يقول الأستاذ ابراهيم الشتوي : " اللغة مادة الشاعر والطريق الذي يتواصل ويصل للآخرين من خلاله ، والمفردة حـجر الزاوية في بناء الجملة ، فالمفردة الشعرية تعتمد على قدرة الشاعر وذكائه في توظيفها وتفجيرها في المشهد الشعر، بإيقاع داخلي ودلالة شعرية تؤهلها لرسم صوره متميزة في لغتها الانفعالية ..وهذا كله مرتكزا بالطبع على كيفية اقتناص المفردة في نسق لغوي معبر " . وذلك ضمن ورقة أدبية قدمها بعنوان المفردة الشعرية
هذا الكلام الجميل والمتناغم مع الوعي من خلال كيفية استخدام الشاعر لأدواته الفنية في الكتابة الشعرية عن طريق المفردة , ومن بعدها الجملة الشعرية بنطاق أوسع , وذلك أن المفردة حالها كحال الآلات بالنسبة للعازف , ومثل الألوان بالنسبة للرسام , أي أنها الروح النابضة له في المشهد الشعري
إن هذه الالتقاطة من قبل الأستاذ الكريم فتحت لي مساحة للتفكير في هذه القضية , وهي قضية المفردة الشعرية . فمفردة شعرية غير موفقة الاستعمال قد تقضي على صورة جميلة , وكذلك مفردة جميلة , تمنح النسق الشعري فضاء شعريًّا رحبًا من التصوير والتخيل , وكذلك قد ينساق الكلام على طريقة استعمال بعض الجمل الشعرية في النص الشعري
وضمن هذا السياق , تقول الشاعرة سكون
كثر شوقي لك يخالجني شعور
إنك اللي ترتكبني ع الورق
أذكر أنني تناقشت مع بعض الزملاء حول هذا التوظيف " ع الورق " وكانت الآراء هنا متجاذبة ما بين مؤيد ومعارض لهذا الاستخدام , لم أكن معهم في هذا النقاش , بل كنت أميل للاستمتاع أكثر , وذلك أنني مهتم بمفردة أشد عمقًا وأجمل شاعرية , وهي العبارة الشعرية " ترتكبني " الموحية بالعاطفة الحادة والرغبة في الاستسلام , لأن هذه العبارة منحت الشوق قدرة على الانتشار ,,, مما منحها قدرة على تغطية الخلل – حسب رأي الزميل المعارض لهذا الاستخدام – فهذا التوظيف الشعري , منح المشهد مساحة شاعرية , حيث جعلها هذا الموقف تجمع أطراف الجملة الفعلية الثلاث , إذ أنها انتقلت عن طريق الفعل " ترتكبني " من فاعل " أي شاعرة " إلى مفعول به " وهي القصيدة " , هذا من جانب . وفي التقاطة أخرى , وقد تكون موجعة للشاعرة , ومن خلفها كل النساء , أن فعل الارتكاب فعل رجولي , وهي أن الكتابة للرجل والمكاتبة للمرأة , كما هو الحال في التراث العربي . فهنا المرأة من خلال سكون زاحمت الرجل الشرقي في هذا المضمار , لكنها وبذكاء حولت هذا الارتكاب , من حيث جمعت فيه بين الحس والتجريد من خلال القصيدة , منعًا للبس , وابتعادًا عن التحرج , في مجتمع يظل فيه الرجل هو السيد والآمر المطاع . فلو قال هذا البيت رجل لمرّ مرور الكرام , لم يشغل أحد من الزملاء الذين التقيت بهم . ومن ناحية ثالثة أنها كانت من خلال قولها " ترتكبني " كانت أسيرة للرجل وسلطانه عليها , مع العلم أنها هي التي كانت تقوم بالعملية , غير أنها وهي تمارس دور الفاعل " الشاعرة " , كانت تتلذذ بدور المفعول وهو " القصيدة
غير أن الشعر لا يرتكز على هذا الفهم الأحادي , والذي أشار إليه الأستاذ
الشتوي في كلامه السابق , وما حاولنا تطبيقه على كلام الشاعرة سكون بعد ذلك , إذ أن من الممكن أن تتسع الدائرة لتشمل أكثر من مفردة , وما دام " الشعرصياغة " كما أوضح الجاحظ , فمن الإمكان توسيع الدائرة والنظر إلى الوحدة الصياغية للشطر أو البيت , أو الجملة الشعرية , للتعرف على مدى مقدرة هذا الحضور الصياغي على التأثير على المساحة الشعرية في النص , وذلك بالتوقف عند هذه الأبيات للشاعر سعد الحريّص , الذي يقول في هذا المجال, لكن بنطاق أوسع من المفردة الشعرية
هذا طريقي واعرف انه طريقك وجيـت
وانتي بعيدة وانا عـوّدت قبـل السـلام
لو التعب في طريقك كثر مانـي مشيـت
ما رحت راجيك لو جيتك ومالـي مـرام
لو ما دريتي انا يكفينـي انـي دريـت
احيان ما يشعر القايـل بطعـم الكـلام
فهذه الأبيات الثلاثة , تتكون من ستة أشطر , غير أن المتمعن في هذا المجال يجد أن الأشطر الخمسة الأولى , أشطر بسيطة الشاعرية , ضعيفة الروح , لكن الذي منح هذه الأبيات هذه الدفعة الشعرية القوية هذا الشطر " أحيان ما يشعر القايل بطعم الكلام " , لأن الشاعر هنا مزج نفسية الأديب الشاعر بروح الفيلسوف المتأمل , مما منح هذا التعامل هذه الأبيات حالة من التحفيز التخيّلي , الذي جعلنا نتجاوز النص من حيث كونه مشهدًا شعريًّا , والنظر إليه باعتباره درسًا في الحياة والفلسفة , لأن الكثير مما نقوله في كلامنا اليومي لا نشعر بقيمته السلبية أو الإيجابية إلا من خلال مواقف الآخرين تجاه ما نقول
ولو حاولنا اكتشاف هذه الزاوية بشكل مخالف لِما كتبناه , باعتبار " وبضدها تميز الأشياء " , وحاولنا الوقوف المتأني الدقيق عند بيت فهد عافت الشهير
وحشـة جهنـم ومـدت كفـك بمنفعـه
اختلفوا بكل شـي الاّ بهـل مـن مزيـد
فهذا البيت جميل وسيء في آن , وقد يعجب القارئ من هذه الإزدواجية بالحكم , أو هذا التناقض الغريب في إصدار هذا الرأي
ولتوضيح هذه الإشكالية , سأقول مفسرًا هذا الكلام , فهذا البيت جميل لدى القشوريين الذين يسعون لبلوغ الدهشة , وهي مرحلة من الإبداع , لكنها مرحلة متدنية أو مرحلة وضيعة لن ترتقي بذائقة المتلقي في يوم من الأيام , لأنه سيظل أسيرًا لهذه الحالة الشعورية القشورية , ذات الطابع الآني والمتقلب , وليس من العار أن يمر بها أحد , لكن العار أن تبقى تأسره في كل لحظة , بينما النص الجيد هو الذي يتجاوز مرحلة الإدهاش , ويصل بصاحبه إلى نقطة خلخلة الثوابت وتفكيك القناعات النمطية ذات الطابع السياجي المؤطر
فلو عدنا لقراءة هذا البيت من خلال هذا الفهم العميق للشعر , وعملنا على تفكيكه , لاكتشفنا أنه بيت بسيط وعادي , خاصة في قوله " هل من مزيد " , لأن الشاعر تعامل بشكل سطحي مع التناص الديني , ولم يتغلغل بالحالة بشكل أعمق تمنحه القدرة على تجاوز المحظور
نعم , لقد قال بأن جهنم وكف الممدوح مختلفات بكل شيء , وهذا شيء جميل ويستحق عليه الثناء والتقدير , لكن ظل أسيرًا لهذه الجملة " هل من مزيد " , حيث أن " هل من مزيد " الجهنمية جذب للحلف , وتوحي بالبشاعة والخوف , بينما " هل من مزيد " الممدوحية , دفع للأمام , وتشير بالخير والأمان . وكذلك " هل من مزيد " الجهنمية تدل على القسوة والقبح , لأن مجرد التفكير في جهنم يثير الاشمئزاز والنفور , وقد حاول الشاعر الابتعاد عن هذا الفهم عن طريق " اختلفوا بكل شي " , لكن التداعيات الدلالية لجملة " هل من مزيد " جعلت الشاعر يحرص على الدهشة , ويتناسى البقية . مع العلم أن " هل من مزيد " الممدوحية , فيها الخير والسلام والمحبة
أعلم أن الشاعر كان يريد أن يُوافق بين المسارين , وهما المسار الديني في النص القرآني مع المسار السلوكي الإجتماعي الأخلاقي في ذات الممدوح , لكن , وهو الشاعر الكبير , يجب عليه أن لا يظل أسيرًا لحبائل اللغة , وأن ينتبه للبعد الدلالي للمعنى , ولا يكتفي بالنظرة الساذجة البسيطة التي تنطلي على صغار الشعراء سنًّا وتجربة . وحال فهد عافت في هذا البيت كحال ومصداقية روح الشاعر العربي القديم الذي قال للخليفة
أنت كالكلب في حفاظك للودّ , وكالتيس في قراع الخطوبِ
فمقارنة فهد عافت لا تقل قبحًا عن مقارنة الشاعر العربي القديم , حيث أن فهد عافت ربط " هل من مزيد " في كف الممدوح الكريمة بـ " هل من مزيد " في جهنم , في الوقت الذي حاول فيه الشاعر العربي القديم عقد مقارنة بين قوة التيس ووفاء الكلب بشجاعة الخليفة ووفائه وإخلاصه في الحياة والحكم