عادة النصوص التي تشكل لي عنصر ابهار لا أعرف له طريقا منذ القراءة الأولى أنقلها إلى كيبوردي وأمضغها بعيني على مهل .. وهذا ما حدث لي مع هذا النص .
وصلت إلى أن المعاني الإنسانية التي ضجت بها لم تكن أبدا هي مصدر ابهاري فتأملت العنوان ووجدته وارتباطه السيميائي بالنص بالرغم من أنه أتى مثيرا للسؤال حينما شكل ثنائية ضدية .. و و جدتني حتى أصل إلى عنصر الإبهار فيها ينبغي علي تتبع المنهج الذي يُوزع القصيدة الى معاني او اغراض على هيئة فصول كما كان يسميه حازم القرطاجني فكانت كالتالي :
الفصل الأول :
من قولة [ دمدم إلى قوله ماهدى ]
ووجدت قوة هذا الفصل تكمن في قوة تجويد شاعرها في القدرة على الإيجاز وشدة الاقتصاد باللفظ مع وفرة الاتسّاع في المعنى
لنقرأ المعاني المتسعة في هذا الفصل :
1 _ دمدم الدم بالدواء = هنا معنى فضفاض جدا نبع من لفظة [ الدم ] التي شملت كل معاني الجرح / الوهن / الوجع .. الخ
2 _ دام ما دايم مدى = معنى آخر ينبع من الفعل [ دمدم ] والمعنى انه طالما هناك دواء وهناك مدى غير دائم إذا [ دمدم ] دمك .
3 _ وداو مدك بالنداء = معطوفة على الجملة السابقة لتشاركها ذات المعنى .. وحضرت للتأكيد والتوضيح للجملة 1 و 2 ..
4 _ دام ندّك ما هدى = يختم هذا الفصل بذكر العلّة التي جاء من أجلها [ دمدم ] .
الفصل الثاني :
من قوله [ يأسر الحالي كراتك ] إلى قوله [ كان فعل مامضى الا قضى ]
والمعاني فيه كلّها تعود إلى الفكرة التي انطلقت من الفصل الأول [ داو مدك بالنّداء ] ليبدأ بسرد صوت صفاته وآدميته التي ترفض وضع الحال وتشتهي الفعل الماضي حتى كانت نقطة [ الما ] هي الأولى به وهو الأولى بها وقد ضمنها مفردات [ البياض / الاحمرار / الشمس / الما / غصنه الذي كان مثمرا ].
وهذا الفصل كلّه يعود للكلمة الأم التي تناسلت منها معاني القصيدة [ دمدم ].
_ الفصل الثالث :
يبدأ من قوله [ والرضى سخط الوجود ] إلى قوله [ وأعظم الأشياء قيود ] ولكني آثرتُ
ان أضم قوله " وماتدلى من ظنونك يقطفك ,, لين ما تملى سلالك بالجحود وتعزفك "
لأنها تتدلى من فكرة سخط الوجود ..
وهذا الفصل عنصر الإبهار واضح جدا به وهو الفلسفة الفكريّة التي تتسيّد شاعرها والنابعة من تجاربه الخاصة .. والمتلقي دوما مثل هذه التجارب الفكريّة تظفر بقبوله لأنها تلمس فيه تجاربه وتشاركه تفاصيله ..
ويرتبط هذا الفصل بقوله في الفصل الثاني [ يأسر الحالي كراتك من بياضك لاحمرارك ].
الفصل الرابع :
يبدأ من قوله [ الفرح صدمة حزن ] إلى آخر القصيدة , وهي تحكي قصته مع الحياة حينما يكون القضاء عليه , وعنصر الإبهار فيها وجدته يتمثل في فلسفته وتعريفاته للمفاهيم وفق منظور أوجاعه [ هو ] .. فالصدمة مثلا تشكّل نظرية انكسار القيود التي تنتمي إلينا مع ما ينتمي إلينا من موروثات لا حول لنا ولا قوة معها .. ومثلها فكرة الانعتاق .. إلى آخر ماورد في القصيدة .
ويرتبط هذا الفصل بقوله في الفصل الثالث : [ تفرك إيمانك بكفرك .. لين إيماني بكفرك ]
والقصيدة بأكملها تبنع من أمر [ دمدم ] التي حرّكت تفاصيلها .
___________
نأتي إلى المفاتيح الأساسية التي اتكأت عليها القصيدة بأكملها :
_ أسلوب التجريد الذي قامت عليه القصيدة بأكملها حيث جرّد الشاعر نفسه من الخطاب في القصيدة واستحضر ذاتا أخرى وكأنه يحدّثها بينما كان الحديث في الواقع موجها لنفسه الموجوعة الممتلئة بالخيبات .
_ المهارة في الانتقال من المعاني العامّة للمعاني الخاصة .
_ معرفة وجه الخلوص من شيء على شيء آخر مثل الخلوص من فكرة المفاجأة إلى الفاجعة .
_ أيضا القدرة على تأليف المختلف , أيضا محاولة الشاعر في توظيف الألفاظ التي تتصاقب فيها المعاني ومن ثم الخروج بها إلى معاني شاسعة مثل : أرض / فرض / ارض , مواجع / فواجع / مراجع , راحلة / راح , امتعاضك / اعتراضك , وغيرها الكثير
وهذا لاحظت انه منهج ينتهجه قايد تقريبا في أكثر قصائده .
_ مهارة الشاعر وعنايته بانتقائه ألفاظه وحرصه الشديد على ترابط وحدة القصيدة
كمثل اختيار للفظ [ النداء ] في قوله : وداو مدّك بالنداء لتلائم لفظة [ ندك ] في الجملة التي تليها : دام ندِّك ما هدى .
_ امتلاء القصيدة بالمعاني الحكيمة والبلاغة من المجاز والايجاز والجناس الذي نضج بصورة ملحوظة فيها حتى ساعد في تشكيل معاني جديدة .
وصدقا القصيدة ممتلئة بأكثر مما وقعتُ عليه .. تحيتي .