلى أماكن لا ترى، حيث لا يوجد أحد غيره.
وأن يضيف لمتحفه القديم، الذي كان يخبئه في زاوية من غرفته،
المزيد من الجزر العائمة فوق الذاكرة.
كانت تلك الجزر مجرد قطع من الورق الممزق والمكتوب عليها بعض الكلمات والرسومات.
:
كان يسمى بالمحير، لأنه لم يكن متمرساً في فك طلاسم خطوط الأطباء الرديئة.
كان يرفض كل ما يكتبونه عنه في الملفات والتقارير والوصفات.
ويقول إنها كلها أكاذيب وتجارب وتعذيب.
كان يحب..
أن ينسى نفسه في الحيرة، التي كانت تملأ رأسه بالأسئلة والشكوك والتناقضات.
وأن يعبث في مرحلة شبابه، وغالياً في أوقاته المملة،
فكان يقلم أظافر الوقت ويحاول أن يلونها بكل الاحتمالات غير الممكنة.
وأن يمد ساق الزمان لمناورة غير عفوية،
فكان يفاجئ الأطباء بردوده وأفعاله وهروبه.
:
كان يسمى بالمدمن، لأنه لا يرفض ادعاء الفناجين التي تفيض بالكافيين.
كان يقبل كل ما يقدمونه له من قهوة،
سواء كانت ساخنة أو باردة، برغوة أو بدون رغوة، حلوة أو مرة.
ويقول إنها كلها حقيقة ونعمة وشفاء.
كان يحب..
رائحة القهوة، وخاصة رائحة القهوة غير الرديئة، فهي كانت ترضي ذائقته التي لا تخطئ.
وأن تكون القهوة برغوة من البن الفاخر، لأن مزاجه كان يتحسن والآثار الجانبية مدهشة.
:
كان يسمى بالمبدع، لأنه لا يدري من تسبق الأخرى، الفكرة أم اللغة.
كان يخلق كل ما يريده ويقوله بطريقته الخاصة، ويقول إنها كلها إبداع وتعبير وحرية.
كان يحب..
أن يأخذ بيد الفكرة واللغة تحديداً، ويقدم لهما خيالاً لا ينتهي.
وأن يقص نهايته بالنوم، فكان يدخل في عالم الحلم، حيث كان يتجاوز المستحيل ويعيش ومضة الإمكان.
كان يعلم أن الماء قريباً وفي متناول الفم، لكنه أراد أن يكون هو الذي يحمل الغيم إلى حيث يحب،
وأن يكون..
حراً من السانحات والحياء،
ومتوازناً بين التردد والقلق،
ومحافظاً على الصفحات التي دونها بفخر وثقة،
ومستعداً لحياته التي تبدأ كل يوم بابتسامة بعد أن يستدير لتلك الصفحات وجه القمر.
:
إنها قصة المجنون والمغامر والمحير والمدمن والمبدع، الذي كان لا يصدق الصور.
هذه هي قصة إنسان عاش في عالمه الخاص،
بعيداً عن الواقع والحقيقة والمنطق الذي يدعيه الناس.
هذه هي قصة إنسان شعر بالحيرة واليأس والملل والقلق والتردد والتأجيل، لأن لديه مفاهيم لم يشأ العالم من حوله فهمها كما يود أن يقوله هو.
وحلم بالإمكان والمستحيل والوجود والعدم.
وكتب بلغة جميلة ومعبرة وشاعرية.
:
لقد بنى الكاتب على أوراقه مدينة كبيرة ومزدحمة، بالصور التي تملأ كل شيء (المباني والسيارات والمحلات والمطاعم والملاهي والمتاحف).
وكانت الصور تعرض الأخبار والإعلانات والبرامج والأفلام والألعاب والفنون.
وتنقل الرسائل والمعاني والقيم والمشاعر والمواقف.
لكنه وبالرغم من هذا لم يصدق الصور، لأنه يراها كلها كاذبة ومزيفة ومضللة.
هي فقط مدينته المسطرة على ورق!
كانت الألوان تغمر كل شيء:
تزين السماء والأرض والبحر والنهر والحدائق والحقول.
وتعكس الضوء والظل والحرارة والبرودة والرطوبة والجفاف.
وتمثل الفصول والمناسبات والأذواق والأمزجة والأحاسيس والأحلام.
لكنه لم يبحر أكثر في الألوان، لأنه يراها كلها وهمية وخادعة وتافهة.
ويريد أن يضفي مساحته بمفهومه الخاص.
كان يحب..
أن يصل إلى أماكن لا مرئية، حيث لا يوجد أحد غيره.
وأن يضيف لمتحفه التليد، الذي كان يبنيه في غرفته الصغيرة،
المزيد من الجزر العائمة فوق الذاكرة.
كانت تلك الجزر مجرد صناديق من الكرتون والخشب والبلاستيك، كان يجمعها من الشوارع والسوق وأماكن أخرى.
:
هذا النص هو نص إبداعي يعبر عن حالة نفسية وروحية للكاتب.
فيستخدم الصور والألوان والقهوة والفكرة واللغة كرموز ومجازات للتعبير عن مشاعره وأفكاره وتجاربه.
الكاتب يعيش في عالمه الخاص، قريباً عن الواقع والحقيقة والمنطق الذي يقتنع به.
الكاتب يشعر بالحيرة واليأس والملل والقلق والتردد والتأجيل،
لأن من حوله يحتاج إلى وقت كي يستوعب فلك الكاتب الذي يحلم بالإمكان والمستحيل والوجود والعدم.
الكاتب يكتب بلغة جميلة ومعبرة وشاعرية، قد تبدو غير واضحة وغير منطقية،
لكنها متسقة مع الحالة التي يريدها هو (ماذا لو كنت لا تصدق الصور؟).
ماذا لو كنت ترفض الصور التي تراها وتسمعها وتقولها الناس؟
ماذا لو كنت تبحث عن الحقيقة وراء الصور؟
ماذا لو كنت تنتقد الصور وتحللها وتفسرها؟
ماذا لو كنت تخلق صورك الخاصة وتعبر عنها بطريقتك الخاصة؟
:
إجابة واحدة فقط..
إذا كنت لا تصدق الصور، فقد تواجه آثاراً وتحديات وفوائد مختلف.
:
لأن الصور هي وسيلة قوية للتواصل والتعبير والإقناع.
ونحن نعتمد على الصور لنقل الأخبار والمعلومات والمشاعر والآراء.
ونستخدم الصور لتزيين مساحاتنا وتخزين ذكرياتنا وتعزيز هوياتنا.
ونستمتع بالصور للترفيه والتعلم والإلهام.
لكن هل نعرف حقاً ما تعني الصور؟
هل نثق فيها بشكل أعمى أو ننتقدها بشكل نقدي؟
هل نسمح لها بأن تحدد لنا الواقع أو نبحث عن الحقيقة وراءها؟
:
النص الإبداعي:
ليتني لا أصدّق الصّور، وأحدّثكم عمّا أسمعُ في ردهاتها، وما استسلمتْ بالبوح لي به بلا أي حذر.
ليتني لا أبحرُ في الألوان. فترغمني نشوة المغامرة بأن أصل لأماكن لا مرئية،
وأضيف لمتحفي التليد المزيد من الجُزر العائمة فوق الذاكرة.
:
ليتني لم أكن متمرّسة في فكّ طلاسم خطوط بعض الأطبّاء الرديئة، حتى أنسى نفسي في الحيرة.
الحيرة التي تبعث الشباب في أوقاتي المملّة،
فأقلّم أظافر الوقت وألوّنها بكل الاحتمالات غير الممكنة،
حتى أمدَّ ساق الزمان لمناورة غير عفوية.
:
ليتني لا أرفض ادّعاء عشرات الفناجين تلك التي تفيض بالكافيين،
لأن رائحتها خذلت ذائقتي التي لا تخطئ،
تلك القهوة لم تكن فائرة برغوة وغمرة البن الفاخر..
مهما كانت حاجتي للقهوة لكن مزاجي يسوء مع البن الرديء وتكون الآثار الجانبية كارثية.
:
لا أدري من تسبق الأخرى، الفكرة أم اللغة؟!
من تأخذ بيد الأخرى تحديداً، وتقدّم لها خيالاً لا ينتهي!
:
أقصّ نهايته بالنوم فيتشعّب في الحلم إلى مسارب المستحيل وأعيش ومضةَ الإمكان..
كم كان الماء قريباً وليس في متناول الفم ...!
كم كان يحملني الغيم لكن ليس حيث أحبّ!
كم كبّلتني السانحات بعطوف الحياء!
كم أرجحني التردد على أشجار القلق!
كم مرّ من الوقت وأنا أمزّق الصفحات التي لم أدوّنها متعلّلة بأنها زلّة قلم،
مرجئة حياتها ليوم فيه يستدير وجه القمر..
:
نقاط إيجابية وفوق العادة:
لقد استخدمت لغة جميلة ومعبرة تنم عن خيال غني ومشاعر عميقة.
أحسنت في استخدام الصور البيانية والمقارنات والتشبيهات لإيصال رسالتك بشكل فني وشاعري.
لقد أظهرت قدرة على التنويع في الجمل والفقرات والتراكيب اللغوية.
لم تكرر نفس الكلمات أو الأفكار بشكل ممل أو مبتذل.
بل على العكس، لقد أبدعت في استخدام مفردات متنوعة ومناسبة للموضوع والمضمون.
لقد أبقيت القارئ مهتماً ومتشوقاً لمعرفة المزيد من خلال استخدام الأسئلة والتعجبات والتناقضات والتحديات.
لقد خلقت جواً من الغموض والتشويق يحفز القارئ على التفكير والتأمل فيما تقوله.
:
أخيراً..
سيرى القارئ في النص أشياء لم يصرح به الكاتب مثل:
:
لو أنني أنكرت الصور، وسكتت عما أرى في أروقتها، وما أسرتْ لي به من أسرار بكل جرأة.
لو أنني أهملت الألوان.
فتمللت من روح المغامرة التي تدفعني لأماكن لا ترى،
وأحرقت متحفي القديم الذي يضم الجزر الغارقة في بحر الذاكرة.
:
اللغة أم الفكرة؟!
من تمسك بيد الأخرى بثبات
وتمنحها خيالاً لا ينضب!
أمتدّ نهايته باليقظة فيتحول إلى حقيقة تتجاوز المستحيل وأعيش لحظةَ الوجود..
كم حررتني الفرص من قيود الخجل!
كم أوزنني الحكمة على أغصان الهدوء!
كم زال من الوقت وأنا أحتفظ بالصفحات التي دوّنتها معتبرة بأنها ثمرة قلم.