*
نعم شجرة ..
شجرة يُشبهُ لحائها وجوهَ الجدّات , و تبرزُ أغصانها متفائلةً كأوردةِ الملّاحينَ القدامى ,
و تتبعثرُ أوراقها كضحكاتِ الأطفال قبلَ اغتصابِ الفرحِ بابتسامةٍ على الأقل !
ظننتُ دوماً انّي سنونوة , و حينَ وقفتُ يوماً على ذراعِ الأميرِ النّبيلِ في " مونتي كارلو " ,
علمتُ جيّداً أنّ رائحةَ الدّراقِ على أجنحتي أوحَت إليهِ بأن يذرفَ دمعةً بطعمِ اللّؤلؤ ...
ظننتُ خاطئةً أنّ لي أجنحة و أنّ أقدامي تنعمُ بحريّةِ الفضاءاتِ الهاربة من حدودِ الأزمنة ,
وددتُ لو كنتُ طائراً أكبر , بحجمِ يديكَ مثلاً , أو ربّما بطولِ أنفاسكَ و هي تردّدُ اسمي ..
حينَ اكتشفتُ أنّ أقدامي عالقةٌ برملِ حلمٍ مشبوه , و أنّ رائحةَ ترابِ وطني تفوحُ من دمي فتزرعني هُناكَ جُذعاً مكلوماً بأوعيته ,
و أنّ كلّ الرّقصاتِ الّتي تمرَّنَتْ عليها يدايَ ما كانت إلا كخيالِ مريضٍ يحلمُ بالشّفاءِ و هو على سرير الموت ..
حينها علمتُ أنّ الفرحَ كائنٌ أسطوريّ يُشبهنا , على مقاسِ خيباتنا , نحلمُ بهِ حتّى يتمثّلَ لنا بهم , ثمّ يتلاشى كدخّانِ عرّافةٍ محترفة !
:
تحتَ ثيابي كانت هناكَ امرأةٌ أخرى ,
لا ..
ربّما كانت حقيبةً لازورديّةَ الشّكلِ مختومةً بتواضعِ غرورٍ أتقنَ التّمثيل ,
أو ربّما كانت بضعةَ اسطواناتٍ بلحنٍ غريبٍ كـ " سوناتا " الوجع في لحظةِ تحرّرٍ من النّوتة !
شيءٌ ما غيري كانَ هُناك , كانَ يدركُ أنّني حينَ ألقاكَ سأتكوّم , و لذا كان يفردُ يديهِ و يقصُّ أصابعَ الغيابِ و يملأُ جبهتي بدمعه ,
شيءٌ ما كانَ يمنحني صوتاً لا أملكه , لأتظاهرَ امامكَ انّني لا زلتُ أنا , طفلةً بنكهةِ شجرةِ ليمون ,و لقلقلاً حزيناً لا يملُّ الوقوفَ على قدمٍ واحدة !
لذا كانَت كلماتي تُصبحُ فراشاتٍ منَ الدّانتيل الّذي تعشقهُ و هو يطوّقُ جيدي ,
و كانت حروفي تتحوّلُ إلى بقعٍ قرمزيّةٍ على مساءِ البحيراتِ المكتئبة فتمنحها شرفَ الموتِ بفرحةِ العناقِ الأوّل لبجعةٍ بيضاء ..
لذا كنتُ أنا هُناكَ ألتحفُ حلماً دائريّاً على مقاسِ اصبعي , و أناشدُ حلماً آخر ألا يتوقّفَ عن البُكاء ..
:
ليلةً حزينةً ..
قالتْها عيناك , ثمّ استدارت لتُكملَ دورةَ الغيابِ الأولى حولَ الفرح , وحدها يداك أيقنت أنّ أوتارَ الحنجرة تلتفُّ كأغصانِ العليّق على الفرح , فتمتلكُ خطواته .
شفاهكَ الّتي تعانقُ دخّانَ قلبي , لا زالت تُمارسُ ذاتَ الحركاتِ الفوضوّيةَ على سلالمِ عينيّ ,
و تعلّمني كيفَ تكونُ القراءةُ مبلّلةً بالمطر , و كيفَ تُصبحُ الموسيقى لوحةً سريالية !
ينحني ماردٌ عميقٌ بطولِ حُزني في داخلك , يحملُ وجهي في سلّةِ من قشِّ المسافاتِ الغريبة ,
و يتفرّسُ ملامحَ الفقدِ في عينيّ و يمرّرُ أصابعهُ بمحاذاةِ أرقي ثمّ يضعني أمامَ ذاكرته و يتضاءل ..
ليست يداي وحدها من تعلّمت الرّقص , فكل مساماتِ جلدكَ تُشاركها لذّة / وجعَ اللّهفةِ بذاتِ القدرةِ على سرقةِ الأشياء ,
بذاتِ القدرةِ على منحِ اللّون الأزرقِ شتاءَهُ الموؤد ..
:
أكنتَ تعلمُ أنّكَ حين ستحرّكُ كتفيكَ لا مبالياً بأناقةِ أنفاسي و تواترها الملتوي عبرَ صدركَ أنّ رأسي سيسقطُ و يتدحرجُ على عتبةِ الكلام ؟
لا , كنتَ تظنُّ فقط أنّ الأثوابَ ترتدي وجعنا , ثمَّ تحيكَ لنا قصّةً على مقاسِ أرواحنا المهترئة , رقعةً بلون غيمةٍ منتشية أو ظبيٍ فقدَ صوته !
أمّا أنا فكنتُ أكثر جهلاً منكَ بي , فاعتقدتُ أنَّ المغفرةَ ملوّنة و أنّ الحبَّ ينتهي دوماً كأحلامِ الأطفال ,
و أنّ الماردَ يخرجُ كلَّ صباحٍ من ذاكرتنا و يبني للسّعادةِ قصراً جديداً و يُهديها صولجانَ الحريّةِ و تاجَ الرّغباتِ المدوّرة ..
اعتقدتُ أنّ للفقدِ عينين يرانا بها و يتجنّبُ الوقوعَ بِنا , و أنّ سلالم الطّائرةِ تُدركُ الأرضَ الّتي تحتضنها و تُمارسُ تقبيلها كما يفعلُ عاشقٌ متمرّس ,
وأنّ الأيادي فعلُ انتماء و الاعينَ سلالُ عطشٍ من بيّاراتِ دموعنا المتناثرةِ على سفحِ حبٍّ وليد ..
:
لا زلتُ أشارككَ الرّغبةَ في احتضاني , و أراقبُ ظهركَ و أنتَ تلتجأُ لهُ خوفاً من وطنٍ لن يكونَ بحجم انتمائك , ثمّ تمارسُ حركتكَ المعهودة :
تديرُ رأسكَ و تتفقّدُ روحي على كتفكَ الأيسر , ثمَّ تربّتُ على رئتي في جانبِ صدركَ الأيمن ,
ثمّ تلامسُ شرياني في حنجرتك و تمشي باتّجاهِ البابِ المحاصرِ بأشواكِ الرّحيل ,
و تمضي و في عينيكَ سؤالٌ صغيرٌ بحجمِ طفلٍ جاوزَ سنتهُ الواحدة !
:
حينَ ستنهمرُ شلالات صمتي أمام دموعي , و تغمرني عيناكَ بخوفٍ طفوليٍّ على أنفاسيَ الموقوتة و نبضيِ المتقّد ,
سأعلمُ أنَّ شفاهنا موقنةٌ بحتميّةِ اللّقاءِ و ضرورةِ الفراق و انّها ستكبتُ أغنياتنا و تردّدُ اسمينا في قالبٍ من مشابكِ الفرحِ المخبوءِ في محيطاتِ الإيمان بالشّك و اليقينِ برعشةِ الخوف ,
حين ستُغلق ُالسّتائرَ خوفاً على لهفِ حروفنا من الهرب , و تدركُ أنّنا كلماتنا , أنّنا كلُّ حرفٍ نطلقهُ في العدم , أنّنا ثمانٍ و عشرينَ خيبةً و فرحاً و قلقاً و يقيناً ,
أنّنا نحرّكُ الأشياءَ بسكوننا , ونمنحُ مشاعرنا حياةَ الأقفاصِ الذّهبيةِ حين نصمت , و حريّة العصافيرِ الشّاردة حينَ نتكلّم ,
حينها قد ألّفُّ صوتكَ بشاليَ الموشّحِ به , و أضمّهُ إلى صدري ليلتحمَ بحنجرتي , و أهدي حِبالَنا الصّوتية إلى آخر خيوطِ الشّمسِ في الشّمال .. و نمضي !
* Jean & Brigitte Soubeyran , Pantomime, 1950