حَميمِيةٌ مُفْرَطَة !
إنْ كنتُ لا أُشبهك ، قلْ لي بِربك كيفَ لكَ أنْ تُشبهَني !
حينَما قررتُ يوماً أَن أُفسحَ في قَلبي لِحبك لم أَضعْ في حُسباني المَكاسب و الخَسائر التي قد أَجنيها مِن الحُب . قَبِلْتُك كـَ هِبةِ قدرٍ عظيمةٍ وَ أوصدتُ عليها أبوابَ قلبي ، و كنتُ فرحَةً بِكَ كـَ فرحةِ الأُمِ بِوليدها ، وَ لا يزالُ هذا الحبُ يتعاظمُ تعلقاً بقلبي يوماً بعد يومٍ حتى بعدَ أَنْ كُتبَ عَلينا الفِراق و كُسِرَتْ بِه أَقفالُ قَلبي . حَتى يومي هذا ، لا عِلمَ لي كيفَ يجيءُ الحنينُ وَ لا عَلى أَيِّ صورةٍ قَد يأتي ، لا زِلتُ لا أَعلمُ لهُ وَجهاً حَقيقياً ، فَفي كُلِ مَرةٍ يُباغِتُني بِوجهٍ لا أَعرفُهُ وَ لا سابِقَةَ لي بِه ، فَمرةً لهُ وجهُ مدينة ، وَ أُخرى ترنيمةٌ عذبةٌ أصيلة ، وَ مرةً لهُ دفءُ شمسُ الصَباحِ وَ أُخرى لهَ رائحةُ المَطرِ وَ بردِه .
إنَّ الحُب الذي أُكنه لكَ في صَدري يا بدْري ليسَ كَحبِ الأَساطيرِ وَ لا كَحُبِ أَيامِنا هذِه , فَلا حُب الأَساطيرِ عَفيف وَ لا حُب هذهِ الأَيام يتسمُ بِالطُهر و النزاهة . حُبي لكَ شفافٌ لم يَكْتسب لوناً بَعْدُ وَ لم يترتب فيَّ بعد . حُبي لكَ أنتَ لا يزالُ كما هو بذرةً أُخبِؤها في تُربةِ قَلبي بانتظارِ أن تجيء إليَّ منْ جديدٍ وَ تسقيها وَ تأْخُذ بيدِها نُمواً نَحو النور . كُنت أَستطيعُ إنباتَها فيَّ نباتاً حسناً نعم و جعلها تبلغُ من الكبرِ عِتياً كَأَنا وَ لكِنها حَتما لنْ تَبقى حَسنةً حَتى تَجيء ، لذا آثرتُ أَنْ أُبقيها حَتى مجيئكَ لتحيلها بنفسكَ لحياةٍ أُخرى تستمدُ بقاءَها من ديمومةِ بقائكَ إِلى جانبها . إنَّ بذرةَ الحُب التي لا تزالُ مَخبوءةً لكَ في صَدري لا تزالُ هُلاميةٍ في داخلي بِلا شكلٍ كما تركتَها و لكِنها حتماً لا مُكون لها حَتى الآن سِوى السُمو و لا شيءَ آخر !
هلْ قُلت قبلاً له وجهُ مدينة .؟!! آهٍ منكِ يا مدينة ، تحرضينَ القلبَ على الثورةِ حنيناً و اشتياقاً و دموعاً .. أنتِ يا مدينة تثيرينَ الرُعب في نفسي بِالقدر الذي تصوبينَ بهِ قلبي بسهامِ حميميتك المُفرطة !
يا ربْ ! تقاربُ الأبنية و عِتقها ، انسجامُ الأرصفةِ و الشوارعِ المُهترئَة ، إِلتصاقُ الأَتربةِ بأرجلِ العابرين عليها ، رائحةُ الريحانِ الذي تعبقُ بهِ المدينة ، أشجارُ النخيلِ الشامِخة ، و المنازلُ و المرافق المُشيدةِ على المرتفعاتِ التي تُشعرني و كَأني لستُ في وَطني البَحْرين ! وَ قلعةُ سلمان بن أحمد الفاتح ، هذهِ القلعَة التي لم أطأ أرضَها مُذ كُنتُ في السادِسةِ مِن عُمري و ها أَنا أَراها من جديدٍ بعدَ الترميم ، لِمَ لَمْ أَشعُر بشيءٍ حينما رأيتها ؟ تُرى هل الإنسانُ بطبعهِ يفقدُ الحميميةَ تجاهَ الأشياءش التي يُجَمَلُ وجهها و تُقَنْعُ بما لا يناسبها ؟! أَفَقَدْتُ الحميميةَ تجاهَها حقاً .؟! لطالما حكتْ هذهِ القلاعُ في وطني تاريخَ شعبٍ مُناضلٍ حرٍ بطل ! وِطني الأِبي ، المَزيجُ من كلِّ الألوانِ التي تعكسِ بياضهُ و بياضَ قلوبِ أَهله . و مِقْبرة الحنينية ! تِلك الأرضُ التي ضمتْ رُفات راشد ، تلك التي همستُ لها باكيةً أنْ احتضنيهِ بِحبٍ يوم أَن أَودَعْنا راشد الأرضَ و حثونا عليهِ التُراب . أنتِ يا مدينة ، أشعرتِني بِالدفءِ و القربِ و لربما كانَ راشد هو الرابطُ الذي غَرسَ في نفسي حميمية ًمُفرطة تجاهكِ فرأيتُكِ عَروساً بِتضاريسَ جميلةٍ و وجهٍ متوردٍ و إن كنتِ شاحِبة !
لا تأمنوا جانبَ الحَنين ، و لا تركنوا لَه ، فالحنينُ يجيءُ بغتةً و لا يُغادِرُنا إِلَا وَ قَد إستلَ شيئاً من شِغَّافِ القَلبِ مَعَه !
قابلٌ للنقد حتماً

!