( 10 )
رحالة :
إنها آخر المدن الأسطورية ،،
فلتدخل الآن ،،
ولتفتح ،، قبل أن تذبل الوردة ،،
حانة الوجد المغلقة ،،
* * *
تيه :
كم بعدت عنك ؟! ،،
كم فاضت الأرض ،، حتى توالت عواصمها بين كفيك ،،
كم غاضت السماء ،،
حتى غدت محض زنزانة ،،
لا تهن ،،
فنحن في آخر المدن ،،
* * *
نعاس :
شجيرات الصحو تميل بغصونها المدببة !!،،
والنجوم منذ الأمس ،، مسنـّدة على الحائط ،،
مثنى ،، مثنى ،،
وأنا أرقب أساطير الهزيع ،،
والظلال الهامسة ،، تنادي رفيقي الأخير ،،
* * *
تحية :
شمسك ،، وهي تقول صباح الخير ،،
للنجوم ،، للعيون ،،
تحاذر ما بين الغصون !! ،، هابطة ،،
من خصلات الورود ،،
حتى سكرة الأنفاس الناعمة ،،
حيث الشفاه ،،
* * *
عناق :
حيث الخصر ،،
ربما حين لا يبقى سوى لحظة ،،
نتذكر ما كنا سنقوله ،،
نعرف رائحة التيه ،،
ونسأل كيف يكون أول الليل ،،
ولكننا لن نقول ،،
* * *
حياة :
وثبت لأفتح الأسرار ،، ووجداني يسبقني ،، يطمس بحمياه معالم الوجود ،،
فقالت بحرارة : الصدق أعز ما يملك في هذه الحياة ،،
أجبتها بصمت ناطق فقد استخفتني الفتنة ،، وشعرت بأني أجري بعيدا عن كل شئ ،،
وأني أنطلق نحو المجهول بحماس دافق ،،
فشملت الظلمة المكان إلا لآلئ في تتألق في الجمرات ،، وانتشرت رائحة بخور عميقة مفعمة بالابتهال والنداء ،،
وحل وجود جديد ،، ثمرة للرغبة الحارقة المستميته ،،
حضور ذي وزن ملأ فراغ الزمان بثقله غير المرئي ،، وسرعان ما انقشعت وحدة الألم ،،
وقال لي دمي المتدفق إن النوم عسير في هذه الليلة الهائجة ،، وإني سأشهد سهاد العاشقين بلا عشق ،،
فمتى نحتفل الجنون ؟! ،،
ورحت أتذكر ما تيسر من أشعار المجانين ،،
ورأيت القمر من جديد متألقا في مركز القبة المرصعة ،، ناجيته مغمغما أن لا شئ يبقى على حاله ،،
الحب لعبة قديمة بالية فأصبح رياضة ،، الفسق رذيلة في المجالس فأصبح حرية ،، والنساء تقاليد ووثائق في البيوت فأصبحن مراهقة وفتنة ،،
والقمر كوكب سيار خامد فأصبح شعرا ،، والجنون مرض في أي مكان فأصبح فلسفة ،،
والشئ شئ حيثما كان فأصبح لا شئ ،،
وقد ينقلب النهل من متعة الحياة سقوطا أردنا أم لم نرد ،،
وما علينا إلا أن نصبر حتى تذوى الأوراق وتذبل وتموت ،،
قالت : أنا لا أخشى شئ ،، ولا آسى شئ ،، إذا لم ترن باسمة فلن أكون متجهمة ،، ماذا تريد ؟! ،،
قالت : ماذا فعلت اليوم ؟! ،،
يا إلهي ،، ألا نسى شيئا ،،
وحاولت أن أداري قائلا : بأي شئ ؟! ،،
نظرت إلى عيني وقالت باسمة : في يومك ؟! ،،
هاهي تخلق على حين أعجز عن الخلق ،، ورغم انسيابي في أسرار الخلق لم يساورني أدنى أمل في التغيير ،، ولا خرجت عن غربتي الأبدية ،، ولم يملأ الهيام الثغرة التي بيننا ،، وبين الدنيا ،، ورحت أتساءل متى يرن الصوت الأجوف ؟! ،،
لا مراء في ذلك ،، الوقت انسلخ من جلده ،،
هاهو يركض لاهثا ً وراء نداء غامض مخلفا ً وراءه حفنة من تراب ،،
تلك الدفعة الغادرة إلى الوراء فجرت رد فعل مضاد بقوة مضاعفة خشية السقوط ،، وها أنا في سباق حاد مع الجنون ،، وغايتي الأخيرة أن تنطق غصون الشجر ،،
لست ماجنا ولا عابثا ،، ولكن منذا يفرق قاتل وعابد ؟! ،،
أو يصدق أنك تقيم للعربدة معبدا ؟! ،،
وسوف ترن أوتار الحكمة الكالحة باعثة كلمات تقريع جامدة خشنة كالغبار ،،
الملل كرّه إلي الاعتذار ،،
وتضخمت السقطة حتى أنذرت بالعدم ،، فتهلل وجهها فاربد قلبي ،،
والتمعت عيناها بفرحة ظافرة فتجهمت الدنيا في وجهي ،،
وتضمن الفراغ الخابي أنغاما ً صامتة من الرقة والحزن ،، وأسئلة مضنية عسيرة الجواب ،،
قالت : ربما تعاني الأيام أزمة حادة لفن مكبوت ،،
قلت : بل ربما ما نلجأ بسببه أحيانا ً إلى الفن ،،
فقالت : ولأنه لا يوجد وحي في عصرنا فلم يبق إلا الثرثرة مثلا ،،
قلت : وأنت ؟! ،،
فقالت : في عدد من المرات رسمت على جدران غرفتي ،،
في الليل والنهار ،، في القراءة المجدية والشعر العقيم ،،
في الصلوات الدينية والوثنية في الباحات ،،
في تحريك القلب الأصم بأشواك المغامرات الجهنمية ،،
والكراهية تنبت في مستنقع آسن مكتظ بالحكم التقليدية ،،
ولا عزاء في شئ فالعفن قد دفن كل شئ ،، وحبست الأحلام في برطمان قذر كأنها جنين مجهض ،، واختنق القلب بالبلادة والرواسب الدسمة ،، وذبلت أزهار الحياة وجفت وتهاوت على الأرض ،،
وقلت بنبرة زايلها تطريب الغرام وحنانه : لمَ لا تكتب ؟! ،،
قلت : لماذا؟! ،،
وكنت أفكر في العنكبوت الذي يبني بيتا غاية الغرابة ليصطاد ذبابة ،،
فقالت : مثلا ً غازلني بقصيدة ،، ألا أستحق ذلك ؟! ،،
قلت : الشعر جميل ،، ولكن أجمل منه أن نعيشه ،،
الحزن ،، اللعنة التي تدفن ولا تموت ،،
ويمسي الوجود بلا سر ،،
وتنبعث الحسرات لتخريب كل شئ ،،
الرنين الأجوف لا يصدر عن إناء ممتلئ ،،
لذلك فإن أملي الأخير أن يجود الحب بنشوة دائمة ،،
وسوف تتلاقى الأعين في دهشة مزعجة ،،
فليكترث بذلك غيري ،،
تجلت في نظرتها المستطلعة رغبة ملحة في حل اللغز ،،
شخصية فاتنة حقا ،، مهذبة كأنما خلقت للرأي والحكمة ،،
قوة دافعة لا تعرف التواني ،، ونظرة ثاقبة في استثمار الأمل ،،
أحيت الكائن دفعة واحدة ،، النصر الدائم وسط الهزائم المتلاحقة ،، وهي التي سحقت الشك والخمول والمرارة ،،
وسطعت الجو نفحة زنبقية ،، وفي فترات الصمت تجلت وشوشة الأغصان ،، وتوثبت لطرق باب الهوس ،، ورأيت أنماطا ً غريبة من البشر ،،
فقلت لنفسي كالمعتذر : هذا ما فعل بنا المرض ،،
دعتنا موسيقى المجهول إلى الرقص ،، وهام في وجداني شذاها ،، وحلا الليل ورقت الرطوبة وازدهرت مجامع النفس ،،
هاهي الشمس تتهاوي اليوم للمغيب ،، قرص أحمر كبير امتص المجهول قوته وحيويته الباطشة ،، فرنت إليه الأعين كما ترنو إلى الماء بكل جسارة ،،
وتدفقت حوله كثبان السحب وضاءة الحوافي موردة الأديم في مهرجان من الألوان الماسية ،،
قالت : إني أعرف ذلك ،، ولكنك تهرب ،،
ما أشد استجابة نفسك لـ تهرب ،، كأنها مفتاح سحري يلقى إليك في جب ،،
ولكنني قلت : صدقيني لا شئ يدعوك للقلق ،،
أجل لا شئ غير الضجر ،، كأنما كتب عليك أن تناطح نفسك ،،
خبرني ماذا تريد ؟! ،، ولماذا يخيم الصمت رغم الضجيج ؟! ،، ولم َ يتنبأ شئ في صدرك بمخاوف هوائية ؟! ،، وفي كل لحظة تشعر بأن صلة تتمزق محدثة صوتا مزعجا ،، وأن قائما يتزعزع ،، وقلت لنفسي إننا نتمزق بلا سبب حقيقي ،، وذاك جوهر المأساة ،،
تمام كما يعجبني جو جدة في غضباته النادرة شتاءا ،، عندما تتراكم السحب وتنعقد جبال الغيوم ،، ويمتلئ رواق السماء بلحظة صمت مريب ،، ويدوي عزيف الريح في الآفاق ،، ويجلجل الهدير ويعلو الزبد حتى أعالي الصخور ،، ويجعجع الرعد حاملا ً نشوات فائرة من عالم مجهول ،،
أما العلم لم يبق شيئا ً للفن ،، ستجد في العلم لذة الشعر ونشوة الدين وطموح الفلسفة ،، وربما لم يبق إلا التسلية ،، وسينتهي يوما ً بأن يصير حلية نسائية ،، اقرأ أي كتاب في الفلك أو في الطبيعة أو في أي علم من العلوم ،، وتذكر ما تشاء من المسرحيات أو دواوين الشعر ثم اختبر احساس الخجل الذي سيجتاحك ،،
وهكذا شهد الشاطئ لقاء آدم وحواء ،، ولكن لا يدري أحد من سيخرج من الجنة ،، وأين المهرب من نظرتك الثاقبة ؟! ،،
وما الجدوى من مجادلتك ،، وأنت تعلمين ،،
وهذه النظرة الحالمة ماذا وراءها ؟! ،، ألم تضني علي بحلم رغم الصراحة التي تبارك أحاديثنا ؟! ،، إن تلك التناقضات قد محيت تماما ،،
كلا ،، إنها أزيحت بتناقضات جديدة ،، وسوف تثبت الأيام ،،
لبثت منفعلا ً وهدير أمواج الحياة يتتابع في دفعات مدوية متقطعة راطنا بلغته المجهوله ،، ثم مضى الانفعال يهدأ وينخفض ويبرد حتى انداح في مستنقع من ماء غسل زبد الكآبه ،، فإن الهبوط يذكر بالصعود ،، والضعف بالقوة ،، والعبث بالبراءة ،، واليأس بالأمل ،،