اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فرّاج الأنفوي
أخبرك من الآن، إن كنتَ تترجّى شيئا من قراءتكَ لما سأكتبُ فلا تُعنّي نفسكَ، فأنتَ على وشكِ الخروج بخُفيْ حُنين!
سأبدأُ من الأخيرِ، لماذا هجرتُهم؟
وودعتُ كل شيءٍ فيهم وقطعتُ الصلة بما يعودُ عليّ بالحنينِ الجارفِ والشوقِ الخاطفِ والآهاتِ الدامعةِ والسهرِ المغرقِ بياضًا .. لماذا أغلقت الفيس بوك والتويتر والأنستجرام وكل مصيبة اجتماعية جعلت منّي صفرًا جنب الأصفار الكثيرة التي يعج بها هذا العالم البئيس .. هذا العالم المتذاكي، المتعالم، الذي ما فتئ ينظر للإنسانية الشوهاء، للحضارةِ المفلوجةِ، للتقدّمِ الأعرجِ، ذاك المتكئ على المدنية التي نخرتها دودة الجشعِ، وباتت آتيةٍ عليها، حتّى لكأنّك تنظرُ لكلِّ هذهِ البهرجةِ المقنّعةِ بمساحيقِ البهلوانيةِ خارّةً من علٍ، تحاولُ في إياسٍ التشبث بتلابيب السماءِ كارهةِ معانقة الثرى!
فلنعدْ إلى ما كنّا فيه، حسنًا؛ هكذا فكرتْ أن أكونَ متكبّرًا في تواضعٍ شديدٍ ممزوجٍ برغبةٍ في التقيّؤ التي ما فتئت تفارقني كلما أجلتُ ناظري في آلافِ الوجوهِ المتشابهة التي تذكرني بمصنعٍ كبيرٍ لإنتاجِ دُمى الباربي، نعم فكرتُ أن أتغابى لدرجةِ أن أتركَ هذا العالمَ الافتراضي الذكيّ الذي قام بتحويطِ كل شيء أموميٍّ في الناس، كل شيء طبيعي أو يشبه الطبيعي، الذي وأد كل براءة في نفس الإنسانِ المشوهةِ بعواملِ التعرية الحيوانيةِ الغارقةِ في المادية. لم يكن ذلك عن طوعٍ منّي .. أبدًا، بل لم أفكر فيه من قبلُ قطّ، فقد كنتُ أنا الآخر منتشٍ بكمّ الأذكياء المحاط بهم، وبكم الإعجاباتِ، والمراسلاتِ، والمجاملاتِ، والكذبات، والكثير من العباراتِ التي لا يمكنك إلا أن تجمعها في مؤلف معجميّ تطلقُ عليه: " معجم النفاق وما إليه"!
نعم، فجأةً أردتُ أن أعودَ لعهدِ الغباءِ، للزمنِ الجميلِ الذي لا إعجاب فيه ولا مشاركة، ولا تغريد ولا إعادة تغريد، لزمنِ العزلةِ والوحدةِ، لزمنِ تجلس فيه مع الوالدةِ، فإن تعذر فالكتاب، فإن تعذر فالشريط، فإن تعذر فالتفكير، فإن تعذر فالنومُ، إذ الثرثرةُ لم أتقنها، يوما، ولم تكن قط تستهويني ولا كنتُ من فرسانها، حتى في زمنِ البؤس الفيسبوكي هذا، كانَ كلامي معدودًا لا يتجاوزُ المائة حرفٍ في الغالب... لكن ورغم ذلك فلا أخفيك أن الأمر لم يكن سهلا ولا هو بالسهل حتى هذه اللحظة التي أبعث إليك فيها بهذه السطور التي تمثل الحقيقة الجميلة التي توصلتُ إليها، بعد سنواتِ من التعب الإلكتروني، والإرهاق التويتريّ، والانفصامِ العنكبوتي، نعم انفصامٌ بين ما نحنُ عليهِ في الواقعِ، وما نصدرهُ في الافتراضِ، خصوصا إذا كنا نكتبُ بأسمائنا الحقيقيىة ونظهر صورنا التي نختارها بعناية طبقا لما نريد أن يلصق في ذهن المريدين، إثر أول إطلالة على ملفنا الشخصي، نعم نعم .. إنها دهشةُ الإعجاب الناجمةِ عن النظرةِ الأولى لأول زيارةٍ لبطلِ العوالمِ الافتراضية أو بطلتها أو قل أبطالها.
أصدقك القول أنني ما زلتُ لا أفهمُ كيفَ سأخرجُ من هذا السجنِ الكبير الذي اخترتُ زنزانتي فيه عن رضًى، بل أنا من قمتُ بتصميمها، واخترتُ الرفقةِ فيها ونوعَ الخدماتِ التي ستعرض عليّ مع مرور أيام الضياع التي سأقضيها فيها، أما كيفية دخولي إليها فتلك قصة أخرى متناهية في الغرابةِ، لا يسعُ عقلك الصغير فهمها مهما كنتُ مبينًا في إيصالِ معانيها.
لكن؛ أستطيعُ أن أخبركَ بقاسمٍ وجدتهُ في نفسي وفي كل من غادر هذه العوالم الذكية، هذهِ السجون المترفة، المغرقة في تملّكِ النفوس والعقول، وتنميطِ الناس... إنه الإباء، أن تأبى أن يتملكك شيء كيفما كانَ هذا الشيء، إلا ما أنتَ مخلوقٌ أصالة له.
هكذا تبدأ هذهِ الفكرة تكبر في نفوس الدراويش لتستحوذ على كل كيانهم، حتى إنهم ليظنون أمرين لا ثالث لهما: إما أنهم مجانين والجميعُ أسوياءُ، أو أنهم ذوو العقول، والبقية مجانين... ولك أن تتصور الصراع الذي يعيشهُ من هذا حالهُ لكي يخرج من قوقعةٍ وضع نفسهُ فيها من تلقاء نفسهِ!
إنها ملحمةُ تاريخية، بالنسبة له على أقل تقدير، إنها خيار القرنِ، بل خيار الحياة .. لا لا، لستُ أبالغ، إنها كذلك، ولا تقل لي أنه يستطيعُ أن ينهي ذلك بضغطة زر، نعم قد يفعلُ هنا، وقد تجده غدا هناكَ، أو تجدهُ هنا بقناعٍ آخر مختلفٍ عن الأول، أو قد تجدهُ بنفس القناع الأول مع آلافِ السطور التبريرية!
وأنت إذا تأملت هذهِ الفذلكة قليلا وجدت الأمر كما أخبرتك به.
عمومًا، لقد تعبتُ من كثرةِ الكتابةِ والارتجالِ الذي قد لن تفهم منه شيئا، وعصف الذهنِ الذي لا أجدُ فيه مشقة في استخراجِ الفكرةِ بقدر ما أجد المشقةَ في إقناعِ نفسي بأنك ستفهمها كما أريد لها.
على أن أعود إن شاء الله لأكمل لك هذهِ القصةَ التافهةَ، إذا ندمتُ ككلِّ مرةٍ ولم أغادر هذا العالم الذكيّ.
أعتذر عن هذا كلّهِ.
|
،
،
+1
ألا ليتنا كنا في الزمن القديم الجميل!
ونهجر العوالم الإفتراضية ونرعى الغنم : )